مِن مَلامِح عالَم ما بعد “كوفيد 19” / إسلمو ولد سيدي أحمد

في مقال سابق، بعنوان: ” هل يأخذ العالَم العِبرة من انتشار فيروس كورونا؟ !”، قلت إنه: “يجب رسْم سياسات رشيدة (على المستوى الوطني والدولي) تجعل البناءَ يحل محل الهدْم، والتعمِيرَ يحل محل التدميرِ”.

وفي مقال آخر، بعُنوان: ” مَعًا للتخفيف من الآثار السلبية لفيروس كورونا”، قلتُ إنه يجب “التوقف عن صرف الأموال الطائلة على التسلح (ما دام السلاح لا يحمي من أضعف مخلوق من نوع “فيروس كورونا” !)، وتوجيه هذه الأموال إلى البحث العلمي في مختلِف المجالات الحيوية لسكان هذا الكوكب الذي نعيش على أديمه، والنهوض بالزراعة والصناعة، وتحسين المُناخ، وغير ذلك من المجالات الضرورية لمستقبل أفضلَ تنعم فيه البشرية بمزيد من الأمن والأمان والرخاء”.

اليوم، وقد اقتنع العالم بضرورة رفع “الحجر الصحي”، وحتمية التعايُش مع هذا الوباء المزعج، لتمكين الناس من مزاولة أعمالهم الاعتيادية (حتى لا تتوقف عجلة الاقتصاد)، وفي محاولة لاستشراف المستقبل (على المدى القريب والمتوسط)، أود أن أشير إلى أن العلاقات بين بني البشر لن تعود قطعًا إلى ما كانت عليه بالسرعة التي قد يتخيلها بعضُنا، سواء أتعلق الأمر بالعلاقات بين الدول أم بالعلاقات بين الأفراد والجماعات.

بخصوص العلاقات الدولية، لا أعتقد أنّ كل دولة ستنغلق تمامًا على نفسها، وتحاول تحقيق ما يمكن تحقيقه من الاكتفاء الذاتي، تمهيدًا لقطع صلتها بالخارج بصفة نهائية.

غير أنه من المؤكد أن اعتماد الدولة الوطنية على استيراد جميع احتياجاتها من الخارج (من الإبرة إلى الصاروخ، في بعض البلدان)، سيتراجع تدريجيًّا، ممّا يجعل تأثير “العولمة المتوحشة” المباشر في توجيه سياسات الدولة القُطرية يتضاءَل.

في ضوء ما استخلصَه العالم من دروس من هذه المِحنة، أتصور أن أمورًا كثيرة ستتغير.

أولا: في مجال العمل الوطني:

1-العمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال السلع والمواد الاستهلاكية الضرورية (ولو لمدة معينة: ستة أشهر مثلا، قبل الوصُول إلى الاكتفاء الذاتي الكامل)، لأن تجربة إغلاق الحدود مع العالم جعلت المسؤولين يستشعرون خطر الاعتماد الكلي على استيراد هذه المواد الحيوية، خاصة عندما يجد العالم نفسَه في ظروف استثنائية كهذه.

2-التركيز على الاستثمار في العنصر البشري الوطنيّ (مَا حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكَ)، ممّا يقتضي-من بين أمور أخرى- الاهتمام بالتعليم، والنهوض بالبحث العلمي في المجالات ذات الأولوية (حسَب احتياجات البلد)، وتشجيع أصحاب المواهب، ورصد الأموال اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.

وفي ذلك نوع من تحقيق “الاكتفاء الذاتي” في مجال العنصر البشري (من معلمين، وأطباء، ومهندسين، وباحثين، وغيرهم).

3-خلق جو من التصالح الوطني بين الحاكم والمحكوم (سواء أتعلق الأمر بالعلاقة بين المواطن والدولة أم بالعلاقة بين الحكومة والمعارضة)، يتجسد في العمل على تحقيق حد مقبول من السلم الاجتماعي، يضمنه العدل والمساواة أمام القانون بين المواطنين كافةً في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص في الحصول على الوظائف والاستفادة من منافع الدولة، وإشراك المعارضة في وضع التصورات العامة الخاصة بتسيير الشأن العام.

نتحدث هنا طبعًا عن الدول التي لم تتحقق بعدُ فيها هذه الأمور التي أصبحت متجاوَزة في العديد من بلدان العالم.

ثانيا: في مجال العلاقات بين الدول:

ستظل العلاقات قائمة (وتلك سنة الحياة)، لكنها سَتُبنَى على مَعاييرَ جديدةٍ، قائمةٍ على أسس قابلة للبقاء.

بمعنى أن هذه المِحنة العالمية، جعلتنا نكتشف الصديق الفعلي من “الصديق” الوهمي.

و”رُبَّ ضارة نافعة”.

وكما يقال: “اثنان لا أنساهما أبدًا، مَن أعانني ومَن أعان عليّ”.

نتوقع- بهذا الخصوص- أن تتعزز العلاقات بين الدول ذات الاهتمامات المشتركة.

نرجو أن يتحقق ذلك- بصفة خاصة- في العلاقات البينية العربية والإفريقية، لتداخل مصالح شعوب هذه المناطق، وموقعها الجغرافي، وتشابه حاجات أهلها التنموية، وما يعانيه بعض بلدانها من قلاقل واضطرابات على مستويات متعددة.

ولعل هذه المعطيات مجتمعةً، تحتم المزيدَ من التنسيق والتشاور والتعاون المثمر من أجل تحقيق تنمية مستديمة.

ثالثا: في مجال العلاقات الاجتماعية:

لعل أهم درس استخلصناه من تفشي هذا الوباء، يتجسد في أننا اقتنعنا جميعًا بأهمية الحرص على النظافة في حياتنا اليومية.

من ذلك (على سبيل المثال)، أن عادة غسْل اليديْن باستمرار، ستصبح سلوكا راسخا عند كل فرد في المجتمع.

يُذكَر هنا أنّ هناك أمراضًا كثيرة، تعرف عالميًّا بأمراض “الأيدي القذرة”. فاليد أكبر ناقل للأمراض المُعديَة، كالمِيكرُوبات والفيروسات.

ثم إنّ الاختلاط الفوضوي، المبالغ فيه في بعض مجتمعاتنا، سيعاد فيه النظر.

ستختفي تدريجيًّا بعضُ العادات المتعلقة بارتداء ملابس الآخرين، وتبادل الأدوات الشخصية، والشرب من إناء واحد، وتبادل كؤوس الشاي، ونحو ذلك من الممارسات العفوية.

لن تحدث طبعًا تغييرات جذرية بالسرعة التي يمكن أن يتصورها بعضُنا، لأن تغيير عادات المجتمعات لا يحدث عادة بين عشية وضحاها.

ومع ذلك، فإنّ العاداتِ والممارساتِ الاجتماعيةَ، لن تعود بالتمام والكمال إلى سابق عهدها.

لا يفوتني، في ختام وضع هذا التصور لملامح الغد، أن أوجه نداءً عاجلا إلى المتحاربين في العالم، أناشدهم فيه بوقف الحروب العبثية التي أتت على الأخضر واليابس (بصفة خاصة، في بعض الدول العربية والإفريقية).

إنّ شعوبنا في المناطق التي تستعر فيها هذه الحروب، تُوجَد في وضع لا تُحْسَد عليه، فالناس بين “مطرقة” الأمراض والأوبئة من جهة، و”سندان” الحروب من جهة ثانية.

نرجو من العلي القدير أن يرفع هذا الوباء، وأن يهدينا جميعا لما فيه خير العباد والبلاد.