التنوع القومي.. وآفاق العيش المشترك في موريتانيا (5) / الدكتور محمد ولد السالك ولد ابراهيم الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في حزب الإصلاح
تعتبر مجموعة “كنكارة”، Djangara، أو”أسوانك”Aswanik، أو “سرغل”،Sarakolé من أقدم التجمعات السكانية التي استوطنت البلاد في وقت مبكر، كما تشير التقاليد الشفوية في “آدرار” الموريتاني إلى تواجدها القديم في المنطقة، من خلال تسمية المقابر القديمة التي تعرف محليا بـ “رياظ لكور”، إضافة إلى بعض المنحوتات الحجرية وبقايا الأواني الفخارية التي تعرف كذلك بـ “قدور لكور”.
وترجع الأصول البعيدة لتلك المجموعة إلى سكان اليمن القديم، مرورا بإقامة طويلة في مصر الفرعونية. وربما اشتقت كلمة “أسوانك” من مدينة “أسوان”، التي ولد فيها “ادجينكا يمانينكى”، Dinga Yamaninké الذي هو الجد الأقصى المفترض للمجموعة، قبل أن تهاجر إلى منطقة الساحل والصحراء، وتؤسس مملكة “واكادو” على تخوم مالي الحالية، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة من الآن، ثم تؤسس بعد ذلك مملكة “غانا” الشهيرة. وربما تشي الدلالة اللغوية لكلمة Sarakholé أو “سرغل”، التي تعني حرفيا “الرجل الأبيض”، بالكثير حول الأصول القومية البعيدة لتلك المجموعة.
وقد وصلت إلى موريتانيا، بعدة قرون قبل الميلاد، مجموعات فينيقية، ويونانية وقرطاجية، يفترض بأن جاليات منها قد استوطنت في مناطق مختلفة من البلاد، بعد رحلة الملك القرطاجي “حانون” التي عبر فيها البلاد، باحثا عن الذهب والملح في بلاد السودان.
ومع نهاية القرن الثاني الميلادي، تسربت إلى البلاد مجموعات رومانية محدودة، خاصة بعد الغزو الروماني لمنطقة “موريطانيا” الأمازيغية، وتعرض سكانها للاضطهاد الديني بسبب اعتناقهم المبكر للديانة المسيحية.
كما عرفت موريتانيا أيضا، هجرات شملت مجموعات سكانية مغاربية و أورو-متوسطية من أصول مختلفة مثل “الجيتيليين”، و”البافوريين” و”الموريين”، والنازامونيين، و”الفاروزيين” و”الأستوريين”، و”المارماريديين”، و”المازيقيين”، و”لوتوفاج”. كما تذكر المصادر بأن أول هجرة يهودية قادمة من نواحي برقة بليبيا، وصلت إلى البلاد فِي منتصف القرن الميلادي الأول، وربما استقرت في مناطق بـ “آدرار” في ناحية “وادان”، لعل آخرها كان في حي “أويشاط اليهود”، الذي ما تزال تذكره المصادر الشفوية المحلية.
وفي أواخر نفس القرن، انتشر في البلاد شعب “أمازيغي” أبيض مختلط مع الرومان، قادم من شمال إفريقيا، يدعى “الغارامانثس” أو “آغرمان”، واستقرت منه مجموعات كبيرة في “آدرار”، حيث شكلت أول مجتمع مسيحي عرفته البلاد، قبل أن تتعاظم هجرة المسيحيين “الأمازيغ” إلى موريتانيا، بعد اشتداد اضطهادهم من طرف الإمبراطورية الرومانية واتهامهم بالهرطقة.
وفي القرن الثاني الميلادي، وصلت مجموعة “فولان” أو”Foullan”، التي تتألف من فئتين، إحداهما من الرعاة الرحل، بينما عرفت الفئة الثانية قدرا من الاستقرار في القرى، بعد أن ارتبطت بالأرض من خلال ممارسة الزراعة في المناطق الوسطى والشمالية من البلاد. وبحسب الباحثين، تعود جذور تلك المجموعة السكانية ذات الأصول السورية-الليبية، إلى إنسان البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط، وهي خليط من قبائل “الليبو” البيضاء، قادمة عبر مصر والسودان والنوبة وليبيا، قبل أن تمتزج بأقوام أخرى.
ويعتقد بعض الباحثين بأن “فولان” قد وصلوا في نهاية رحلة، ربما قادتهم من نواحي “عكا” بفلسطين، إلى وسط وشمال موريتانيا الحالية، لكنهم استقروا نهائيا في منطقة “فووتا تورو” في وادي نهر السنغال الأوسط، في حدود القرن الثامن الميلادي. وقد استطاع مجتمع “فولان” تدريجيا، وبعد استقرار جزء منه على ضفتي نهر السنغال، استيعاب الكثير من عناصر القبائل الأخرى المجاورة له مثل “سيرير” و”أسوانك”، و”ماندينغ”، و”بمبارا”، وغيرها، حيث ستعرف المجموعة الناشئة تحت مسمى “التكرور”، أو “التكارير”، من حيث جغرافيا التواجد والسكن، وبـ “هالبولارن “Haal-Pulaar’en، من حيث اللغة، حيث تعني الكلمة المتحدثين بـ “البولارية” التي هي لهجة “فولان. “
ومع مطلع القرن الخامس الميلادي، وصلت إلى البلاد موجة من شعب “البافار”Bavars، ذي البشرة البيضاء، وقد اشتهر محليا بتسمية “بافور “Bafour، وهم تشكيلات سكانية ليبية مختلفة، أغلبها من أصول فارسية، وقد سكنوا مدة من الزمن في “موريطانيا” القيصرية، التي تطابق جغرافيا وسط وغرب الجزائر الحالية. واستقر جزء كبير من “بافور” في منطقة “آدرار” الموريتانية، حيث كانوا أول من أدخل ممارسة غرس النخيل والعناية به إلى البلاد، كما تدل على ذلك التقاليد الشفوية المتوارثة حتى اليوم، من خلال بعض الأمثال المحلية الشائعة مثل “أقدم من نخيل بافور”.