التنوع القومي.. وآفاق العيش المشترك في موريتانيا (6) / الدكتور محمد ولد السالك ولد ابراهيم الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في حزب الإصلاح


… أما في القرن الخامس عشر الميلادي، فقد بدأت قبائل عربية من بني “معقل” تتوغل ببطء داخل المجال الموريتاني، قادمة من الشمال عبر جنوب المغرب، كان أبرزها بنو “حسان” وذراريهم، الذين أنشئوا إمارات وسلطنات عرفت قدرا من الاستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي قبل بداية الغزو الإستعماري الفرنسي للبلاد.

وفي ما عدا هذه الهجرات الكبرى، وصلت إلى البلاد، في حقب مختلفة من تاريخ تطورها الاجتماعي والثقافي الطويل، مجموعات وآحاد متعددون من أقوام مختلفة: أرمن، كنعانيون، أقباط، يهود، يونان، رومان، إفرنج، زنج (من زنجبار)، عرب، بربر، إلخ. وقد اندمج الكثير منهم في النسيج الاجتماعي للمجموعات السكانية المختلفة في البلاد.

ورغم التعقيدات الموضوعية لظروف التساكن والتعايش بين كل هؤلاء الأقوام ذوي الألوان المختلفة، والأصول والديانات واللغات المتعددة، فقد تراوحت ديناميكيات التعاطي المتبادل فيما بين هذه المجموعات من محاولات بعضها بسط هيمنته على البعض الآخر من خلال أعمال العنف والحروب، ومقاومة تلك المحاولات، وصولا إلى اندماج البعض، واستيعابه من طرف البعض الآخر، مرورا بإقامة تحالفات سياسية، عسكرية ودينية من خلال العلاقات الزواجية والمصاهرة المتبادلة.

وبشكل عام، أفضت ديناميكيات التعاطي المتبادل عبر التاريخ، إلى تحقيق مستوى كبير من التعايش بين مختلف المجموعات السكانية والاستقرار داخل المجال الموريتاني. لكن بطبيعة الحال، كان ذلك الاستقرار والتعايش وفق معايير تلك الفترات التاريخية السحيقة، وليس بمعايير اليوم.

وقد تجسد التعايش عبر القرون، في منطقة الساحل والصحراء الموريتانية، بين كل من الشعوب الأمازيغية والزنجية-الإفريقية، والعربية، من خلال تمازج اجتماعي وثقافي عميق، حصل على نطاق واسع فيما بين تلك المجتمعات المختلفة، وعلى كافة المستويات.

وعلى سبيل المثال، أدى ذلك التمازج من الناحية القومية واللغوية، إلى ظهور مجموعة اجتماعية هي “ماسينا” “Macena” جمعت بين “أسوانك” السود” والبربر” البيض، حيث كانت لهجة “آزير” “Azeriya” هي اللغة السائدة للتفاهم داخل تلك المجموعة؛ كما نتج عن ذلك التمازج أيضا، ظهور المجموعة الإجتماعية الحالية المعروفة بـ “الموريين البيظان”، من خلال التمازج بين القبائل البربرية الصنهاجية، والقبائل العربية المعقلية الوافدة من بني “حسان”، لتصبح اللهجة “الحسانية” وسيلة التفاهم بين أفراد هذه المجموعة.

لكن -كما أسلفت- لم تكن ظروف وشروط ذلك التعايش، من النواحي السياسية والمجتمعة، والتشريعية والمؤسسية- رغم ما فيها من إيجابيات لا تنكر- تلبي دوما مطالب الحق والعدل والإنصاف في التعامل مع جميع المجموعات السكانية، سواء فيما بين الأفراد داخل كل مجموعة على حدة، أو بالنسبة لتعاطي المجوعات فيما بينها. كما لم تكن ظروف وشروط ذلك التعايش القديم لتحول دون ممارسة أقسى أنواع التمييز والتهميش، والظلم الاجتماعي، والقهر ضد الأفراد والجماعات داخل نطاق بعض المجموعات السكانية، وكذلك فيما بين بعضها البعض.

وقد نتج عن تلك الوضعية، قيام “عقد اجتماعي” يكرس نظاما مجتمعيا يقوم على أساس تراتبية مجحفة، لا شك أنها كانت جزء من النظام السائد آنذاك على مستوى المعمورة، حيث ترجع تلك الممارسات لحقب ما قبل التاريخ، منذ الحضارات المصرية والبابلية القديمة، وغيرها.

وبالفعل فقد كرست شروط نمط التعايش الاجتماعي القديم، الذي كان سائدا في هذه البلاد، ممارسات مجتمعية اتسمت بالتهميش والإقصاء والظلم والقهر، كآليات قارة للفرز الإجتماعي. ولعل أبشع صور تلك الهيمنة وذلك القهر قد تجسدت من خلال ممارسة الإسترقاق من طرف البعض ضد البعض الآخر، حيث كثرت أعداد الضحايا داخل مختلف المجموعات السكانية الكبرى بكل أقوامها، وألوانها، وأديانها، دون استثناء.

