التنوع القومي.. وآفاق العيش المشترك في موريتانيا (7) / الدكتور محمد ولد السالك ولد ابراهيم الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في حزب الإصلاح


لقد أقام “المورييون البيظان”، وهم مزيج من نسل السكان الأصليين، أي القبائل البدوية البربرية بشقيها الأسود والأبيض، التي ظلت تعيش في الصحراء، والقبائل العربية من بني حسان، التي وفدت إلى البلاد منذ القرن الـ15، علاقات متنوعة مع المجتمعات ذات البشرة السوداء المجاورة لهم في جنوب البلاد. وقد ارتكزت تلك العلاقات بعد الفتح الإسلامي خاصة، على أسس دينية، وثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية، كان قوامها نشر تعاليم الدين الإسلامي، والثقافة العربية، ورعاية المصالح والنفوذ، والتبادل التجاري لأنواع المحاصيل الزراعية المنتجة في مناطق وادي النهر، مع مختلف المنتجات التي كان يروجها “المورييون البيظان” مثل التمور، والشعير، والصمغ العربي، والملح، وغيرها.

وقد نتج عن ديناميكيات الإستيعاب المتبادل لدى كل من المجموعات السكانية المختلفة، خاصة من خلال آليات العلاقات الزواجية المتبادلة فيما بينها، مستوى كبير من الاندماج المجتمعي وخلق شبكات قرابية بينية جديدة، تجسدت في تسارع ظاهرة التهجين الخلاسي بين مختلف المجموعات، بغض النظر عن أصولها وألوان بشراتها، واتساع دائرتها على مدى أجيال عديدة، فضلا عن تطور الشبكات القرابية في اتجاه تكريس الأصول المتبادلة سواء داخل المجموعات أو فيما بينها.

ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة، فوفقا للتقاليد المروية في مجتمع “أسوانك”، فقدت هذه المجموعة الكثير من العائلات التي استقرت في منطقة “فووتا” بعد أن ذابت في كتلة السكان الفولان/الهالبولارن، مثل عائلات “توري”، و”ساخو” و”بارو”، و”غاساما”، و”كامارا”، “ويال”، و”باتيلي”، و”كيبي”، و”سوماري”، و”كوريرا” ، حيث دفعت جميع تلك العائلات ضريبة العيش في ظل الغالبية السكانية الوازنة، وفقدت لهجتها الأصلية لصالح “البولارية”.

وقد بلغ تطور الشبكات القرابية- حسب بعض المؤرخين والنسابة- حد تكريس الأصول القومية المتبادلة لبعض المجموعات، مثل وجود بعض القبائل من “الموريين-البيظان” ذات أصول “سونينكية” أو “فولانية”، وفي المقابل، وجود عائلات من أصول عربية، وبل وحتى من بعض الأشراف مثل “بني صالح”، الذين ينتسبون لذرية الشريف “عبد الله الكامل” من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث يعتبر حفيده الشريف عبد الله “خان” -الذي قد يكون أخواله الزنوج قد حرفوا نطق اسمه إلى “كان”- وهو من تنسب إليه مدينة “كومبي صالح”، التي سبق أن كانت عاصمة لمملكة “غانا”، خاصة، بعد أن آلت أمور الحكم فيها إلى تلك السلالة من أصول عربية، الذين هم “بنو صالح”، ومنهم أيضا عائلات “إليمان دامت”، و”إليمان دجيكو” التي اندمجت نهائيا في مجتمع “الهالبولار” Halpullar في منطقة “انتيكان” وفي مناطق أخرى على ضفتي النهر.

وفي الوقت الذي تشير فيه المصادر إلى اندماج كلي لبعض العائلات من أصول عربية داخل مجتمع “الهالبولار” Halpullar، فإن الكثير من العائلات المشهورة من هذا المجتمع “الهالبولاري” تعتبر نفسها ذات أصول عربية، مثل عائلة “لي”، التي تعتبر نفسها أحفادا لرجل عربي يدعى “فضل الله”، وعائلة “توري” التي تنتسب لـ “محمد حبيب الله”، وعائلة “كان” التي تنتسب إلى “محمد المسلم”؛ أما عائلات “با” و”باري”، و”ديالو”، فإنها تنتسب إلى رجل عربي يدعى “إبراهيم مالك المديني”، وكذلك عائلة “سي” التي تنتسب لـ “آل الشريف بوبزوله”؛ أما بعض العائلات الأخرى مثل “أهل مدين الله “MoodiNalla، التي تنتسب إلى شرفاء “كومبي صالح”، فإنها تتميز بازدواجية انتسابها إلى كل من المجموعتين القوميتين معا، حيث يبدو أن تلك العائلة العربية قد اندمجت في مجتمع “الهالبولار “Halpullar لفترة طويلة من الزمن، قبل أن تعود بعض الأسر منها إلى مجموعة “الموريين البيظان”، مثل “موديات”، لكن مع المحافظة على انتمائهم الثقافي المزدوج والاعتزاز به كثيرا.

أما غالبية أسرة “مودين الله “MoodiNalla فقد بقيت ضمن العائلات “الهالبولارية” الكبيرة في منطقة “فووتا” في وادي نهر السنغال. حيث تعرف بـ “مودين الله كوبي”، كما يطلق عليها باللهجة “البولارية”، وهي أسرة من فئة “الزوايا” أو الطبقة العالمة بأمور الدين تعيش أساسا في مناطق “داو” و”دولول” في “الفوتا”، وكذلك في بعض قرى وبلدات “كيديماغا” مثل “كالينيورو”، و”السلكه الدخنه”، و”ولد ينج”، لكنها كانت عائلة شديدة الاختلاط مع مختلف قبائل “الموريين-البيظان “التي تعيش في محيطها، بل وفي مناطق أخرى أبعد من ذلك.

كانت عادات التزاوج بين هذه العائلة و”الموريين-البيظان “متطورة للغاية، وكان التشابه حتى في الشكل الفيزيولوجي والمورفولوجي للأفراد بين المجموعتين القوميتين مذهلا للغاية. وكانت العلاقات بينهما أخوية وحميمة، إلى درجة أن بعضها كان مربكا للآخرين. فقد كانت بعض مجموعات “الهالبولار” تعتبر بأن أهل “مودين الله” هم جزء لا يتجزأ من “الموريين-البيظان”، بينما كانت بعض القبائل الكبرى من “الموريين-البيظان”، تفاخر بالأصول “الهالبولارية” لبعض فروعها، التي تعود إلى أهل “مودين الله”.

وقد مكنت الروابط التاريخية المتينة بين أهل “مودين الله” والكثير من قبائل “الموريين-البيظان”، من لعب هذه العائلة دور الشريك المتميز بالنسبة لجميع الأطراف المجتمعية، والوسيط المحنك للمصالحة بين المجموعات القومية المختلفة في البلاد، في حالات نشوب الخصومة والنزاع. وكان بعض “الهالبولار” يطلقون على أهل “مودين الله” لقب “المرابطين البيض”، في مقابل فئة “زوايا الهالبولار” أو”التوروبي” الذين كانوا يميزونهم بـ”المرابطين السود”.