يشهد الربع الأخير من سنة 2021 تصعيدا جديدا متعدد الأوجه في الصراع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين في نطاق ما يسميه الملاحظون التنافس على القيادة العالمية أو السعي لإقامة نظام عالمي جديد قائم على التعددية بدل نظام القطب الواحد الذي فرضته واشنطن منذ العقد الأخير من القرن العشرين على أثر إنهيار الاتحاد السوفيتي. تتعدد النظريات والتحليلات والتوقعات بشأن نتيجة هذه المواجهات، فهناك من يجزم أن الولايات المتحدة في طريقها إلى النزول من عرش الهيمنة العالمية وبالتالي قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب مما يتيح وضعا أكثر إنصافا للدول المصنفة ضمن خانة العالم الثالث. وهناك من يقدر أن واشنطن ستكسب مرة أخرى المعركة وتستعيد قدراتها الاقتصادية وتجدد بنيتها التحتية وتبقي هيمنتها وأن فرص الصين لتعديل ميزان القوى تتضاءل لأن بكين أصبحت تواجه مصاعب متعددة خاصة على الصعيد الاقتصادي وكذلك السياسي الداخلي فيما يوصف بصراع الأجنحة داخل الحزب الشيوعي الصيني، بالإضافة إلى تقدم البيت الأبيض في مشاريعه لبناء تحالفات عسكرية واقتصادية جديدة بهدف محاصرة الصين. في الربع الأخير من السنة الأولى من العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يرجح بعض المحللين أن تدخل بكين في امتحان قوة فاصل مع واشنطن في جزيرة تايوان الصينية التي فر اليها فصيل “الكومينتانغ” الحليف للغرب الخاسر بعد هزيمته في الحرب الداخلية الصينية سنة 1949، وكانت حكومة الجزيرة تدعى حتى العقد السادس من القرن العشرين أنها الممثل الشرعي لكل الصين وتطلق على نفسها اسم جمهورية الصين الوطنية. ولا تعترف بتايوان حاليا سوى عدد قليل من الحكومات، إذ تعترف معظم دول العالم بالحكومة الصينية في بكين بدلا عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها. أيهما أقدر؟ باتت المقارنة بين الصين والولايات المتحدة ركنا أساسيا في عمل المعاهد البحثية، بعد أن سار الرئيس جو بايدن على درب سلفه ترمب في اعتبار بكين التهديد الأول لواشنطن. وارتفعت وتيرة احتمالات وسيناريوهات المواجهة الافتراضية بين القوتين العظميين حاليا، تزامنا مع احتفالات الحزب الشيوعي الصيني بمئوية تأسيسه من جهة، وزيادة التصعيد من جانب الولايات المتحدة نحو الصين على جبهات كثيرة، منها تايوان وملف حقوق الإنسان، بخلاف الحرب التجارية المشتعلة بينهما بالفعل. وفي هذا السياق نشر موقع “ناشيونال انترست” الأمريكي تحليلا عنوانه “هل يمكن أن تنهزم أمريكا أمام الصين؟”، أعده كيشور مهباباني، الباحث في معهد أبحاث آسيا في جامعة سنغافورة الوطنية، ومؤلف كتاب “هل فازت الصين؟ التحدي الصيني للهيمنة الأمريكية الذي نشر عام 2020. شهد العقد المنصرم تغييرا جوهريا في نظرة الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، للصين، إذ لم تعد بكين مجرد حصان الجر الهادئ للاقتصاد العالمي، بل أصبحت الصين الآن المنافس العالمي الرئيسي للولايات المتحدة وحلفائها. وكان ينس ستولتنبيرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلنطي “الناتو”، قد عبر عن ذلك عام 2020 بقوله: “الصين تقترب منا في الفضاء السيبراني، ونراهم في القطب الشمالي، وفي إفريقيا، ونراهم يستثمرون في بنيتنا التحتية الأساسية”. لقد ولَّى منذ زمن طويل الوقت الذي كانت عبارة “صنع في الصين” تطلَق باعتبارها مزحة”. وكان أبرز مؤشرات التحول في النظرة الغربية للصين هو السعي الدؤوب من جانب معاهد الأبحاث الإستراتيجية والجيوسياسية، لدراسة وفهم ما حققته الصين من معجزة ضخمة في مجال الاقتصاد تحديدا، وتوصلت كثير من تلك الدراسات إلى أن دينغ شياو بينغ الذي قاد الصين في ثمانينيات القرن الماضي قد تمكن من فهم وحل أحد القيود الرئيسية للاقتصاد السياسي: كيف تنجح في تنمية اقتصادك دون التخلي عن سيادة دولتك؟ وكيف أن الصين قد درست تاريخها جيدا، ووظفت مصادر قوتها لتضمن عدم تكرار “قرن الذل” الذي تعرضت له على أيدي اليابان والقوى الغربية من قبل. والآن قد يكون شي جين بينغ هو الرئيس، لكنه ورث الهياكل المؤسسية والأيديولوجية التي بناها دينغ شياو بينغ، وهي الهياكل التي وضعت الأساسات لموقف القوة الحالي لبكين، ولم تكن من قبيل الصدفة، فقد تمكنت الصين من بناء اقتصاد ضخم تخطى اقتصاد الولايات المتحدة نفسها، بحسب بعض التقارير، وعلى أقل تقدير أصبح الآن على قدم المساواة. من الأقوى عسكريا؟ ذكر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن مؤخرا إن بلاده ركزت على الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، بينما ركزت الصين على تحديث قوتها العسكرية، مضيفا: “سوف نحافظ على تفوقنا العسكري، وسوف نرفع من حجم هذا التفوق من الآن وصاعدا”. وعلى هذا المنوال تقريبا لا يمر يوم واحد دون أن يخرج تصريح عن مسؤول بارز، أو يقدم تقرير إلى الكونغرس أو وزارة الخارجية الأمريكية، محذرا من خطورة التهديد الذي تمثله الصين للولايات المتحدة، وحتمية تكثيف الاستعداد العسكري من جانب الأمريكيين للتصدي لهذا التهديد. لكن كثيرا من المحللين، أغلبهم أمريكيون وغربيون، يعتقدون أن ذلك التوجه نحو تضخيم القوة العسكرية للصين تفنده الحقائق المجردة، وهذا ما عبر عنه فريد زكريا في مقال رأي نشرته واشنطن بوست مؤخرا، رد فيه على تصريحات أوستن الخاصة بقوة الصين العسكرية. وكتب زكريا: “ما يسميه أوستن تفوقا عسكريا على الصين هو في حقيقة الأمر هوة سحيقة بين الطرفين. تمتلك الولايات المتحدة رؤوسا نووية تزيد بعشرين ضعفا عما تمتلكه الصين، كما تمتلك ضعف السفن الحربية أكثر من الصين، وتمتلك واشنطن 11 حاملة طائرات، تعمل بالطاقة النووية، مقابل حاملتي طائرات فقط لدى بكين أقل تطوراً بكثير. “ويمتلك الجيش الأمريكي أكثر من ألفي مقاتلة متطورة مقابل نحو 600 مقاتلة فقط يمتلكها الجيش الصيني. وتنشر القوات الأمريكية تلك القوة المسلحة الفتاكة حول العالم من خلال نحو 800 قاعدة عسكرية، مقابل 3 قواعد فقط تمتلكها الصين خارج أراضيها. وتبلغ الميزانية العسكرية للصين نحو 200 مليار دولار، وهو رقم أقل من ثلث ميزانية الدفاع الأمريكية”. يرى مهباباني أن هذا التفوق الأمريكي الكاسح من حيث القوة العسكرية ليس هو فقط سبب ثقة الأمريكيين في استحالة أن يتعرضوا للهزيمة على أيدي الصينيين، بل يضاف إليه عنصر آخر أكثر أهمية، يتعلق “بالتفوق الأخلاقي” للنظام الأمريكي، ما يجعل “النموذج الأمريكي” أكثر قدرة على جذب الحلفاء حول العالم. والمقصود هنا ليس “التفوق الأخلاقي” بالمعنى الحرفي للمصطلح، لكن المقصود القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي يرفعها الأمريكيون شعارا لنظامهم، وهو ما يجعل الأمريكيين بشكل عام يشعرون بالتفوق المطلق على الصين من حيث نظام الحكم هناك، الذي يقوده نظام الحزب الواحد. ومن هذا المنطلق يصور الساسة الأمريكيون معركتهم مع الصين على أنها مواجهة مع “الحزب الشيوعي الحاكم”، وليست مع الشعب الصيني بشكل عام، بل ويصورون هذه المواجهة على أنها “خطر صيني يتهدد نظام الحياة الأمريكي خاصة، والغربي بشكل عام”. ويستشهد مهباباني في هذا السياق بالقاعدة الأقدم في مجال الجيوبولتيكس التي تبناها سون تسو وكارل فون كلاوسويتس، وهي “اعرف خصمك”، ليدلل على مدى “جهل الأمريكيين” بهذه القاعدة الأساسية في علاقاتهم مع المنافسين أو الخصوم أو حتى الحلفاء. وساق مهباباني كنموذج ما قالته أفريل هينز، مديرة المخابرات الوطنية في إدارة بايدن مؤخرا: “تمثل الصين تحديا لأمننا ولرخائنا ولقيمنا، من خلال عدد كبير من القضايا”، مضيفاً أن غالبية الأمريكيين يصفقون بحرارة عند الاستماع لمثل هذه التقييمات التي تتكرر يوميا تقريبا على لسان أغلب المسؤولين في الإدارة الأمريكية، رغم أن تلك التصريحات لا تمت للواقع بصلة، بحسب مهباباني. أولا، لا تمثل الصين تحديا للازدهار الاقتصادي الأمريكي، فالصينيون أذكى من ذلك، ويرون الازدهار الأمريكي ضمانة ساعدتهم على مواصلة نموهم الاقتصادي. فالاقتصاد الأمريكي كان الدافع الأساسي الذي جعل اقتصاد الصين ينمو من عشر اقتصاد أمريكا (عام 1980) إلى أن يصبح أكبر من حيث القوة الشرائية عام 2014. وبناء على ذلك يقترح مهباباني على هينز أن يقوم الرئيس بايدن بعرض اتفاق اقتصادي مفيد لأمريكا وللصين أيضا، مؤكدا أن بكين سوف تقبل الاتفاق فورا لأن فيه مصلحة لها أيضا. ثانيا، لا تمثل الصين أي تهديد لأمن أمريكا، وهذا واضح تماما من المقارنة عسكريا بين القوتين، كما أن الصين لا تنوي غزو أمريكا، ولا تنوي توجيه ضربة نووية للأراضي الأمريكية، كما لا تهدد الصين الهيمنة العسكرية الأمريكية في مناطق مثل الشرق الأوسط، الخلاصة أن أمريكا لا تمثل العدو بالنسبة للصين، بحسب التحليل. نقطة الضعف الأمريكية تتمثل نقطة الضعف الأبرز لدى الأمريكيين في تلك الثقة غير المقرونة بأدلة فعلية على أن جميع شعوب العالم “تحسدهم” على النظام الديمقراطي الذي يتغنون به، ولا رفع شعارات حرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنها نظام الحكم الوحيد القادر على توفير الرفاهية للشعوب، بحسب ما توصل إليه مهباباني في تحليله. والأمثلة على خطأ التصور الأمريكي كثيرة، ربما يكون أبرزها هو النموذج الصيني نفسه، فالصين في ظل حكم الحزب الشيوعي الحالي قد تمكنت من دفع اقتصادها إلى القمة عالميا، ووفرت لشعبها البالغ تعداده 1.4 مليار شخص مستويات معيشية مرتفعة، لا تقل في الغالب عن نظيرتها في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. ومن ناحية أخرى، لا تمانع الدول الغربية أو الديمقراطية من التعاون الاقتصادي مع الصين، رغم طبيعة الحكم “الاستبدادي” هناك، وهذا منعكس تماما في العلاقات الاقتصادية المتنامية بين بكين والعواصم الغربية قاطبة، بينها واشنطن نفسها، قبل أن يأتي ترمب ويطلق الحرب التجارية، ثم يسير بايدن على نفس الدرب. وتشير هذه المعطيات إلى أن تعويل إدارة بايدن على حشد تحالف دولي من “الديمقراطيات الغربية” للتصدي للصين ربما يكون أقرب “للتفكير الحالم” منه إلى الواقع، فالمصلحة هي التي تحكم علاقات الدول وليست الأيديولوجيات، كما كانت الأمور أثناء الحرب الباردة السابقة بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي المنهار. الخلاصة هنا هي أن إصرار الإدارة الأمريكية على السير باتجاه تصادمي مع الصين، في ظل يقين شبه مطلق لدى الأمريكيين أنهم لا يمكن أن ينهزموا أمام الصين، يمثل خطأً فادحا في حسابات القوة، وجهلا كبيرا بطبيعة الخصم والمقومات التي يمتلكها. مرحلة خطيرة يوم الأحد 10 أكتوبر 2021 دعت الرئيسة التايوانية، تساي إينغ وين، إلى الحفاظ على الوضع السياسي الراهن في خطاب صريح أقرت فيه بزيادة الضغط من جانب بكين. وأشارت إينغ وين إلى الإكراه العسكري الصيني، وهو موقف مدفوع باستعراض نادر للقدرات الدفاعية لتايوان في عرض عسكري في يومها الوطني الذي يصادف 10 أكتوبر. يأتي ذلك في وقت يزداد فيه التوتر في منطقة مضيق تايوان ويتزامن مع اختراق قياسي لمقاتلات صينية للمجال الجوي الدفاعي لتايوان. وأضافت إينغ وين: “سوف نواصل تعزيز قدراتنا الدفاعية الوطنية وإظهار عزمنا على الدفاع عن أنفسنا من أجل ضمان عدم تمكن أي شخص من إجبار تايوان على السير في المسار الذي وضعته الصين لنا”. وتظهر استطلاعات الرأي أن الغالبية العظمى تفضل الدولة المستقلة الحالية القائمة بحكم الأمر الواقع وترفض بشدة الوحدة مع الصين، التي تؤكد أن تايوان جزء من أراضيها الوطنية سيتم وضعها تحت سيطرتها بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر. يذكر أنه يوم السبت 9 أكتوبر، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إن إعادة الوحدة مع تايوان “يجب أن تتحقق”، وقال إن إعادة الوحدة بشكل سلمي في مصلحة الأمة بأكملها، بما في ذلك سكان تايوان. وأضاف: “لا ينبغي لأحد أن يستخف بعزيمة الشعب الصيني القوية وإرادته وقدرته على حماية السيادة الوطنية وسلامة أراضيه”. إلى ذلك، تقول صحيفة “نيويورك تايمز” إن تايوان أصبحت الآن في قلب الخلاف المتعمق بين الصين والولايات المتحدة، مع اشتداد مثل المواجهات بين بكين وتايبيه بشكل أساسي، مما يدفع بمستقبل الجزيرة إلى مرحلة خطيرة. وطبقا للصحيفة، جعلت القوة العسكرية الصينية، غزو تايوان أمرا يمكن تصوره، وربما حتى مغريا بالنسبة لها. بالمقابل، تريد الولايات المتحدة إحباط أي غزو محتمل يهدف لإعادة توحيد الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي لأكثر من 70 عاما، مع الصين. يقول إيفان ميديروس، الذي خدم في مجلس الأمن القومي التابع لإدارة الرئيس أوباما، “لم تعد قضية تايوان نوعا من القضايا الصغيرة، بل أصبحت مسرحا مركزيا في المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين”. تشير الصحيفة الأمريكية إلى أنه حتى لو سيطرت القوات الصينية على تايوان في أي هجوم عسكري محتمل، فإن الحرب على الجزيرة التي يبلغ عدد سكانها 24 مليون نسمة، ستهز اقتصاد الصين والعلاقات الدولية بشدة، وستلحق خسائر بشرية كبيرة. بداية شهر أكتوبر 2021، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، جون سابل، إن دعم الولايات المتحدة وعلاقتها الدفاعية مع تايوان، تتوافق مع التهديد الحالي الذي تشكله الصين. وأضاف سابل في بيان لقناة “الحرة” أن موقف واشنطن يستند إلى ما ينص عليه قانون الكونغرس حول العلاقة مع تايوان. وتتزايد احتمالات حدوث أزمة خطيرة، في مضيق تايوان، حيث نفذ الجيش الصيني 93 طلعة جوية، على مدار ثلاثة أيام، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال”. وعززت بكين الضغوط العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية منذ انتخاب تساي إينغ وين رئيسة لتايوان في 2016، إذ تعتبر الرئيسة الجزيرة “مستقلة بالفعل” وليست جزءا من “صين واحدة”. الزميلة في معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد، أوريانا سكايلر ماسترو، أشارت إلى أن “حتى الأصوات المعتدلة في بكين أصبحت تطالب بإلغاء فكرة إعادة التوحيد السلمي”. وأضافت: “أعتقد أن التدخل العسكري هو الخيار الآن”. ارتفاع الضغط العسكري بعد أن أرسلت الصين حوالي 150 طائرة حربية إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية بداية شهر أكتوبر 2021، نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تحليلا يوضح أسباب “الضغط العسكري” الصيني على تايوان. ووصف التحليل هذا التحرك بـ”التصعيد الهائل” لنشاط الصين العسكري الموجه نحو “تايوان”، حيث زاد الجيش الصيني خلال العامين الماضيين من نشاطه، مع طلعات جوية شبه يومية في الأجواء التايوانية، وتدريبات عسكرية متكررة في المناطق البحرية القريبة. وتظهر بيانات تتبع الطلعات الجوية تغييرا في “تركيبة” مهام سلاح الجو للجيش الصيني، فبينما كانت طائرات الاستطلاع والمراقبة هي الأكثر استخداما، أصبحت الطائرات المقاتلة مهيمنة الآن، كما زاد استخدام القاذفات القادرة على حمل أسلحة نووية. وتتزايد التكهنات بأن الصين ستحاول غزو الجزيرة التايوانية، وزعم وزير الدفاع التايواني، يوم الأربعاء 6 أكتوبر، أن الصين، وبحلول عام 2025 ستكون قادرة بشكل أكثر سهولة على شن “غزو واسع النطاق”. وتقول بوني غلاسر، مديرة برنامج آسيا في صندوق مارشال الألماني، إن الطلعات الجوية هي جزء من تدريبات سلاح الجو الصيني، لكنها أيضا “للتحذير من تجاوز الخطوط الحمراء الصينية”. وأضافت غلاسر أنها تهدف أيضا “لاستفزاز القوات الجوية التايوانية، ومعرفة مدى جهوزيتهم وإمكاناتهم، ومعرفة قدرات نظام الدفاع الجوي التايواني”. وفي شهر سبتمبر 2021، أعلنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا عن شراكة أمنية جديدة، سميت “أوكوس”، تهدف إلى مواجهة سياسة وتصرفات الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبموجب ذلك سيتم بيع غواصات نووية أمريكية لأستراليا. وفي أبريل، أعلن الاتحاد الأوروبي أن التوترات في بحر الصين الجنوبي تهدد الاستقرار الإقليمي، بينما شاركت سفن حربية فرنسية في مناورات مشتركة مع الولايات المتحدة واليابان، وأرسلت ألمانيا مؤخرا سفينة حربية للمرة الأولى منذ عقدين. وبالنسبة “لقوة عظمى ناشئة”، بدا رد الصين الأولي على إعلان أوكوس “فاترا بشكل مدهش”، وفقا لمقال رأي لجوناثان بيرلمان، وهو كاتب في مجلة “أسترالين فورين أفيرز”. وذكر الكاتب بالتوترات بين الصين وأستراليا، وفرض عقوبات اقتصادية متبادلة بين الجانبين، وتجميد الاتصالات بينهما. وقال إن الصين تعمل أيضا على “جبهة منفصلة”، وتحاول عزل تايوان على المسرح العالمي، وضمان خفض مكانة تايوان في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية الدولية. ويعتبر الكاتب أن الغواصات النووية التي اشترتها أستراليا من الولايات المتحدة، لن تثني الصين عن صراعها مع تايوان، وقال إنه على الرغم من كونها ثاني أكبر مستورد “أستراليا” للأسلحة في العالم، فإن ميزانية الدفاع السنوية لأستراليا هي الآن 10 في المئة فقط من ميزانية الصين. ويقارن الكاتب بين القوتين، إذ “تخطط أستراليا لامتلاك أول غواصة نووية من ثماني غواصات في الماء بحلول أواخر العقد الثالث من القرن الحالي، فيما تمتلك الصين حاليا، التي توجد لديها أكبر قوة بحرية عدديا في العالم، أسطولا من حوالي 62 غواصة، بما في ذلك 12 غواصة تعمل بالطاقة النووية، وبحلول عام 2040، من المقرر أن يكون لديها 26 غواصة نووية”. الحرب التي قد تخسرها واشنطن هل تستطيع الولايات المتحدة منع الصين من غزو تايوان؟ قبل سنوات كانت إجابة هذا السؤال في صالح أمريكا، ولكن اليوم لم تعد النتيجة مضمونة. جاء في تقرير لمجلة “ناشيونال انترست” الامريكية: لن يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى ندرك أن حربا أمريكية ضد الصين دفاعا عن تايوان ستكون أمرا سيئاً لواشنطن. فقد أظهرت مناورات الحرب الأخيرة التي أجراها البنتاغون ومؤسسة “راند”، أن صداما عسكريا بين الولايات المتحدة والصين، خاصة حول قضية تايوان، من المرجح أن يؤدي إلى هزيمة الولايات المتحدة. وفي محاكاة للحرب بين الولايات المتحدة والصين، قال المحلل في مؤسسة “راند” ديفيد أوشمانك، “بصراحة إن أمريكا ضربت على مؤخرتها”. وأوضح أوشمانيك أنه إذا حشدت الصين كل قدارتها للاستيلاء على تايوان، فيمكنها أن تحقق هدفها “في فترة زمنية محدودة، تقاس بالأيام