التعليم مبتدأ كل إصلاح وشرطه / محمد ولد الراظي

حين حصل الإنهيار الكبير للبورصة الأمريكية عام 1929 طلب الرئيس الأمريكي روزفلت منحه مهلة 100 يوم يكون من بعدها الحساب فكانت الصفقة الجديدة “new deal” وكانت البداية لما يعرف بقصة المائة يوم ، عرفا سارت عليه الأنظمة بعد كل تغيير يتلمس خلالها الوافد الجديد طريقه ويضع اللبنات الأولى لركائز عمله وتقديم الحلول للمشاكل التي يعاني منها البلد وكان الوعد بمعالجتها موثقا بينه وبين ناخبيه ….

في السادس عشر من هذا الشهر تنقضي مائة يوم من عمر الحكومة الموريتانية الجديدة في مستهل مأمورية رئيس الجمهورية الأخيرة ، قدم الوزير الأول برنامج السياسة العامة وأقر خلال عرضه بوجود فساد كبير والتزم أمام النواب أنه سيبدأ في محاربته وأن له أملا كبيرا في إصلاحه ووضع مشروع التنمية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية على سكة صحيحة وقوية.
العنوان الأكبر للبرنامج الحكومي هو محاربة الفساد وردع المفسدين وهذا أمر بالغ الأهمية لكن الوقاية من الفساد أهم بكثير من محاربته وأيسر وأي إصلاح لا يجتث ظاهرة الفساد من جذورها لن يدوم طويلا فالوقاية من الفساد هي التي تضمن إصلاحا مستديما لأنه تجفف منابع الفساد وتحول دون إنتاج حاضنة إجتماعية له والتعليم هو مبتدأ الإصلاح حصرا ولا تنمية دونه ولا رفاه والوقاية عمل قاعدي تربوي لا تقوم به غير المدرسة….

يمتاز المشروع التربوي عن غيره أنه لا يواجه ممانعة من أحد فهو يعتني بجيل في طور التكوين لكن المشروع بحاجة لأن يكون المدرس في وضع يمكنه من القيام بدوره على أحسن وجه وأن يعود لسابق عهده يوم كان التعليم قبلة أولى لمن يبحث عن جاه معنوي وعن أسباب العيش الكريم ….

يقدم المدرس أجل خدمة وأسماها وله ميزة تخصه عن غيره أنه ، بحكم طبيعة عمله ، وحده من موظفي الدولة من لا يكون مطلقا مظنة لفساد إداري أو مالي ووحده من لن يسائله مواطن عن فلس من مال عمومي وهو وحده من تعم خدمته الناس جميعا بعدل ، فهو لا يوزع بين الناس غير درس يكال بمكيال واحد لا تطفيف فيه ولا غبن ويستفيد منه الصغير والكبير وأهل البدو وأهل الحضر ويمتاز عن غيره أن حسن أدائه في عمله شرط لنجاح الباقين أطباء ومهندسين وإداريين وسياسيبن وغيرهم ممن يقدم خدمة تحتاج لسند معرفي ومن تتبع مسار الدولة الوطنية يلاحظ أن العلاقة بين أداء المدرس وجودة الخدمة العمومية بصفة عامة علاقة طردية، فقد كان البلد بخير يوم كان المدرس محترما عزيزا مهابا لايجرؤ التلميذ على قطع طريق هو سالكه…..يومها كانت الموارد شحيحة والإمكانات محدودة ولكن موريتانيا كانت كبيرة.

