عالم ما بعد كورونا… رؤية استشرافية……عنتر عبدالعال أبوقرين

| طباعة
نشر فى : الجمعة 24 أبريل 2020 – 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 24 أبريل 2020 – 10:00 م

«لقد تغير العالم… وأن غدا لن يشبه اليوم»، هذا ما قاله الرئيس الفرنسى، ماكرون، بعد جائحة كورونا، مكررا ما قاله الرئيس الصينى قبله بأيام؛ أما داهية السياسة الخارجية ومستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق، هنرى كيسنجر، فيرى بأن «فيروس كورونا سيغير النظام العالمى إلى الأبد». هذه الكلمات، والتى صدرت عن قادة ومفكرين من شرق العالم وغربه ووسطه، تظهر بوضوح أن التغيير القادم سيكون هائلا؛ وأن عالم ما بعد كورونا لن يكون كسابقه. لذا، سنحاول فى هذا المقال استشراف سمات عالم ما بعد كورونا، حتى نتمكن من صياغة سياسات مناسبة للتعامل مع هذا المستقبل الغامض. ولكى تكون عملية الاستشراف تلك علمية ومنهجية، سنحاول فى هذا المقال التعرف على الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية الرئيسية لوباء كورونا على مستقبل العالم.
كورونا… «كساد اجتماعى» وإحباط طويل المدى
تعتبر التبعات الاجتماعية لكورونا أكبر حجما وأعمق وأدوم أثرا من تبعاته الاقتصادية، خاصة فى المجتمعات الغربية. ففى تلك المجتمعات التى يعيش أفرادها حياة ناعمة منضبطة ومستقرة، ولم يتعرضوا لتقلبات الحياة، يصبح الفرد أكثر هشاشة من الناحية النفسية. ومع طغيان النزعة الفردية فى هذه المجتمعات، تضعف «المناعة النفسية» للفرد والمجتمع، وتظهر العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية. كما أن تفاقم تلك الجائحة بهذا الشكل الكبير والسريع فى دول الغرب المتقدم، لم يثر الذعر والإحباط لدى الأفراد فقط، بل لدى الحكومات والقيادات.
وترى مجلة «Scientific American« أنه مع كورونا والحَجْر الصحى وتزايد حالات البطالة، فقد أصبح القلق، والإحباط، ونوبات الهلع، والاكتئاب، والميول الانتحارية، شائعة جدًا أثناء الإغلاق. وتتوقع بعض التقارير أن يكون ضحايا الانتحار بسبب جائحة كورونا أكبر بكثير من ضحايا الفيروس نفسه. وأن تزايد معدلات الانتحار فى الغرب، ليس بين كبار السن فقط، بل بين الصغار أيضا كما أشارت صحيفة الجارديان. وترتبط تلك التقارير بين الآثار الاقتصادية السلبية وتزايد معدلات الانتحار؛ وترى أنه فى حالات كانت فيها الضغوط الاقتصادية أخف بكثير مما هى الحال فى ظل كورونا، كانت معدلات الانتحار عالية جدا (BBC, 2014). وهو ما يجعل من الانتحار بسبب جائحة كورونا مشكلة كبرى متوقعة. كما أن تلك الجائحة قد زادت من الشعور بالخوف؛ وهو ما أدى إلى ارتفاع بنسبة 73,0% فى طلبات شراء السلاح الشخصى فى شهر مارس الماضى مقارنة بنظيره من العام الماضى (ABC Newsــ7/4/2020).
من ناحية ثانية، وفى ظل هذه الظروف الاجتماعية، من المتوقع أن تنخفض معدلات المواليد، المنخفضة للغاية أصلا، فى أوروبا والولايات المتحدة. كما أن تلك المناطق ستكون أقل إغراءً للمهاجرين عما كانت عليه قبل كورونا؛ وهو ما يعنى أنه سيكون هناك تناقص سكانى حاد فى تلك المناطق، وهو ما سوف يكون له تبعات اقتصادية حادة فى هذه الدول.
كورونا والاقتصاد… بطالة وركود وديون
يقول تقرير الأمم المتحدة الصادر نهاية مارس الماضى، بعنوان «المسئولية المشتركة، التضامن العالمى: لمواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لـCOVIDــ 19»، أن حائجة كورونا سيكون لها آثار هائلة وطويلة المدى على الاقتصاد العالمى واقتصاد الدول على السواء. وقد انتهى صندوق النقد الدولى للتو من إعادة تقييمه للنمو المتوقع لعامى 2020 و2021، ليقول بأن العالم قد دخل مرحلة كساد أسوء من تلك التى شهدها العالم عام 2009.
ويوضح تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، بتاريخ 16 مارس 2020، بعنوان «هكذا سوف يدمر كورونا الاقتصاد»، أن فيروس كورونا يهدد بإحداث مضاعفات حادة فى اقتصاد عالمى مريض ومثقل بالديون. ومع احتمال استمرار ضعف، أو توقف، التدفقات النقدية للشركات والدول، نتيجة لجائحة كورونا، ستصبح العديد من هذه الشركات والدول عاجزة عن سداد أقساط الفائدة، فضلا عن التداعيات الخطيرة المصاحبة؛ كانخفاض الإنتاج وارتفاع معدلات البطالة والركود الاقتصادى. وهو ما بدأت ملامحه فى الظهور بانخفاض أسعار النفط إلى مستوى متدن للغاية يهدد شركات النفط التى تسعى لسداد ديونها؛ ويهدد الدول المصدرة للبترول التى تعتمد على عوائده فى شراء احتياجاتها.
