لماذا فشل مشروعنا السياسي ؟!!! / د. محمد ولد الراظي عضو قيادة حزب الإصلاح
يذهب بعض المفكرين إلي القول بأن السياسة علم ويري البعض الآخر بأنها مجرد فن للوصول للحكم أو المحافظة عليه وثالث يراها تجمع بين العلوم والفنون…. فهي علم حين يكون الحديث عن تجارب الحكم فتكون السياسة أمام امتحان التجربة العلمية وهي فن في بعدها الآخر من حيث تسويق الرأي والمشروع وتحفيز العواطف وبناء الثقة مع الناس…..وتحتاج السياسة في كلتي الحالتين إلي وعي كبير و حرية تعبير بدون إكراه معيق…
المشروع المجتمعي يحتاج لكثير من الوقت غير الضائع ولا يستقيم مع الإرتجال وقاطرته هي الإنسان ولكن ليس أي إنسان….. إنما ذلك الإنسان الواعي بدوره وبأهدافه و له استراتيجية واضحة المعالم وتكتيكات تتغير بتغير إحداثيات اللحظة والمكان ….ومن أولي الأوليات أن يسعي لتحرير المواطن من أكبر قدر ممكن من نير الإكراه لتحرير تعبيره واختياره…ويبقي حق الحياة أسمي من كل الحقوق بل من دونه لا معني لحق تعبير ولا إمكانية لحق اختيار ….
يطالب البعض باستنساخ النموذج الغربي في ديمقراطيته الفاحشة رغم تآكلها المتنامي وعزوف الناس عن المشاركة فيها ويطالب آخر بنموذج اشتراكي لم يصمد كثيرا بفعل إهماله لدور الإنسان في بعده الذاتي ومحددات فعله وميوله ويقول ثالث بديمقراطية اجتماعية تزاوج بين الإثنين وعلي هذا استقرت الكثير من الآراء…ولكن يبدو أن سياسيي ما بعد 91 عندنا يقدمون نموذجهم السٌِرْكي الخاص حيث يتناسخ السياسي من نفسه مرات ومرات كلما حس بحاجة لذلك فيحشد الحشود لتقديم فورات بهلوانية لتسويق الشيئ ونقيضه وخلطات سريعة الذوبان أقرب ما تكون لجنون جماعي يحدث من خيبة الأمل واليأس أكثر من أي شيئ آخر…..فلماذا تراجعت شحنة الأخلاق في البنية التركيبية للعقل السياسي الموريتاني بعد نظام التعددية ؟ وكيف ولماذا فشل مشروعنا المجتمعي ؟
منذ يوليو 78 تعاقبت علي حكم البلاد لجان عسكرية كان أولها “للإنقاذ” وثانيها وآخرها “للخلاص” وما كان للأسف هناك إنقاذ و لم يكن هناك خلاص… وتصطبغ كل لجنة عسكرية بزركشات متنافرة ترسمها أسماء متغيرة لقادة الإنقلابات الناعمة داخلها وتموقعات متحورة لأعوان القادة المنتصرين في تعاقبهم الخشن علي دفة حكم لا يدركون من معانيه إلا ماكان من إحكام القبضة علي الموارد والناس……أوقفوا حرب الصحراء وانسلخوا من الإقليم لصالح الجار الشقيق دون دراسة ولا فراسة ولكنهم أوقفوا أيضا مشروع بناء دولة كان يتحرك رغم الإكراهات الجمة والمعيقات الكبيرة في الداخل و المخاطر القادمة من بعيد و تلك التي تغلي في الإقليم…..وترهلت الأركان الضابطة لبناء الدولة……
لم يعد هناك من يسأل عن رأي يأخذه أو يستأنس به أو يرفضه فالقادة الجدد لا يهمهم الرأي كثيرا لأنهم “ليسوا بحاجة له” !!!….. فلا برامج ولا خطط ولا مشاريع…..إنهم يرون بأعين أخري.
ولكن هذه التجربة علي مرارتها وقسوتها شهدت بعض الحسنات – عن غير قصد بلا شك- إذ كان خنق الحريات سببا في تنامي وانتشار العمل السياسي السري.
والسياسة حين لا تمكن إلا سرا لن ينخرط فيها إلا الذين يؤمنون بشيئ ولن يستمر فيها إلا الذين يسعون لهدف يستحق منهم التضحية ولهم مشروع ولهم أمل……لا مكان للتزلف ولا مكان للمحاباة في الساحات الملغومة …
كانت التنظيمات السرية قوة سياسية خفية لا تدرك الأنظمة حجمها ولا سعة انتشارها ولكنها تخشاها ولا تدري متي يكون مكرها …..تتحالف مع بعضها لتأمن مكره وتتصارع مع البعض الآخر إن لم يقبل بالمهادنة وظل جميع السياسيين في تصالح مع قناعاتهم…..يخطئون ويصيبون ولكنهم في أغلبيتهم الساحقة يغُلٌُون أيديهم عن المال العام وعن الممتلكات العمومية وقليلا ما تلبس أحدهم بشبهة خيانة أو بسلوك مخل بالمبادئ أو خادش للمروءة…..
أما حين بدأ ما يعرف بالمسلسل الديمقراطي فقد تغيرت أطراف المشهد فاستبدلت أنظمة عسكرية تأتي بالقوة وتحكم بها بأنظمة مدنية “متعسكرة” تستجدي القبول الشعبي في الإستعراضات ويوم الإقتراع ……تواري السياسيون بعيدا وتواري معهم الفكر و السياسة والثقافة والكياسة والعقل أمام غزوة قوية ممن يخلقون الرأي ويحشدون أيام الحشر بعناوين العشيرة والفئة والفصيل والمال والدين……
تغيرت اللعبة فتغير اللاعبون وتراجع الهم الوطني لصالح المصالح الأنانية الضيقة وبهذا التراجع تراجعت فرص إرساء نظام حكامة وطنية من شأنها إلحاق البلاد بركب التطور والنماء.
أصبح الحاكم بحاجة لمن يستقبله في الحواضر ومرابع العشيرة بالحشود والهتاف والزغاريد وبحاجة لمن يتحدث عنه وباسمه ويصور أخطاءه نبوءات وخطاياه رحمات تتنزل من السماء….. مهمة لا يصلح لها أهل المبادئ ولا هم قادرون عليها !!!! في مقابل هذه الخدمات يلزم الحاكم أن يدفع لهؤلاء من الخزينة وأن يهبهم حرية التصرف بالمؤسسات العمومية ويمكنهم من استدرار المنافع الشخصية من المشاريع ذات النفع العام……فأصبح يعطي لهذا إدارة ويهب ذاك مشروعا و يعفي آخر من حق معلوم للخزينة…..
تراجع الكثير من نساك الساسة أمام هجمة رجال العهد الجديد من أصحاب الجاه والنفوذ وقادة الحي والعشير…..ضاع الفكر وانحرفت السياسة عن مسارها وأصبح العمل السياسي نشاطا ربحيا لصالح الأنظمة الفاسدة وأباطرة النهب علي حساب حاضر البلاد ومستقبلها..
صحيح أن الإنسان مجبول بحب الجاه والسلطان والمال محدد من محددات الجاه والسلطان منذ خلق الله الخلق ولم تقع حرب في التاريخ إلا علي خلفية اقتصادية ونفعية مباشرة أو غير مباشرة لكن حب المال لا يعني استحصاله بأي طريقة……إذ نفس الإنسان حباه الله عن سائر مخلوقاته بالأخلاق وقيم الفضيلة…..
ما يميز الحالة الموريتانية في علاقة السياسة بالمال والسلطة أن الناس قبل العسكر كانوا أكثر حياء والسلطة تعتبر موارد الدولة أمانة ولا تصرف إلا قانون لا خيار في التصرف فيه إن كانت رغبة في ذلك (ولم تكن)…..والمجتمع لا يحتضن الرذيلة والكسب الحرام رذيلة……أما بعد عسكرة الحكم انقلب الوضع في إحداثياته كلها فأصبح كسب المال غاية والعبث بالموارد العمومية شريعة حكم والأمانة طارت بها عنقاء مغرب……
إن من يلقي نظرة علي الأحياء الراقية في نواكشوط ويستفسر عن ملاك القصور بها سيفاجأ أن أغلبيتها الساحقة تعود لوكلاء الدولة الذين لا يحصلون من الخزينة إلا علي حد الكفاف ويعرف إن هو تتبع مساراتهم أنهم هم الذين يتصدرون المشهد منذ عقود….وسيدرك أن تلك القصور وضعت لبناتها الأولي مع استيلاء العسكر علي السلطة….
ولكن يبقي للحاضنة المجتمعية الدور الأكبر في إنتاج الفساد وحماية المفسدين وانتشار ثقافة النهب والرشوة……إذ أصبحت قيمة المرء تقاس بحجم ثروته ولا يهم إن كان مصدرها كسب حلال أم حرام………نحن بحاجة لثورة ثقافية شاملة.