ولئن ظلت بشاعة ممارسة العبودية في بعض المجموعات الموريتانية غير ظاهرة تماما للعيان، بسبب التشابه في لون البشرة في بين العبيد والأسياد، فإن فظاعتها لم تكن تقل عن نظيرتها داخل مجتمع “الموريين البيظان”، رغم تقارب لون البشرة فيما بين العبيد والأسياد في هذه المجموعة.

وفي هذا السياق، مثلت قبائل “إثگرن”، و”إيزگارن” و “إيرناكن”، وربما غيرها، رافدا أساسيا للاستعباد، الذي مارسته بعض الأقوام الأوائل من ذوي البشرة البيضاء، ضد الكثير من أفراد تلك القبائل منذ البداية، قبل أن تعمق وتطور المجموعات “الصنهاجية” الوافدة ممارسة الاسترقاق، من خلال تعريض الضحايا لصنوف مختلفة من فرض التبعية والاستغلال القسري لصالح الإقطاعيات الفكرية والدينية، قبل أن تأخذ مأساة الاسترقاق أبعادا أكثر وحشية ومأساوية، مع مجيء القبائل العربية وإقامة الإمارات، ليتسع نطاق السيطرة والاستعباد، وتزداد أساليبهما ضراوة ووحشية، كما تضاعفت أعمال السخرة حسب متطلبات الأرستقراطيات الأميرية الجديدة، بدء من رعي المواشي وسقيها، إلى أشغال الزراعة والقطف والحصاد، ومختلف الأعمال الشاقة الأخرى، مثل حفر الآبار وإقامة السواقي للري، وحمل الأثقال، وغير ذلك من الأعمال المنزلية.

ولا شك بأن تعاظم واستفحال ممارسة الإسترقاق داخل مختلف المجموعات الموريتانية بكل ألوانها، كان جزء من منظومة أكبر، درسها بشكل دقيق، وكشف بشاعتها الباحث الجزائري-الفرنسي مالك شبل، رحمه الله في كتابه “الاسترقاق في أرض الإسلام” الصادر سنة 2007 في باريس؛ لكن التطور الدراماتيكي لممارسة الإسترقاق لم يكن أبدا بمعزل عن الأدوار التي لعبتها أوروبا آنذاك، التي كانت أساطيل سفنها أكبر مشجع ومسهل لتجارة العبيد، وجلبهم نحو القارتين الأوروبية والأمريكية انطلاقا من الساحل الإفريقي، وإن لم يقتصر ضحايا تجارة الرقيق تلك، على ذوي البشرة السوداء ضمن مختلف المجموعات السكانية السوداء، بل طالت أيضا ولفترة معينة، بعض الفئات من ذوي البشرة الفاتحة، التي تعرضت للاسترقاق من طرف التجار البرتغاليين الذين غزوا الشواطئ الموريتانية.

لقد أدت ممارسة العبودية، خاصة داخل البنية العميقة لمجتمع “الموريين البيظان”، إلى حدوث إختلالات جوهرية في مسار تطور مجتمعي غير متكافئ، حتى وإن لم تظهر انعكاساتها السلبية بشكل واضح، إلا بعد قيام الدولة الوطنية الحديثة، خاصة بعد نيل الإستقلال، وما كان يتطلبه بناء دولة ومجتمع حديثين على أسس عصرية تضمن حقوق المواطنة، والمساواة، وتكريس العدالة والإنصاف لجميع المواطنين، وتحشد الطاقات لبناء مصادر بشرية ذات كفاءة، قادرة على النهوض بأعباء الدولة العصرية على كافة المستويات.

ولعل صدى مأساة الإسترقاق في المجتمع الموريتاني، قد ظل موجودا في التقاليد المروية “للموريين البيظان” حتى اليوم، حيث أصبحت كلمات “آزگر” و”آرنيك”، ذات الشحنة السالبة، تطلق على العبد الذي تعود أصوله إلى “إثگرن”، و”إيزگارن” و”إيرناكن”، رغم أن تلك القبائل الأمازيغية، قد مرت بعد مجيئها إلى موريتانيا، بسلسلة من عمليات التهجين المختلفة، من خلال التزاوج المتبادل مع ذوي البشرة الفاتحة القادمين من الشمال، وكذلك مع المجموعات السكانية السوداء في شمال ووسط وجنوب البلاد، كما يفترض بأن الكثير من أفراد تلك القبائل قد بقي حرا طليقا منذ زمن قديم، واستطاع الاندماج في نسيج التشكيلات المجتمعية التقليدية “للموريين البيظان” .