ويؤكد التقرير أنه كلما طالت مدة جائحة كورونا، كلما زاد احتمال حدوث أزمة مالية أخطر بكثير من تلك التى شهدها العالم عام 2008. وفى ضوء هذا الوباء النادر الذى لم يستطع العلم بعد أن يفهمه بصورة كاملة، ناهيك عن إيجاد علاج له، فإن تبعات هذه الجائحة ستستمر لفترة طويلة. هذا الغموض حول مدة تأثير هذه الجائحة يضيف عبأً اقتصاديا آخر، يمثل فى تخوف الشركات والدول من ضخ استثمارات ضخمة فى مستقبل غير واضح.
وفى تقرير للإندبندنت العربية بتاريخ 25 مارس 2020، ترى الصحيفة بأن كورونا يدفع بشركات ضخمة نحو الإفلاس نتيجة لانخفاض الارباح وتزايد الديون. ويتوقع التقرير أنه مع تفاقم الأزمات المصاحبة لانتشار فيروس كورونا المستجد، تحوّلت الأزمة من مجرد كساد وركود عنيف إلى أزمة أكبر تتمثل فى انهيار شركات ضخمة وإعلان إفلاسها.
كورونا… من «العولمة الاقتصادية» إلى «اشتراكية المرض»
تشير العديد من التقارير إلى أن أزمة كورونا لم تثبت فشل العولمة فحسب، بل أثبتت مدى هشاشتها وزيف الكثير من الحجج التى سيقت لتبريرها. فمع بداية الوباء، سارعت جميع الدول التى روجت للعولمة، واستفادت منها اقتصاديا واستراتيجيا، إلى الانغلاق إلى الداخل والحد من السفر وإغلاق حدودها، وتخزين الإمدادات الطبية. وترى صحيفة «Foreign Affairs» الأمريكية بأن «كورونا يقتل العولمة التى نعرفها» وأن هذا الوباء يعتبر هدية للقوميين؛ وتتوقع أن يكون له آثار طويلة المدى على حرية الحركة للأفراد والبضائع.
من ناحية ثانية، ترى بعض التقارير المهمة أنه بينما كانت العولمة تخدم أنظمة رأسمالية دولية على حساب الفقراء فى العالم الثالث، فإن كورونا قد تخطى تلك الفوارق الطبقية وأوجد ما يمكن تسميته بـ«اشتراكية المرض»؛ بحيث أصبح الفقير والغنى معرضين بنفس الدرجة لهذا الوباء الذى أصبح عابرا للطبقات الاجتماعية بكل درجاتها وتصنيفاتها (بى بى سى، 28 مارس 2020). هذا الوضع قد جعل الجميع متسايين، من حيث العجز، أمام مواجهة هذا الوباء.
كورونا والعالم النامى… «فرصة نادرة»
فى ضوء هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى والمتسارعة التى أحدثها وباء كورونا، تتشكل عالميا ظاهرتان مهمتان لهما أثر كبير على العالم النامى، وهما: تصاعد صراع القوى الكبرى على قيادة العالم، وانشغال تلك القوى بنفسها وانغلاقها، إلى حد كبير، نحو الداخل.
تشير العديد من التقارير إلى أن صراع القوى الكبرى قد ازدادت حدته بعد هذا الوباء؛ نظرا للتفاوت الكبير فى حجم الضرر المتوقع أن يلحق بهذه القوى، وفى مدى قدرة المجتمعات على تحمل تبعات هذه الأضرار، نظرا للتفاوت الكبير فى طبيعة نظمها السياسية والاقتصادية. وترى تلك التقارير بأن من يخرج أولا من محنة كورونا سيتمكن من تحقيق نقاط هائلة على سلم السيطرة. وهو ما ستتبدل معه الكثير من التحالفات وظهور تكتلات اقتصادية وسياسية جديدة. (BBC ــ 1 إبريل 2020).
من ناحية ثانية، فقد جعل كورونا تلك القوى مشغولة بنفسها، إلى حد كبير. كما أنه قد قلص تطلعاتها وقدراتها الاستعمارية؛ فبجانب انشغال الجيوش فى المشاركة فى عمليات مجابهة الوباء داخليا، فإن انتشار الوباء داخل الجيوش، وخاصة على حاملات الطائرات، يحد بشكل كبير من سطوتها العسكرية الخارجية. ويكفى هنا أن نشير إلى ما قامت بهد العديد من هذه القوى من سحب قواتها من الخارج. وعليه، فمن المتوقع أن تتقلص الأطماع الاستعمارية للقوى الكبرى لصعوبة تحقيقها. كما أنها قد صارت أكثر حاجة إلى التعاون لتحقيق نمو اقتصادى أفضل. كما أن الخيار العسكرى فى حل نزاعاتها، أو تحقيق أطماعها، قد صار أبعد مما كان عليه فى أى وقت مضى.
وأخيرا، فإن الفجوة التنموية بين العالمين، المتقدم والنامى، قد بدأت فى التناقص نتيجة لانخفاض انتشار كورونا وانخفاض كلفته الاقتصادية فى العالم النامى مقارنة بالعالم المتقدم.
هذه المتغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمى جديد أكثر عدلا؛ إذا إن التفاوض فى هذه الحالة لن يكون بين منتصر ومهزوم، كما كانت الحال عند صياغة النظام العالمى الحالى، بل سيكون بين مهزوم ومهزوم جدا. هذا الوضع يوفر فرصة نادرة للعالم النامى للضغط لصياغة نظام دولى أكثر عدلا من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية.