قمة مونبليي: حين يستغيث الظالم بالمظلوم – الدكتور محمد ولد الراظي عضو قيادة الحزب مكلف بأمانة الإرشاد والتوجيه الفكري

انعقت في مدينة مونبليي الفرنسية يوم الجمعة الماضي قمة استثنائية في توقيتها وطبيعة المدعويين لها وفي جدول أعمالها……إعادة اكتشاف العلاقات الفرنسية الإفريقية !

علي مدي قرون أربعة – أو أقل بقليل- من الإحتلال والبطش وتجارة الرقيق والنابالم والنهب وتَشْيِيء الإنسان الإفريقي…….تتغير الحكومات الفرنسية من ملكية الي جمهورية ومن عسكر إلي سلط مدنية وتبقي فلسفة التعاطي مع إفريقيا الثابت الوحيد علي مر العصور بين حكامها وأنظمة حكمها.

تعلن فرنسا اليوم أنها بحاجة لمراجعة الأسس التي قامت عليها العلاقات الفرنسية الإفريقية …..ولكن هذه المرة من باب الفعاليات الشعبية…..فما الذي طرأ شمال وجنوب المتوسط استدعي هذا الإنقلاب المفاجئ في نمط التعاطي الفرنسي مع الشأن الإفريقي ؟

بدأت علاقة فرنسا بشعوب القارة الإفريقية بداية حزينة واستمرت حزينة حتي يومنا هذا ….بدأت بتجارة العبيد حين أنشأت مدينة (اندر) بالسنغال وسمٌَتها (سين لوي) تيمنا بملكها وتخليدا لإسمه وبها فتحت دكاكينها الأولي عام 1659.

نظرت فرنسا للإنسان الإفريقي دوما أنه مجرد شيئ لا إنسان فكانت تجارة الرقيق ومثلثها البشع وكان القانون المعروف ب”مدونة الأسود” الذي سنه كولبير عام 1685 أحد العناوين البارزة للوجه الإستغلالي الكالح لإستعمارها لبلدان القارة.

ثروات القارة هي التي أنارت شوارع فرنسا ومساكن أهلها و شيدت بها صناعاتها بمختلف صنوفها وأسواق القارة الإستهلاكية هي المتنفس الأول لمنتجاتها الصناعية بسعر تحدده المصانع لا سلطة لقانون العرض والطلب ولا قواعد المنافسة عليه وهي التي غذت خزائن بنك فرنسا وهي التي جعلت من فرنسا أمة تشع خارج حدودها الجغرافية الضيقة……

دافع الأفارقة عن فرنسا أرضا وشعبا في حروبها كلها وفي الحربين العالميتين الأولي والثانية و ماتوا بعشرات الآلاف كي تبقي فرنسا دولة وكيانا مهابا في أوربا والعالم و يستعيد قوس نصرها طعم النصر الذي افتقده منذ كان أول مرة بعد معركة أوسترليتز عام 1805.

ولما خرجت من ديارهم تركت فيهم ما لو تمسكوا به لن يخرجوا من حضنها أبدا وسيبقون تابعين لها أبد الدهر: نخب افرانكوفونية مُستلبة وحكاما مأمورين – بإستثناءات قلة- وعملة تمتص الخيرات وقواعد عسكرية وخبراء استخبارات عيونا تترصد وتصفي كل صوت ثائر نكالا له أنه أراد أن يكون شيئا…………لكن الأفارقة لم يتمسكوا بذلك طويلا وبدأ الغليان الثوري يحبو قليلا ثم استقام وعم البلدان….يكون في الغالب هادئا وطورا يأخذ أشكالا أقل هدوءا……ورغم إشارات التمرد وأمارات الثورة القادمة من مختلف البلدان وفي مختلف الحقب ظلت الحكومات الإفريقية شريك فرنسا الأوحد في كل ما يتعلق بشؤون القارة ولم تستمع فرنسا يوما لرأي من خارج دائرة خلية: فرنسا-افريقيا المعروفة.

فلماذا تتجاوزها الآن وتتجه مباشرة للفعاليات الشبابية؟ ولماذا لم تفعلها من قبل؟ ولماذا لم تنتظر لحين ؟ أم أن فرنسا استنفدت كل وسائل إنقاذ الحكومات التي تركتها -أو تركت معامل إنتاجها- بعد مغادرتها الديار ؟ أو أن تلك الحكومات لم تعد قادرة علي مواصلة المهمة القذرة في تمرير أجندات السياسة الفرنسية ؟ أهو اعتراف بالفشل في التعامل الرسمي بين فرنسا وحكومات القارة ؟ أم هي رسالة غير مشفرة وغير دبلوماسية للحكام ؟ وهل يمكن اعتبار هذا اللقاء إعلانا رسميا لموت خلية فرنسا-افريقيا ؟

وما علاقة هذا وذاك بتآكل النفوذ الفرنسي في القارة ودخول لاعبين كبار في الحظيرة الخلفية لفرنسا الإستعمارية ؟

