التنوع القومي وآفاق العيش المشترك في موريتانيا / الدكتور محمد ولد السالك ولد ابراهيم الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون السياسية في حزب الإصلاح


لقد نتج عن ديناميكيات الإستيعاب المتبادل لدى كل من المجموعات السكانية المختلفة في موريتانيا، خاصة من خلال آليات العلاقات الزواجية المتبادلة فيما بينها، مستوى كبير من الاندماج المجتمعي وخلق شبكات قرابية بينية جديدة، تجسدت في تسارع ظاهرة التهجين الخلاسي بين مختلف المجموعات، بغض النظر عن أصولها وألوان بشراتها، واتساع دائرتها على مدى أجيال عديدة، فضلا عن تطور الشبكات القرابية في اتجاه تكريس الأصول المتبادلة سواء داخل المجموعات أو فيما بينها.

ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة، فوفقا للتقاليد المروية في مجتمع “أسوانك”، فقدت هذه المجموعة الكثير من العائلات التي استقرت في منطقة “فووتا” بعد أن ذابت في كتلة السكان الفولان/الهالبولارن، مثل عائلات “توري”، و”ساخو” و”بارو”، و”غاساما”، و”كامارا”، “ويال”، و”باتيلي”، و”كيبي”، و”سوماري”، و”كوريرا” ، حيث دفعت جميع تلك العائلات ضريبة العيش في ظل الغالبية السكانية الوازنة، وفقدت لهجتها الأصلية لصالح “البولارية”.

وقد بلغ تطور الشبكات القرابية- حسب بعض المؤرخين والنسابة- حد تكريس الأصول القومية المتبادلة لبعض المجموعات، مثل وجود بعض قبائل من “الموريين-البيظان” ذات أصول “سونينكية” أو “فولانية”، وفي المقابل، وجود عائلات من أصول عربية، وبل وحتى من بعض الأشراف مثل “بني صالح”، الذين ينتسبون لذرية الشريف “عبد الله الكامل” من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث يعتبر حفيده الشريف عبد الله “خان” الذي قد يكون أخواله الزنوج قد حرفوا نطق اسمه إلى “كان”، وهو من تنسب إليه مدينة “كومبي صالح”، التي سبق أن كانت عاصمة لمملكة “غانا”، خاصة، بعد أن آلت أمور الحكم فيها إلى تلك السلالة من أصول عربية، الذين هم “بنو صالح”، ومنهم أيضا عائلات “إليمان دامت”، و”إليمان دجيكو” التي اندمجت نهائيا في مجتمع “الهالبولار” Halpullar في منطقة “انتيكان” وفي مناطق أخرى على ضفتي النهر.

وفي الوقت الذي تشير فيه المصادر إلى اندماج كلي لبعض العائلات من أصول عربية داخل مجتمع “الهالبولار” Halpullar، فإن الكثير من العائلات المشهورة من هذا المجتمع “الهالبولاري” تعتبر نفسها ذات أصول عربية، مثل عائلة “لي”، التي تعتبر نفسها أحفادا لرجل عربي يدعى “فضل الله”، وعائلة “توري” التي تنتسب لـ “محمد حبيب الله”، وعائلة “كان” التي تنتسب إلى “محمد المسلم”؛ أما عائلات “با” و”باري”، و”ديالو”، فإنها تنتسب إلى رجل عربي يدعى “إبراهيم مالك المديني”، وكذلك عائلة “سي” التي تنتسب لـ “آل شمس الدين”؛ أما بعض العائلات الأخرى مثل “أهل مدين الله “MoodiNalla، التي تنتسب إلى شرفاء “كومبي صالح”، فإنها تتميز بازدواجية انتسابها إلى كل من المجموعتين معا، حيث يبدو أن تلك العائلة العربية قد اندمجت في مجتمع “الهالبولار “Halpullar لفترة طويلة من الزمن، قبل أن تعود بعض الأسر منها إلى مجموعة “الموريين البيظان”، مثل “موديات”، لكن مع المحافظة على انتمائهم الثقافي المزدوج والاعتزاز به كثيرا.

