التنوع القومي.. وآفاق العيش المشترك في موريتانيا (8) / الدكتور محمد ولد السالك ولد ابراهيم الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في حزب الإصلاح


لم تتوقف ديناميكيات التهجين القومي عند هذا المستوى الذي سبق ذكره.. وها هو القائد المرابطي الأسطوري “أبو بكر بن عمر”، سليل قبيلة صنهاجة، هذه المجموعة البربرية الكبيرة، التي منحت اسمها لنهر صنهاجة، قبل أن يحرف المستكشفون البرتغاليون في القرن الخامس عشر، نطق الكلمة لتصبح “سينغال”، وقد تزوج “أبو بكر بن عمر”، من إمرأة من زوايا “هالبولار” بمنطقة “فووتا”، تدعى “فاطيماتا صال” التي أنجبت له ولدا يسمى “أمادو بوبكر”، أصبح فيما بعد “آنجادجيان اندجياي”، الجد الأقصى المفترض لمجتمع “الولوف” في منطقة النهر.

لقد أسس “أمادو بوبكر”، ثلاثا من أهم الممالك السوداء التي قامت في وادي نهر السنغال، كانت أولاها مملكة “والو” Waalo، ثم مملكة “كايور” Kayor وأخيرا مملكة “دجيولوف” Djolof. بعد ذلك، دفع هذا الأمير الخلاسي “الصنهاجي-الهالبولاري” ضريبة التخلي عن اسمه الحقيقي “أمادو بوبكر” الذي اختفى في وقت لاحق من التاريخ، لصالح لقبه الجديد “آنجادجيان اندجياي”، “Ndiay Ndiadiane”، واضعا بذلك أساسا لمجتمع جديد هو القومية “الولفية”، التي ستنتشر على ضفتي النهر بين السنغال وموريتانيا.

لقد تعززت كثيرا علاقات التحالف والإندماج عبر استمرار وتطور ديناميكية العلاقات الزواجية والشبكات القرابية، بين مختلف الإمارات من كلا المجموعتين البيضاء والسوداء، خاصة في زمن الممالك، والإمارات والسلطنات، سواء منها تلك التي أقامها “المورييون البيظان” مثل “الترارزة”، و”البراكنة”، و”أولاد أمبارك”، و”إدوعيش”، أو تلك التي أقامتها المجتمعات السوداء مثل “أسوانك”، و”الفولان”، و”الهالبولار”، و”الولوف”، و”بامبارا”، منذ القرن الثامن إلى القرن التاسع عشر الميلادي.

فنجد مثلا، بعد انقلاب الأمير “سيدي اعلي ولد أحمدو”، على الفرع الأميري في البراكنة “أولاد نغماش”، وانتصاره عليهم وعلى حلفائهم “أولاد أحمد” في وقعة “الخَيْرْفِيهْ” الحاسمة، موطدا بذلك الإمارة في فرع “أولاد السيد”، بأن زعامة الفرع الأميري الجديد قد تحالفت مع جماعة “فووتا تورو”، في حين أن زعامة الفرع الأميري لـ “أولاد أحمد” قد اختارت الإعتماد على جماعة “هاليبه” الهالبولارية. بينما اختار الفرع الأميري لـ “أولاد نغماش” التحالف مع جماعة “لاوا”، حيث يرتبطون هناك بالدم مع عائلة “وان” وعلى رأسها “إبرا المامي”، الذي يعتبر مؤيدا كبيرا وممارسا فعليا لآليات التحالفات الزواجية بحسب المصادر.

وفي نفس الوقت نجد الفرع الأميري لـ “أولاد أعلي” يتفاعل مع الجماعات الهالبولارية في أقاليم “يرلابيYirlaabe” /”هبيابي “Hebbiyaabe ، و”بوصيابي” Booseyabe و”انكنار” Ngeenar، حيث قام تحالف قوي بين عائلة “أهل هيبه” من الفرع الأميري لـ “أولاد أعلي” مع “بوكار كان” Bokar Kane، زعيم الجماعة في “بوصيابي” Booseyabe ، ضد الجماعة التي في “يرلابي” Yirlaabe والتي كانت بزعامة “مامادو سيلاي أعمر آنن”.

كما اكتست التحالفات الزواجية صبغة دينية في منطقة “فووتا”، حيث يكثر ارتباط التلاميذ بزيجات مع عائلات أساتذتهم وأشياخهم، مثل زواج “اتيرنو سليمان بال”، وهو الذي درس العلوم الشرعية عند زوايا منطقة “الكبله”، وتأثر كثيرا بالإمام “ناصر الدين” وحركته الإصلاحية، وكان رائدا لحركة الأئمة الإصلاحية أو الثورة الإسلامية حسب التصنيفات، في منطقة “فووتا” سنة 1776م، بإمرأة من “الموريين البيظان”. وقد أنجبت له ولده “الطالب بوبكر”، الذي أصبح فيما بعد والدا للسيدة “اخديجتن”، التي ستصبح والدة “الشيخ محمد فاضل ولد مامينا” (1797-1867م)، وهو بدوره سيكون أبا لعشرات الأبناء ما شاء الله، الذين من بينهم “الشيخ ماء العينين” (1831-1910م) ، الذي رحل إلى الشمال الموريتاني قبل أن يستقر نهائيا في “السمارة” بجنوب المغرب، وأخوه “الشيخ سعد بوه” (1848-1917م)، الذي استقر بالناحية الغربية من البلاد، وكان كثير التردد على أتباعه من الطائفة القادرية في السنغال، وهما اللذان سيصبحان أسلافا لعائلات كبيرة في مجموعة “الموريين البيظان”.

وهناك أمثلة أخرى على هذه الديناميكية، مثل زواج القاضي “أحمدو مختار ساخو” من أهالي مدينة “دبانكو” أو “بوغي” مع امرأتين من “الموريين البيظان”، إحداهما من قبيلة “أولاد أبييري”، والأخرى من قبيلة “إداب لحسن”، وقد أنجبتا له أبنته “منينه ساخو”، وولديه “محمد الأمين ساخو” و”عبد الرحيم ساخو”. وفي المقابل، يأتي زواج أمير الترارزة “محمد الحبيب”، سنة 1833 من “ادجمبت أمبودج”، ملكة إقليم “والو”، حيث زرقا ولدا اشتهر بلقب “إعلي ادجمبت”، وقد تمتع، عندما صار أميرا، بنفوذ واسع في كلا الإمارتين على ضفتي النهر.