إلى الأسابيع”. وقال إن السبب هو أنه ليس “فقط لأنهم سيهاجمون القواعد الجوية في المنطقة. سوف يهاجمون حاملات الطائرات في البحر… سوف يهاجمون مستشعرات أمريكا في الفضاء، وسوف يهاجمون روابط اتصالاتها التي تمر إلى حد كبير عبر الفضاء”. تعلق المجلة قائلة “ربما تقلل المناورات وألعاب الحرب وعمليات المحاكاة من قدرة أمريكا على الهجوم المضاد أو المبالغة في تقدير قدرة الصين على تنفيذ العمليات العسكرية. ربما تستطيع أمريكا في النهاية صد هجوم الصين على تايوان، لكن مثل هذا “الانتصار” سيكون له ثمن باهظ بشكل مذهل بالنسبة للبلد. ستكون الجغرافيا مشكلة، تقع تايوان تقريبا على نفس المسافة من البر الرئيسي الصيني، حيث تقع كوبا من طرف فلوريدا. وتقع تايوان على بعد يقارب 6 آلاف ميل بحري إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة. إستراتيجية فعالة للصين اشتهرت الصين بتقوية دفاعاتها ضد الولايات المتحدة عن طريق استراتيجية منع الوصول (A2/AD)، ما قد يفرض تكلفة باهظة على الولايات المتحدة لأي هجوم ضد الصين. ففي الآونة الأخيرة، برزت الصين كقوة إقليمية حازمة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع قدرات قوية A2/AD. وهذه القدرات تعتمد على استخدام صواريخ باليستية وصواريخ كروز المتقدمة، بالتزامن مع أنظمة الدفاع الجوي والبحري لردع العمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة. وتتركز منظومة A2/AD الصينية حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، ما يضع القوات العسكرية الأمريكية، مثل مجموعة حاملات الطائرات والمنشآت في المنطقة ضمن نطاق الصواريخ الباليستية الموجهة بدقة. هذا التهديد الإقليمي خفَّف بشدة من قدرة القوات الأمريكية على إجراء عمليات في منطقة آسيا والمحيط الهادي، ومن أجل منع وصول القوات الأمريكية، تعتمد الصين على الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز للهجوم البري المتطورة لتهديد المنشآت العسكرية الأمريكية في جزر أوكيناوا وغوام. يفترض وفقا لهذه الاستراتيجية أن يتم استخدام أنواع مختلفة من الصواريخ المضادة للسفن والصواريخ الباليستية، باستخدام تقنية لديها القدرة على الضرب بدقة وتجاوز معظم منصات الدفاع الصاروخي البحرية. ويفترض أن يتم إرسال صواريخ كروز الصينية المضادة للسفن عن طريق السفن الحربية والغواصات والطائرات التي تقوم بدوريات في المياه على طول ساحل البلاد. الإفلاس بالإضافة إلى التكلفة التي تتحملها أمريكا من حيث الخسائر في الأرواح، وغرق السفن، وإسقاط الطائرات، سيكون على واشنطن بعد ذلك التزام لا تحسد عليه، لبناء وجود عسكري ضخم في تايوان، وبناء قواعد في جميع أنحاء المنطقة، لتأمين البلاد ومنع المحاولة الصينية التالية لاستعادتها. سيتعين على أمريكا أن تنفق مئات المليارات من الدولارات على الحفاظ على مثل هذه الدفاعات باستمرار، وتتعرض باستمرار لخطر هجوم جديد. في الوقت الذي تتسبب فيه ميزانيات الدفاع بالفعل في مزيد من الضغط بسبب الآثار الاقتصادية لفيروس كورونا، فإنه من الممكن أن تشل أمريكا إذا تصاعدت ميزانيتها الدفاعية لتغطية حرب مع الصين. وقد وجد استطلاع لمجلس شيكاغو في أغسطس 2021 أن 46 في المئة فقط من الأمريكيين يؤيِدون الالتزام صراحةً بالدفاع عن تايوان إذا هاجمتها الصين. باختصار، فإن خسارة الحرب مع الصين ستكون كارثية، بينما “الانتصار” في حرب على تايوان من شأنه أن يؤدي إلى إفلاس أمريكا. ومن الواضح أن واشنطن بحاجة إلى طريقة أفضل للتنافس مع بكين. لحسن الحظ هناك بديل أفضل، حسب تقرير المجلة الأمريكية. إن أفضل طريقة يمكن أن تساعد بها أمريكا تايوان وتثني