ما الذي يستفزنا مما وقع في سوريا فَنخشاه لنحتاط منه / الدكتور محمد ول الراظي

قلة القلة من العرب تبكي الأسد وأقل القلة من السوريين ستبكيه ولكن غالبية من الناس تخشى أن تستجير سوريا من رمضاء الأسد وأبيه بنار الإحتلال التركي والتآمر الإقليمي وخبائث “بروتوكولات حكماء صهيون” فتضيع الدولة السورية أرضا وشعبا وهوية ودورا، وضياع سوريا ليس أمرا سهلا فهي قلب الشرق ومحفظة مفاتيحه وقد لا تنجو من تداعيات ما يحصل فيها دول عربية وإسلامية أخرى ، فالعالم أصبح قرية واحدة ووسائل التواصل قربت المسافات وأتاحت للعدوى سرعة انتشار تفوق الخيال وتعز على الوصف….

تواجه بلادنا تحديات داخلية تحبو منذ زمن طويل تُبدل جلدها كل مرة وتُبقي على جوهرها وفي كل لبوس جديد تكون أكثر إفصاحا عن مكامن خطورتها ويكون أصحابها أكثر جرأة في التعبير عنها……الدعوات الإنفصالية والإنكفاء نحو الفئة والشريحة والقبيلة والعشيرة ظواهر تنمو وتنتشر كالفطريات في طول البلاد وعرضها وتؤسس لدول وكيانات داخل الوعي الجماعي للناس يُخشى أن تتحول لما هو أخطر من ذلك خاصة حين يكون لهذه التحديات رديف من خارج الحدود له فيها صدى مسموع وربما فعل أو تأثير فيصبح وجودنا في خطر يستدعي عملا سريعا لا يقبل الإنتظار…

بدأ إنتاج الوعي بمفهوم الدولة لدى الإنسان الموريتاني يتراجع منذ العاشر يوليو و تعطل تماما بسبب ديمقراطية “لابول” فأصبحت البلاد عرضة لمخاطر تأتيها من حيث كانت تتوقع الحماية والأمان، من أبنائها وسياسييها ومثقفيها ؛ فمن لا يؤمن بشيئ لا يهتم به ولا يعنيه والدولة لم تعد تعني شيئا لأحد وهذا هو مكمن الداء وهذا هو الخطر الحقيقي……لكن ما علاقة هذا بأحدث سوريا و ما الذي يستفزنا مما حصل في هذا البلد القصي فيخيفنا ؟

حين نعرف الأسباب التي أدت لما حصل بسوريا قد نفهم أسباب تخوفنا وتوجسنا ؛ فقد سقطت الدولة السورية أولا حين اجتمع الأشقاء العرب والجيران من المسلمين فزرعوا نتوءات من الجماعات المسلحة المشحونة بفكر تكفيري إقصائي عدمي في نقاط حدودية متفرقة من البلاد ثم أغدقوا الأموال على هذه الجماعات ثم عمدوا بموازاة ذلك لحصار اقتصادي خانق على الدولة كاد الناس يموتون منه جوعا وأصبح على المواطن السوري أن يختار بين نظام وراثي طائفي بلبوس ثوري وجماعات من مختلف الآفاق لا يجمع بينها سوى استسهال القتل وتكفير المخالف ولا تحمل مشروعا غير أن تزيح النظام من أمام مصالح رعاتها والآمرين بالصرف عليها !!!!

كفة النظام تعني للناس الفقر والجوع والمرض والنزوح والمهاجر وكفة المتمردين تعني للناس وعدا بمستقبل واعد وبرغد عيش يتراءى لهم من وراء ما ينفق رعاتهم الأثرياء عليهم وما هم مظنة له أصلا من ترف ورخاء…

لكل طرف من داعمي التمرد حسابات تخصه عن غيره لكنهم جميعا يجمع بينهم تعارض مصالح كل واحد منهم مع توجهات نظام الأسد في السياسة والإقتصاد وغيره….
اللاعبون الأوائل من الأتراك والقطريين والسعوديين والأمريكيين والإسرائليين هم من أشعل التمرد ورعاه عام 2011 ثم لحق بهم لاعبون آخرون، إيران وروسيا ، لإنقاذ حليفهما النظام القائم فانهزم النظام وانهزم الإيرانيون ولم ينتصر الآخرون وسقطت الدولة……فماهي أوجه الشبه بين الوضع السوري والوضع في منطقتنا ؟
مَن فعلها بسوريا ينشط في كثير من بلاد العالم ويوجد غير بعيد من هنا في المشهد المالي تخصيصا ومنطقة غرب إفريقيا غير مستقرة سياسيا ومعقدة كما هو حال منطقة الشرق الأوسط وفيها من الخيرات ما يسيل اللعاب ويدفع للصراع كما حصل في سوريا وتراهن عليها دول كبرى كما راهنت نفس الدول على سوريا وسوريا عاشت تحت حصار خانق قد يكون من أسباب التداعي السريع للجيش ومالي دولة حبيسة محاصرة نقديا وماليا لهما متنفس تجاري واحد من ميناء نواكشوط لكن خطوط الإمداد بعيدة وحين يعبر المدد داخل الأراضي المالية يمر حتما بالمناطق الساخنة…