منذ عقود طويلة بدأ قطاعنا التربوي رحلة تدهور متواصل ومتسارع اختلت معها كل الأسس التي تقوم عليها الدولة وأبرز تجليات هذا الخلل الكبير وأسوؤها أن المدرس ، ركن التنمية الركين، يشكو اليوم حاله في البيت ويشكو ظروفه في المدرسة ويقضي الكثير من الوقت يجوب الشوارع ليسمع صوته ومنشغل في ما تبقى من الوقت في تدبير حياة أبنائه وهذا يعني أن القطاع برمته قد حجز موعدا لا يخلفه مع الفشل وفشل التعليم ليس كأي فشل فهو ضامن للفشل الكلي وآثار فشله تستمر طويلا وتجاوزها يحتاج لجهد مضاعف ووقت طويل وموارد ضخمة ……
المدرس عنوان كبير والنظر إليه أنه مجرد عامل له راتب وله دوام فيه قصر نظر مخل؛ فهو مختلف عن غيره من العمال في أمور جوهرية كثيرة ويختلف عن الجميع أنه ينتج الإنسان وغيره ينتج البضائع والخدمات والعمران..
فحين يتوقف غيره من العمال عن عملهم يتعطل الإنتاج فتشح المنتجات في الأسواق فيزداد سعرها وحين تنقرض من المعروض يمكن الإستغناء عنها ويمكن استيرادها من خارج البلاد ويمكن استبدالها بمواد ومنتجات أخرى وحين يعود العمال المضربون لعملهم تعود الحياة لمجاريها ويتم تعويض الخسارة في دورة الإنتاج اللاحقة بسهوله….

ثم إن القطاعات الحيوية الأخرى يمكن معالجة ما قد يحدث فيها من ضرر بسرعة من خلال معالجة أسبابه فإن كان جسر انهد ترصد موارد جديدة وتوكل المهة لمؤسسة مختصة وطنية أو أجنبية تكون تحت الرقابة من مكاتب أكثر مهنية فتعيد بناءه على قواعد صلبة في أفق زمني قليل، ويمكن إعادة بناء منشآت تضررت في موسم الخريف وفق مواصفات حديثة تضمن مقاومتها للسيول والأمطار لاحقا ويمكن إعادة تأهيل مطار أو منشأة عمرانية وتشييد منشآت جديدة بأيادي وطنية أو أجنبية…..

أما المدرس فينتج بضاعة من نوع خاص ويوزعها بطريقة خاصة وهي البضاعة الوحيدة التي يزداد مخزونها كلما زاد استهلاكها وتزداد جودتها ويزداد نصيب الفرد منها كلما توزعت بين الناس وهي الوحيدة التي لا بدائل عنها في الداخل وليس من الوارد ولا من الممكن جلبها من الخارج وحين يتوقف المدرس عن العمل لا يتوقف إنتاج بضاعة فحسب وإنما يتوقف إنتاج الإنسان الصالح الواعي ، إنسان التنمية المجتمعية في كل أبعادها وتدارك التحصيل المعرفي أمر غير يسير…..فأول الإصلاح أن يكون التعليم بخير. ….فكيف يكون التعليم بخير ؟

قد يتعافى التعليم حين ترصد أموال كافية للتكوين والإكتتاب بأعداد تكفي لكي لا يكون اكتظاظ في الفصول وتشييد البنى التحتية الكافية وتعميمها وتجهيزها بالمختبرات والوسائل التعليمية وتزويدها بالكتاب المدرسي وبالكفالات المدرسية وتوظيف المعلوماتية في خدمة العملية التربوية وتعميمعا ورصد جوائز سنوية للمتفوقين من كل فصل ومن كل مادة كما كان قائما أيام زمن التعليم الجميل والعودة لتوزيع منح نقدية للتلاميذ وزيادة ضارب التربية المدنية منذ الفصل الأول من الإبتدائي فالتربية المدنية هي التي تربط الإنسان بالأرض وبالناس فيشعر أن له دورا في تطوير بلده وواجبا في عدم التعدي على موارده.

ثم يتعين مراقبة المؤسسات التعليمية وحمايتها وحماية المدرس وتنظيم حلقات تفاعلية بين طواقم الإدارة وروابط آباء التلاميذ وتتبع ما يُتحصل عليه من معلومات و اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة ما قد يحصل من اختلالات ورصد جوائز كبيرة للمتفوففين في شهادة ختم الدروس الإبتدائية وشهادة الإعدادية والباكالوريا ومنح جوائز كبيرة للطواقم التربوية التي ساهمت في فوز الفائزين .

لكن الخطوة الأولى تبدأ بمنح المدرس ما يحتاجه من وسائل تمكنه من تأدية واجبه النبيل وأول هذه الوسائل راتب يكفيه وتأمين اجتماعي وصحي له ولذويه ومسكن لائق يناسب مقامه…..

هذه نقطة البداية وتصحيح البدايات شرط للنهايات والتعليم مبتدا كل إصلاح وشرطه.