ولكن في المقابل من حقنا أن نتساءل لماذا تقبل الفعاليات الشعبية الإفريقية أصلا بالإجتماع بسلطة استعمارية ما زالت تنظر لشعوب القارة كرعايا ولحكامها كوكلاء إداريين؟ وهل كان أولئك الذين حضروا هذا اللقاء من المدعويين واستمعوا لصرخة الإستغاثة الفرنسية يمثلون ذاك المارد الثوري الإفريقي الذي فرض الإكو بدل الفرنك بعد عقود من النهب الممنهج لثروات القارة وخيراتها والذي يتحرر تباعا من الفرنسة ويبتعد بعيدا عن سطوة الفرانكوفونية ؟ أم أنهم رأوا في هذا اللقاء فرصة لإسماع فرنسا صوت الثورة القادم من الجنوب ؟ وكيف لفرنسا أن تتصور إمكانية إعادة غزو إفريقيا من بوابة نخب متمردة ؟ وما هي عوامل القوة التي تمتلكها فرنسا للتأثير علي هؤلاء الذين ينتفضون في كل أركان القارة ضد سطوتها وغطرستها ؟ وما عساها تكون الدروس التي قد تستخلصها أذرعها المحلية في ضرورة مراجعة المراهنة عليها في تسويق أجندتها المحلية ؟ وكيف ومتي سيقتنص دعاة الإستقلال الثقافي الترهل الفرنسي للإجهاز علي ما تبقي من عناوين الإستعمار في المدرسة والإدارة ؟

لا يمكن التعرض لمثل هكذا موضوع في سطور قليلة ولا يمكن أن يسعه مقال واحد لكن ما يهم معرفته هو أنه بعد القطيعة -غير المكتملة بعدُ- مع الفرنك وبعد عودة مالي لماضيها الثائر ضد الإستعمار الثقافي والسياسي والإقتصادي والنقدي الفرنسي وبعد تنامي الوعي في عموم إفريقيا الناطقة بالفرنسية من أن القارة كانت مجرد شمعة تذوب لتنير للفرنسيين طريق التطور والإزدهار والسيطرة…….وبعد أن أدركت فرنسا أن دُماها الحاكمة في القارة لم تعد قادرة علي طمس وجها الإستعماري الكالح ولم تعد هي نفسها قادرة علي البقاء ….. وبعد أن ازدادت أعداد المغادرين لمنظمة الفرانكوفونية …..وبعد الإعلان عن ميلاد الحلف الانقلوسكسوني من خلال الحلف الأمريكي البريطاني الأسترالي وما نتج عنه من ضربات موجعة للصناعة الحربية الفرنسية ولهيبة فرنسا وما تلي ذلك من صفعة الجار السويسري وتنامي قوي قوية وامبراطوريات لا تزن فرنسا إزاءها مثقال ذرة فتحت فرنسا العين فإذا بها في مأزق قاتل وأدركت متأخرة أنها بدون إفريقيا ليست شيئا كبيرا وهي التي تدرك جيدا أن لا مستقبل للإقتصاد العالمي دون خيرات هذه القارة العذراء وووو…. جاء ماكرون يتشبث بكل قشة كالغريق يبحث عن طوق نجاة فقام في الوقت الخطأ وتوجه الوجهة الخطأ فدعا لقمة تجمعه هذه المرة مع ممثلين عن فعاليات مجتمعية إفريقية يتلمس مسالك جديدة لمعالجة ما لحق بصورة بلاده وشعبها من تشوه وما أحدثته سياساتها من جفاء مع أجيال أفريقية بكاملها…..

استبق الرجل دعوته تلك باتخاذ بعض الإجراءات السطحية – بل والتبسيطية إلي حد كبير – عربونا لضيوف هذا اللقاء فأعلن عن عدم السماح للمستشفيات الفرنسية باستقبال من ثبت نهبه لخيرات بلاده من حكام القارة وسبقت ذلك حملة منظمة في الإعلام ومنصات انتاج الرأي داخل فرنسا تطالب بإعادة تأسيس العلاقات الفرنسية الإفريقية….فهل سيفلح أدرد مقلم الأظافر منكسر العزيمة محبطا مهزوزا في إعادة لملمة مستعمراته السابقة من خلال أجيال متمردة لا يطلبون حماية منه ولا جاها منه ولا يعولون عليه في شيئ ويختزنون مرارات قرون وكان لهم الدور الأكبر في خروج بلدانهم من بيت الطاعة !!!!!

لن ينتظر العالم طويلا حتي تلتحق الإمبراطورية الفرنسية بمثيلات لها في أوربا كانت ذات يوم قوي عالمية فأفلت ولفها ظلام النسيان…..

يهمنا في موريتانيا أن ندرس بعناية دلالات الخطوة الفرنسية وأبعادها وأن نستغل ذلك بروية وحكمة ولكن بعزم وإصرار وسرعة فنعيد علاقاتنا الثقافية معها علاقات ندية فنأخذ بلغتها وندرسها قدر ما تأخذ من لغتنا وتدرسها ونعيد تأسيس أمة موريتانية مستقلة متنوعة ذات حضارة عربية إسلامية سبقت فرنسا وستبقي بعدها.