أما غالبية أسرة “مودين الله “MoodiNalla فقد بقيت ضمن العائلات “الهالبولارية” الكبيرة في منطقة “فووتا” في وادي نهر السنغال. حيث تعرف بـ “مودين الله كوبي”، كما يطلق عليها باللهجة “البولارية”، وهي أسرة من فئة “الزوايا” أو الطبقة العالمة بأمور الدين تعيش أساسا في مناطق “داو” و”دولول” في “الفوتا”، وكذلك في بعض قرى وبلدات “كيديماغا” مثل “كالينيورو”، و”السلكه الدخنه”، و”ولد ينج”، لكنها كانت عائلة شديدة الاختلاط مع مختلف قبائل “الموريين-البيظان “التي تعيش في محيطها، بل وفي مناطق أخرى أبعد من ذلك.

كانت عادات التزاوج بين هذه العائلة و”الموريين-البيظان “متطورة للغاية، وكان التشابه حتى في الشكل الفيزيولوجي والمورفولوجي للأفراد بين المجموعتين القوميتين مذهلا للغاية. وكانت العلاقات بينهما أخوية وحميمة، إلى درجة أن بعضها كان مربكا للآخرين. فقد كانت بعض مجموعات “الهالبولار” تعتبر بأن أهل “مودين الله” هم جزء لا يتجزأ من “الموريين-البيظان”، بينما كانت بعض القبائل الكبرى من “الموريين-البيظان”، تفاخر بالأصول “الهالبولارية” لبعض فروعها، التي تعود إلى أهل “مودين الله”.

وقد مكنت الروابط التاريخية المتينة بين أهل “مودين الله” والكثير من قبائل “الموريين-البيظان”، من لعب هذه العائلة دور الشريك المتميز بالنسبة لجميع الأطراف المجتمعية، والوسيط المحنك للمصالحة بين المجموعات القومية المختلفة في البلاد، في حالات نشوب الخصومة والنزاع. وكان بعض “الهالبولار” يطلقون على أهل “مودين الله” لقب “المرابطين البيض”، في مقابل فئة “زوايا الهالبولار” أو”التوروبي” الذين كانوا يميزونهم بـ”المرابطين السود”.

ولم تتوقف ديناميكيات التهجين القومي عند هذا المستوى، فها هو القائد المرابطي الأسطوري “أبو بكر بن عمر”، سليل قبيلة صنهاجة، هذه المجموعة البربرية الكبيرة، التي منحت اسمها لنهر صنهاجة، قبل أن يحرف المستكشفون البرتغاليون في القرن الخامس عشر، نطق الكلمة لتصبح “سينغال”، وقد تزوج “أبو بكر بن عمر”، من إمرأة من زوايا “هالبولار” بمنطقة “فووتا”، تدعى “فاطيماتا صال” التي أنجبت له ولدا يسمى “أمادو بوبكر”، أصبح فيما بعد “آنجادجيان اندجياي”، الجد الأقصى المفترض لمجتمع “الولوف” في منطقة النهر.

لقد أسس “أمادو بوبكر”، ثلاثا من أهم الممالك السوداء التي قامت في وادي نهر السنغال، كانت أولاها مملكة “والو” Waalo، ثم مملكة “كايور” Kayor وأخيرا مملكة “دجيولوف” Djolof. بعد ذلك، دفع هذا الأمير الخلاسي “الصنهاجي-الهالبولاري” ضريبة التخلي عن اسمه الحقيقي “أمادو بوبكر” الذي اختفى في وقت لاحق من التاريخ، لصالح لقبه الجديد “آنجادجيان اندجياي”، “Ndiay Ndiadiane”، واضعا بذلك أساسا لمجتمع جديد هو القومية “الولفية”، التي ستنتشر على ضفتي النهر بين السنغال وموريتانيا.

لقد تعززت كثيرا علاقات التحالف والإندماج عبر استمرار وتطور ديناميكية العلاقات الزواجية والشبكات القرابية، بين مختلف الإمارات من كلا المجموعتين البيضاء والسوداء، خاصة في زمن الممالك، والإمارات والسلطنات، سواء منها تلك التي أقامها “المورييون البيظان” مثل “الترارزة”، و”البراكنة”، و”أولاد أمبارك”، و”إدوعيش”، أو تلك التي أقامتها المجتمعات السوداء مثل “أسوانك”، و”الفولان”، و”الهالبولار”، و”الولوف”، و”بامبارا”، منذ القرن الثامن إلى القرن التاسع عشر الميلادي.