الصين عن استخدام القوة، هي تشجيع جميع الدول الصديقة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ -وليس تايوان فقط- على الانخراط في تعزيز قدراتها في الدفاع عن النفس. الحل في أن تتبع تايوان بدعم أمريكي نفس الأسلوب الصيني، أي استراتيجية منع الوصول (A2/AD)، لكي تجعل الهجوم الصيني صعبا. قلق واشنطن يتعاظم كل يوم بمغادرة أفغانستان، وعقد اتفاقية “أوكوس” الأمنية بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا في المحيطين الهادئ والهندي، أفسح الرئيس الأمريكي جو بايدن الطريق من أجل التركيز على التحدي الكبير للسياسة الخارجية، وهذا التحدي هو التنافس المنهجي مع الصين. ومع ذلك، فإن القلق الآن يتمثل في مدى السرعة التي يمكن أن يتصاعد بها هذا التنافس، خاصةً في تايوان كما تقول صحيفة “ذي غارديان” البريطانية في تحليل لها نشر خلال الثلث الاخير من شهر سبتمبر 2021. تعتبر تايوان، محور نظام التحالف الأمريكي في جنوب شرق آسيا، أكبر جزيرة في “سلسلة الجزر الأولى”، وهي مجموعة الجزر الملتفَة حول الصين. إنها الهدف التالي للصين، وكما أشارت رئيس الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، فإن ما من أحد يعرف تماما ما إذا كان الغرب مستعدا للقتال لإنقاذ تايوان أو ما إذا كان الاتفاق الثلاثي الجديد يضع التزاما جديدا بطريقة ما على المملكة المتحدة للدفاع عن البلاد. فسرت المنافذ الإعلامية الصينية، والمؤرخون المتحمسون لنهاية الإمبراطورية الأمريكية، انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان من منظور مطالبة بكين بتايوان. وقالت صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية إن أفغانستان أظهرت أنه في حالة نشوب حرب في المضيق، فإن دفاع تايوان “سينهار في غضون ساعات، ولن يأتي الجيش الأمريكي للمساعدة”، وأضافت أن الولايات المتحدة أظهرت أنها لا تملك الجرأة للقتال. لطالما اتسمَت السياسة الأمريكية على مدار 40 عاما بالغموض الاستراتيجي الذي لا تفسره إجابات حول ما ستفعله الولايات المتحدة في حالة حدوث غزو. تتدفق التوقعات التي تتنبأ بالصراع مع الصين منذ عقود. ولقد حذر ريتشارد بيرنشتاين وروس مونرو من الصراع القادم مع الصين في أوائل العام 1997. ومنذ ذلك الحين، أُريق الكثير من الحبر في الكتابة حول هذا الموضوع، بما في ذلك إعداد خريطة لكيفية حدوث الغزو ساعة بساعة. وكتب جان بيير كابيستان، مؤلِّف كتاب “الصين غدا: حرب أم سلام؟”، عن غزو محتمل لتايوان منذ ما يقرب من عقدين من الزمان. ينتاب كابيستان قلق من أن تصل الأمور إلى نقطة تحول، إذ كتب: “يصبح مشروع بكين أوضح كل يوم- لتصبح القوة الرائدة في العالم، وبالتالي تخلع واشنطن من قاعدتها وتهيمن على شرق آسيا، وتطرد أمريكا من غرب المحيط الهادئ”. وأضاف: “يستعد جيش التحرير الصيني أكثر قليلا يوما بعد آخر لنزاعٍ مسلَّحٍ مع تايوان”. ماذا تريد الصين؟ ذكر ديفيد إدلشتاين، مؤلِّف كتاب “في الأفق: دراسةٌ حول تفاعل القوى الصاعدة والهابطة”: “هناك من يقولون إن الصين لديها نوايا عدوانية وطموحات عالمية، وتتصرف وفقا لتلك الطموحات، لأن هذا هو ما تفعله القوى العظمى، وكلَّما زادت قوتها، أصبحت أكثر طموحا”. وأضاف: “هناك مدرسةٌ فكرية أخرى ترى في هذا معضلةً أمنية كلاسيكية في العلاقات الدولية. تسعى كل من الولايات المتحدة والصين لتأمين مصالحهما، وتهددان الآخرين خلال ذلك. أما الحجة الثالثة، فيعتقد أصحابها أن الصين مدفوعةٌ بالفعل بالأمن الداخلي. وأكثر ما يهم القيادة الصينية هو أنها تريد عالما آمنا للاستبداد الصيني، وطالما أنه آمن، فلن يكون لديهم طموح كبير يتجاوز ذلك”. ويتزايد القلق داخل الدوائر الأمريكية بشأن النوايا الصينية. ولم تعد الأطروحة التي قدمها باراك أوباما، والقائلة بأن الولايات المتحدة يمكنها استخدام قوتها لدفع الصين وطمأنتها نحو سلوك أفضل، سائدة. يأتي مثال على ذلك من روش دوشي، مدير الشؤون الصينية في مجلس الأمن القومي لإدارة بايدن. قبل أن يتولَّى منصبه، أكمل تحليلا كان يعمل عليه ونشر، تحت عنوان “اللعبة الطويلة:”استراتيجية الصين الكبرى لاستبدال النظام الأمريكي”. اكتشف دوشي ثلاث استراتيجيات يعتمد كل منها على تصورات متطورة للتهديد الأمريكي. بدأت فترة العشرين عاما الأولى بنهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وحرب الخليج العربي، وساحة تيانانمين في بكين، وكانت مخصصة لتقليص مصادر القوة الأمريكية. ثم بعد الانهيار المالي في عام 2008، تحولت بكين، التي كانت واثقة من أن النموذج الأمريكي معيب، إلى بناء أسسٍ لنظامٍ صيني داخل آسيا. اتضحَ ذلك بصورة أفضل من قبل الرئيس الصيني آنذاك، هو جينتاو، في مؤتمر السفراء الحادي عشر للصين في العام 2009. أعلن جينتاو أنه كان هناك “تغيير كبير في ميزان القوى الدولية”، وأنه يتعيَن على الصين الآن “إنجاز شيء ما بنشاط”. استثمرت الصين في حاملات الطائرات والمركبات البرمائية. قامت بعسكرة الجزر في بحر الصين الجنوبي، وبدأت في بناء المزيد من السفن البحرية. وعلى المستوى السياسي، حولَت الصين تركيزها بعيدا عن المشاركة في المنظمات الدولية للحد من النفوذ الأمريكي. وفي المقابل، دشنت مبادراتها الخاصة، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، ومبادرة الحزام والطريق. ويوصف العصر الثالث، الحالي، بأنه “عصر تغييراتٍ كبرى لم نشهدها منذ قرون”. تزامن ذلك، وفقا لدوشي، مع انتخاب دونالد ترمب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، مما يرمز إلى تفكك المحرك السياسي في الغرب. أصبح النظام العالمي على المحك مرة أخرى بسبب التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية غير المسبوقة. بالنسبة لدوشي، تتطلَّب هذه الاستراتيجية من الصين إبراز قيادة جديدة وتطوير معاييرها في مؤسسات مثل الأمم المتحدة، وتحويل الجيش الصيني إلى قوة استكشافية على مستوى عالمي لها قواعد في جميع أرجاء العالم، وترسيخ مكانة الصين في مركز سلال التوريد العالمية. أمريكا لم تعد قوة متفوقة أدلى شي جين بينغ أمام الجلسات التشريعية السنوية في بكين، أوائل مارس 2021، بملاحظة فُسرت في وسائل الإعلام على نطاقٍ واسع بأنها إعلان من الرئيس بأن الصين لم تعد تعتبر الولايات المتحدة قوة متفوقة. والإطار الاستراتيجي الصارم الذي يرى دوشي والمحلِّلون السياسيون لبايدن نوايا الصين من خلاله، يشترك فيه أيضا القادة العسكريون الرئيسيون. في حديثه إلى لجنة القوات المسلَّحة بمجلس الشيوخ في مارس، وضع الأدميرال فيليب ديفيدسون، في الوقت الذي كان يرأس فيه القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، إطارا زمنيا صارما لغزو محتمل، قائلا: “أعتقد أن التهديد ظهر خلال هذا العقد، وخلال السنوات الست المقبلة في الواقع”. وأضاف: “أخشى أنهم يصعدون من طموحاتهم ليحلوا محل الولايات المتحدة ودورنا القيادي في النظام الدولي القائم على القواعد، والذي طالما قالوا إنهم يريدون الاضطلاع به بحلول العام 2050”. وفي شهادته أمام نفس اللجنة، لم يحدد خليفة ديفيدسون، الأدميرال جون أكويلينو، موعدا للمواجهة المتوقعة، لكنه قال: “رأيي أن هذه المشكلة أقرب إلينا كثيرا مما يعتقده معظم الناس. وعلينا أن نأخذ هذا الأمر على محمل الجد على المدى القريب وعلى وجه السرعة”. Omar_najib2003@yahoo.fr |