التنوع القومي.. وآفاق العيش المشترك في موريتانيا (4) / الدكتور محمد ولد السالك ولد ابراهيم الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في حزب الإصلاح


لقد ظل التنوع القومي والثقافي السمة الأبرز للسكان الذين استوطنوا فضاء موريتانيا الحالية، منذ أوائل الأقوام والشعوب، ذات الأصول، والألوان واللغات، والأديان المختلفة، التي عرفتها البلاد عبر العصور المختلفة. وقد اشتق اسم موريتانيا الحالية من كلمة “موريطانيا” Maurétanie وهي تسمية قديمة قرطاجية ثم يونانية-لاتينية، كانت تطلق على شمال إفريقيا عموما والمنطقة المغاربية، حيث يعرف سكانها بـ “الموريين “Maures.

ولئن كانت علوم الأركيولوجيا والأنتروبولوجيا والأتنولوجيا ما تزال تضن علينا – حتى الآن- بمخرجات دقيقة حول تاريخ “الإجتماع الإنساني” في موريتانيا الحالية، بينما يختلف المؤرخون في تأصيل تاريخها الاجتماعي والثقافي حسب عدة نظريات، إلا أنه يعتقد بشكل راجح بأن قبائل “گنار” ربما كانت من أقدم المجموعات السكانية التي عرفت بالاسم في هذه البلاد. وهي ربما تشكلت من بقايا أخلاط بشرية مختلفة قديمة جدا، ظهرت في البلاد منذ الألف الخامسة قبل الآن، وانتشرت خلال العصر الحجري الجديد، كما تدل على ذلك آثار ورسوم ونقوش صخرية مختلفة في “آدرار”، و”تيشيت”، و”ولاته” و”اكجوجت” و”انواكشوط”، وفي مناطق أخرى من البلاد.

ويبدو أن بقايا تلك المجموعات البشرية القديمة قد امتزجت لتشكل معا ملامح أقدم “أمة” -معروفة حتى الآن- استوطنت هذه البلاد، حيث شكل أفرادها، من ذوي البشرة الداكنة، أسلاف الموريتانيين الحاليين، رغم أن تمايز ألوان بشرات السكان الأوائل في موريتانيا ليس عنصرا حاسما في تحديد أصولهم المختلفة، لأن اكتساب لون البشرة يفترض أن يكون قد تم عبر مسارات معقدة، وعلى مدى فترات زمنية طويلة نسبيا، كما لعبت فيه أدوارا مهمة، طبيعة المعطيات الجغرافية، والبيئية والمناخية، إضافة إلى عوامل التهجين البيولوجي، عبر تمازج المجتمعات المختلفة من خلال التزاوج فيما بين أفرادها سواء في حالة الحرب أو السلم.

ويفترض بأن مجموعة “گنار” هذه، كانت تعيش على الصيد البحري والقطف في مواقع تسمى “قمنورية گنار” يرجح أن تكون على ساحل المحيط الأطلسي من جهة الشمال، الذي ربما عبره البعض من تلك المجموعة ليصل إلى جزر الخالدات، مشكلا بذلك النواة الأولى لسكانها القدامى الذين يعرفون بـ “الكناريين”.

في ما بعد، التحقت بقبائل “گنار” هجرات “أمازيغية” قادمة من شمال إفريقيا، تذكر الأدبيات بأن “الاحتراق” قد غلب على بشرتها بسبب كثرة التعرض للشمس أثناء ممارسة الزراعة، فسماها الباحثون بـ “الأثيوبيين” أو “الأحباش”. ومن بين تلك القبائل- كما يذكر الباحثون- “إثگرن”، و”ايزكارن” و”إيرناكن”، التي اشتهر أفرادها بممارسة الزراعة في الوديان والواحات.

ولعل تلك القبائل، التي كانت تنتشر بداية في مناطق صالحة للزراعة، خاصة في جنوب وغرب آدرار، هي التي ربما شكلت، بعد الاختلاط بقبائل “گنار”، النواة الأصلية لمكونة “الحراطين” الموجودة حاليا ضمن مجموعة “الموريين- البيظان” في موريتانيا، قبل قدوم موجات متلاحقة من المجموعات “البربرية” الأخرى، ذات البشرة البيضاء، كان آخرها قبائل “صنهاجة” بمختلف بطونها من “لمتونة”، و”مسوفة”، و”اكدالة”، و”اللمطة”، و”جزوله”، التي استوطنت البلاد في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وهي القبائل التي يبدو أنها أدخلت استعمال الإبل إلى البلاد، لتصبح فيما بعد وسيلتها المثلى للسيطرة على كامل المجال الصحراوي.

ولعل كلمة “الحراطين” أو “الحراثين” حسب بعض الباحثين، هي تحريف لكلمة أمازيغية “أهرضنن”، مشتقة من مهنة زراعة البساتين، قبل أن تأخذ لاحقا دلالات أخرى، أكثر تمييزية وإقصائية من منظور سوسيولوجي، داخل السياق المجتمعي الموريتاني، كما في المجال المغاربي عموما.