فنجد مثلا، بعد انقلاب الأمير “سيدي اعلي ولد أحمدو”، على الفرع الأميري في البراكنة “أولاد نغماش”، وانتصاره عليهم وعلى حلفائهم “أولاد أحمد” في وقعة “الخَيْرْفِيهْ” الحاسمة، موطدا بذلك الإمارة في فرع “أولاد السيد”، بأن زعامة الفرع الأميري الجديد قد تحالفت مع جماعة “فووتا تورو”، في حين أن زعامة الفرع الأميري لـ “أولاد أحمد” قد اختارت الإعتماد على جماعة “هاليبه” الهالبولارية. بينما اختار الفرع الأميري لـ “أولاد نغماش” التحالف مع جماعة “لاوا”، حيث يرتبطون هناك بالدم مع عائلة “وان” وعلى رأسها “إبرا المامي”، الذي يعتبر مؤيدا كبيرا وممارسا فعليا لآليات التحالفات الزواجية بحسب المصادر.

وفي نفس الوقت نجد الفرع الأميري لـ “أولاد أعلي” يتفاعل مع الجماعات الهالبولارية في أقاليم “يرلابيYirlaabe” /”هبيابي “Hebbiyaabe ، و”بوصيابي” Booseyabe و”انكنار” Ngeenar، حيث قام تحالف قوي بين عائلة “أهل هيبه” من الفرع الأميري لـ “أولاد أعلي” مع “بوكار كان” Bokar Kane، زعيم الجماعة في “بوصيابي” Booseyabe ، ضد الجماعة التي في “يرلابي” Yirlaabe والتي كانت بزعامة “مامادو سيلاي أعمر آنن”.

كما اكتست التحالفات الزواجية صبغة دينية في منطقة “فووتا”، حيث يكثر ارتباط التلاميذ بزيجات مع عائلات أساتذتهم وأشياخهم، مثل زواج “اتيرنو سليمان بال”، وهو الذي درس العلوم الشرعية عند زوايا منطقة “الكبله”، وتأثر كثيرا بالإمام “ناصر الدين” وحركته الإصلاحية، وكان رائدا لحركة الأئمة الإصلاحية أو الثورة الإسلامية حسب التصنيفات، في منطقة “فووتا” سنة 1776م، بإمرأة من “الموريين البيظان”. وقد أنجبت له ولده “الطالب بوبكر”، الذي أصبح فيما بعد والدا للسيدة “اخديجتن”، التي ستصبح والدة “الشيخ محمد فاضل ولد مامينا” (1797-1867م)، وهو بدوره سيكون أبا لعشرات الأبناء ما شاء الله، الذين من بينهم “الشيخ ماء العينين” (1831-1910م) ، الذي رحل إلى الشمال الموريتاني قبل أن يستقر نهائيا في “السمارة” بجنوب المغرب، وأخوه “الشيخ سعد بوه” (1848-1917م)، الذي استقر بالناحية الغربية من البلاد، وكان كثير التردد على أتباعه من الطائفة القادرية في السنغال، وهما اللذان سيصبحان أسلافا لعائلات كبيرة في مجموعة “الموريين البيظان”.

وهناك أمثلة أخرى على هذه الديناميكية، مثل زواج القاضي “أحمدو مختار ساخو” من أهالي مدينة “دبانكو” أو “بوغي” مع امرأتين من “الموريين البيظان”، إحداهما من قبيلة “أولاد أبييري”، والأخرى من قبيلة “إداب لحسن”، وقد أنجبتا له أبنته “منينه ساخو”، وولديه “محمد الأمين ساخو” و”عبد الرحيم ساخو”. وفي المقابل، يأتي زواج أمير الترارزة “محمد الحبيب”، سنة 1833 من “ادجمبت أمبودج”، ملكة إقليم “والو”، حيث زرقا ولدا اشتهر بلقب “إعلي ادجمبت”، وقد تمتع، عندما صار أميرا، بنفوذ واسع في كلا الإمارتين على ضفتي النهر.

وليس ما تقدم سوى أمثلة فحسب على أهمية ديناميكية التحالفات الزواجية، وكيفية اشتغالها كآلية أنتربولوجية لبناء وتعزيز العلاقات القرابية، واستغلال مخرجاتها في نسج التحالفات السياسية، وما لذلك من تداعيات لتعديل الموازين الجيوبوليتكية على مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ضمن الفضاء الموريتاني القديم وتماساته الجغرافية والأتنولوجية المختلفة.