لبلادنا حدود طويلة مع مالي ولها تداخل مجتمعي كبير مع سكانه وتواجه بلادنا أيضا أزمات مجتمعية داخلية لها امتدادات إقليمية وبعضها له لواقط ومجسات دولية….
كل اللاعبين في الملف السوري لهم أذرع في الملف المالي بعضها مسلح كما هو حال تركيا وروسيا وأمريكا – اسرائيل وبعضها الآخر غير مسلح كما هو حال القطريين والإماراتيين وبها وجود غير مرئي لفرنسا لكنه نشط وقوي بحكم تغلغلها في المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارية للدولة التي هي من أنشأها وهي من كونت غالبية أطرها المدنية والعسكرية ولها حضور عسكري قوي في جارتها ساحل العاج ……
ثم إن في الجنوب الغربي من بلادنا مشاكل أخرى ما تزال دون درجة الحرب بكثير والحمد لله ولكنها تفوق مرحلة التوتر ولا تنتظر سوى صاعق من هنا أو هناك لتطفو بقوة وتشتعل…..
الصراع بين الثنائي القطري التركي من جهة ودولة الإمارات العربية المتحدة من جهة أخرى صراع صامت لكنه قوي جدا وكلاهما يسابق الآخر في ترسيخ نفوذه في المناطق ذات الصلة بمصالحهما الحيوية والتي يملكون من الأسباب ما يجعلهم يهتمون بها …..

القطريون والأتراك لهم امتدادات سياسية كبيرة جدا وقوية في العالم الإسلامي من خلال جماعات الإسلام السياسي السني النشط ومنذ ما يسمى “الربيع العربي” نشط الثنائي التركي-القطري في دعم هذا التيار العريض أملا أن يصل للسلطة عن طريق صناديق الإقتراع أو يفوز في الإنتخابات النيابية أو المحلية فيمتلك قوة تأثير وتوجيه…….أغدقوا عليه الأموال الطائلة من خلال الجمعيات الخيرية المنتشرة في عموم البلاد ودعموا أنشطته الحزبية بقوة الفتيا وجاهزيتها وسخروا ذراعهم الإعلامية ، قناة الجزيرة ، للترويج له وتشويه خصومه والترويج للدولتين والسكوت عن أي تقصير من أي منهما كما كان الحال يوم اقتصر الفعل التركي إزاء محنة غزة على تهديد إسرائيل بأقسى الألفاظ من جهة وفتح الأسواق التركية أمام بضائعها فكانت الدولة التي حققت معها اسرائيل أكبر فائض في ميزانها التجاري !!!!

أما الإمارات العربية المتحدة فتعتبر جماعات الإسلام السياسي السني عدوها اللدود ولا تقبل أن تغض الطرف عن أي دور لهذه الجماعات في أية منطقة من البلاد الإسلامية تملك فيها الإمارات أوراق نفوذ وتأثير……

لكن الإمارات لا تملك خطابا “سياسيا دينيا” تواجه به الثنائي القطري-التركي وهي من جهة أخرى تجد صعوبة كبيرة في تسويق “الدين الإبراهيمي” حتى في موريتانيا التى ينتمي لها صاحب الفكرة وعراب المشروع ومرجع الإفتاء الحصري فيه……..
أمام هذه الصعوبات تبنت الإمارات العربية المتحدة خطا مغايرا للخط القطري-التركي ، فتوجهت لبناء علاقات قوية برجالات السلطة وسدنتها داخل المؤسسات السياسية والأمنية و القضائية والثقافية وبموازاة ذلك سعت لمواجهة البعد الخيري في نشاط الإسلام السياسي السني من خلال تفعيل أذرع خيرية متعددة عبر الدوائر المجتمعية والجمعوية والأهلية غير السياسية.

تستعد موريتانيا والسنغال لدخول نادي منتجي ومصدري الغاز الطبيعي في العالم وهذه المادة هي المصدر الأساس للوفرة القطرية وكل وافد جديد لسوق إنتاج الغاز وتصديره ستحسب له قطر وتركيا ألف حساب من حيث الحصة من أسواق التصدير بالنسبة للأولى ومن حيث عوائد العبور بالنسبة للثانية خاصة أن موريتانيا والسنغال تقعان على مرمى حجر من أسواق أوروبا ومسالك التموين منهما عبر الأطلسي أكثر أمانا واستدامة من خط أنابيب يعبر منطقة من أكثر المناطق خطورة وتعقيدا في العالم…..

في هذه الحالة سيكون من مصلحة الثنائي القطري-التركي تعزيز وجوده في كل من موريتانيا والسنغال ولن يتردد في زيادة دعمه للمعارضة في الأولى وللحكومة في الثانية.

في المقابل فإن دولة الإمارات العربية المتحدة لن ترضى أن يتسع نفوذ قطر وتركيا في غرب إفريقيا ولن تبخل بتعزيز دعمها لمراكز صنع القرار في موريتانيا ولا يستبعد أن تعمل أيضا على دعم مؤسسات المعارضة في السنغال……
إن الحرب الروسية الغربية تشتعل في كل بقاع العالم ومنطقة غرب إفريقيا من أهم المناطق وأكثرها حيوية بالنسبة للطرفين وخاصة المناطق المطلة على المحيط الأطلسي أكثر المياه الدولية حيوية تجارية على الإطلاق وسيكون على بلادنا أن تتعامل مع صراع قوي بين محور روسي صيني تستفيد منه بلادنا كثيرا ويستفيد منه الإقليم وبين محور غربي تشترك معه بلادنا في الكثير من الروابط التجارية والإقتصادية والتاريخية….

ثم إن الطريق البري قيد الإنجاز بين الجزائر وموريتانيا سيعني وصل المتوسط بالمحيط الأطلسي وهي ميزة كبيرة جدا لن يبخل الغرب جهدا في التشويش عليها وقد تكون عنوانا آخر من عناوين الصراع ليس فقط بين الروس والغرب وإنما أيضا بين دول الإقليم بعضها مع بعض….
إن تدفق المهاجرين واحتضان اللاجئين على الحدود المتداخلة ثقافيا ومجتمعيا وصراع القوى الكبرى والصاعدة على النفوذ في المنطقة ودعوات بعض الأطراف في مالي للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي وجغرافية بلادنا الواسعة ووجود الكثير من أبنائنا داخل التنظيمات “الجهادية” في المنطقة واستعداد اللاعبين للقيام بكل ما من شأنه أن يحقق مصالحهم كل هذا وغيره يستدعي منا أن نفتح العيون ونستفز الطاقات وأن نتهيأ لكل الإحتمالات وأن لا نأمن أخا ولا صديقا وأن لا نَكِل أنفسنا للحياد فالحياد غير المدعم بالقوة غير قابل للتسويق بل مجرد اعتراف بالضعف ومن لا يقدر أن يدافع عن نفسه لن ينفعه إعلان الحياد في أي صراع……
فكيف يمكن أن نحمي أنفسنا من صراع نفوذ بين تركيا وقطر من جهة وبين الإمارات من جهة أخرى داخل الأراضي المالية ؟ وكيف يمكن أن نحتوي صراع وكلائهم داخل البلاد ؟ وكيف نواجه اشتداد سخونة الصراع بين روسيا وتركيا في مالي وبين روسيا والغرب ؟ وكيف نحصن بلدنا من شرور تقترب منا بتسارع كبير ؟

إن أول الدروس التي ينبغي استخلاصها مما وقع في سوريا أن الجوار لا يؤمن أبدا وأن الأخوة شعار فارغ حين يتعارض مع المصالح وأن حرمة الدماء واجب شرعي فقط حين لا يدر منفعة في الدنيا وأشد الأذى عادة ما يكون منشأه الجوار بسبب أو بغير سبب وأن علينا أن لا نهمل أي فاعل دولي ولا نستخف به ، فالعالم اليوم متعدد الأقطاب وتعدد الأقطاب يعني وجود لاعبين دوليين متفاوتي القوة والنفوذ لكن كل واحد منهم يقدر على الإيذاء…
علينا أن نستحضر أن انهيار الدول يبدأ عادة من الأطراف وهذه قاعدة يخبر عنها تاريخ الإمبراطوريات جميعها تقريبا وأية جماعات مسلحة على الحدود مهما كانت جنينية قد تكون خطيرة حين الغفلة عنها.
لمواجهة هذه المخاطر ينبغي للدولة الموريتانية تحصين المؤسسة العسكرية والأمنية من خلال خلق الظروف الحياتية الملائمة من أجور وتأمين صحي وضمان اجتماعي للعناصر وذويهم وأن يشعر الجندي وعنصر الأمن أن له دولة تحميه وأن تضحيته في سبيل بقاء هذه الدولة هي تضحية في سبيل بقائه هو وعائلته وذويه.

ويتوجب على الدولة ثانيا اكتتاب عشرات الآلاف من الشباب في صفوف القوات المسلحة وقوات الأمن واقتناء المعدات الضرورية لمراقبة الحدود والإستثمار في العمل الإستخباراتي في الداخل والخارج كي تتمكن البلاد من رصد أي فعل مشبوه قبل أن يحدث ضررا.

اما الخطوة الثالثة فتكون بمراقبة دقيقة لعمل الخلايا السياسية التي تتخذ من حرمة المساجد درعا تحتمي به لبث خطاباتها وتنظيم صفوفها ثم يتعين على الدولة أن تلزم كل جمعية وكل مؤسسة أهلية بتقديم جرد محاسبي دقيق لمصادرها المالية ولمسالك إنفاق أموالها وتتبع ذلك للتحقق منه……فمن يملك الأموال يملك أسباب القوة وقد يكون مصدر قلق في أية لحظة….

أخيرا يتعين على الدولة سن قانون بإلزامية الخدمة العسكرية بالنسبة لحملة الباكالوريا وإلزامية التربية المدنية في كل مراحل التعليم ….