أفارقة بلا عقد يكتبون بالعربية / محمد السالك ولد إبراهيم

يعتبر كتاب “زهور البساتين في تاريخ السَّوادِين”، الذي ألفه باللغة العربية العلامة الشيخ موسى أحمد كَمَرا) 1864م- 1945م( أشهَر موسوعة لتاريخ شعوب غرب إفريقيا أو “السودان الغربي” كما تعرف المنطقة في الأدبيات الإستعمارية.

وتقع مخطوطة هذا الكتاب في مجلدَين ضخمَين، وقد انتهى صاحبه من تأليفه سنة 1924م ضمن أكثر من خمسة وثلاثين مصنفاً، في العلوم الشرعية واللغوية والتاريخية والتصوف تركها مؤرّخ غرب إفريقيا في العصر الحديث، بعد رحيله.

ويعد هذا الكتاب، الذي تم تحقيقه ونشره سنة 2010 من طرف مؤسسة البابطين الكويتية في 872 صفحة، أهم ما ألفه الشيخ موسى كمرا، من حيث مضمونه المعرفي ومحتواه التاريخي والجهد العلمي الذي بذله المؤلف في جمع مادته وتبويب معلوماته الغزيزة.

أما عن الدافع وراء تأليف الكتاب، فيذكر المؤلف بأنه كان تلبية لطلب الحاكم الفرنسي للسنغال آنذاك من أجل وضع تاريخ لشعوب السودان الغربي. وقد استغرق العمل عليه ما لا يقل عن خمس سنوات، حيث انتهى المؤلف من تحرير مادته في مسودتها الأولى في نوفمبر 1924. فجاء في أكثر من أربعمائة صفحة بخط مغاربي يحمل تعليقات وإضافات على الحواشي.

في هذه الموسوعة، يبسط المؤلف الحديث عن شعوب السودان، و يعرض بالتفصيل لجغرافية أقاليمه، وأوضاع قبائله وعشائره وأحوالهم، وعلاقاتهم الاجتماعية ونشاطاتهم الاقتصادية والحياة العلمية والثقافية في مختلف أرجاء المنطقة.

وقد وُلد الشيخ موسى بن أحمد بن الحبيب كمرا، في قريةٍ واقعةٍ في الجنوب الشرقي لمدينة ماتم (matam) بجمهورية السنغال. وبعد ما ملأ جعبته بالعلم في فوتا تورو, وفي شنقيط، وفوتا جلّو، عاد ليستقر ويتفرغ للتدريس والتأليف.

يقول المؤلف: “… وأول مَن علّمني حروف الهجاء رجلٌ كان يسكن في كُريكه، اسمه تشرنو مالك, وكان يعلمني القرآن… ثم علّمني رجلٌ آخر في فولل جاوب Kpoolel jaawbe، اسمه تشرنو محمود، القرآنَ أيضا”.

لكن المؤلف شد الرحال إلى بلاد شنقيط من أجل تعميق معارفه, وتلقى العلم على أيدي علمائها، حيث لازم علماء قبيلة لمتونة, وبالتحديد الشيخ عبدو ولد سفاف زمنا، ثم غادره إلى شيخ آخر اسمه فال ولد طالب, ثم رجع بعد ذلك إلى فوتا.

وعند رجوعه ذهب إلى أحد الفقهاء في قرية سينو باليل seno baalel اسمه عبدُل إلمان, وقرأ عليه (الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني في الفقه, ومقصورة ابن دريد في الأدب. ثم واصل رحلاته العلمية, ورحل إلى شيخ يُدعى ألفا صمب تيام, ودرس عليه جزءاً من كتاب (تحفة الحكام) لابن أبي عاصم الغرناطي, ثم أكمله عند الشيخ محمد صامب بلاّ, ودرس الفرائض على الشيخ ألفا محمدآو, ثم قصد فقيهاً فوتجليّاً يُسمّى مودي حامد, ودرس عليه الجزء الأول من (مختصر خليل) في الفقه المالكي, ثم جاء فقيهاً آخر من فوتا جلون إلى فوتا تورو اسمه موُدُ ممَّد، فقرأ عليه شيئاً من الجزء الثاني من (مختصر خليل), وشيئاً من (مقامات الحريري).

ويعدّ الشيخ موسى بن أحمد بن الحبيب كمرا، الذي وُلد ونشأ وتعلّم وتُوفي في أيام الاستعمار، من كبارِ المؤرخين بإفريقيا الغربية خلال العهد الاستعماري, وهو أحد أشهر مؤرخي القارة، ومن أبرز علماء حوض السنغال الذين ساهموا بشكل فعّال في نشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة, من خلال كتاباته، وبخاصّة علم التاريخ, في فترة اتجهت فيها كتابات ومؤلفات جلّ علماء المنطقة نحو العلوم الإسلامية (الفقه، والعقيدة، والتصوف)؛ ولعل ذلك هو دفع بعض الباحثين الأفارقة المعاصرين إلى اعتباره من العلماء الذين دفعوا بدماء جديدة في فن تاريخ السودان الغربي بعدما دبّ فيه الوهن، بسبب انصراف جلّ الكتّاب في المنطقة عنه, نظرا للضعف الذي أصاب اللغة العربية والثقافة الإسلامية, بعد هيمنة الاستعمار على المنطقة, ومحاربته للإسلام ولغته العربية, ومحاولته المتعمّدة لتشويه تاريخ شعوب المنطقة المضيء في العصور الإسلامية الزاهرة، وتكريس التعليم النظامي باللغة الفرنسية وحدها..

وقد تحدث مؤلف كتاب “زهور البساتين في تاريخ السَّوادين”، عن بلاد شنقيط التي سبق له أن درس فيها، وذكر بعض علمائها وفي مقدمتهم العالم المختار بن بون، كما فصل الحديث عن بلاد أفريقيا وأصل تسميتها، واكتشاف القارة من طرف الأمم الأخرى، واستعمار الأوروبيين لها، وعن أفريقيا السوداء، مدنها ولغات أهلها، وأقاليم السودان الثمانية..

ولعل بقاء كتاب “زهور البساتين في تاريخ السَّوادِين”- وهو بلا شك مصدر تاريخي مهم ومرجع أساسي في إثنوغرافيا شعوب السودان الغربي- بعيدا عن أيدي القراء هو ما دفع عالم الأركيولوجيا البريطاني ك.ر. روبينسون، إلى التنبيه إلى مدى القصور في الانتفاع بمادة هذا الكتاب القيم، وعدم إعطائه الأهمية اللائقة به عندما كتب عن الشيخ موسى كمرا، في دراسة له نشرها في مجلة “كراريس الدراسات الأفريقية” (العدد 109) بعنوان “مؤرخ وعالم سلالات أفريقي”، ولعله في ذلك كان يرد على المستشرق الفرنسي، صاحب النفوذ السياسي فانسان مونتاي في كتاب “الإسلام الزنجي عقيدة تجتاح أفريقيا” الذي يتساءل فيه عن كتاب “زهور البساتين في تاريخ السوادين”: هل هو مصدر مستقل بذاته، أم مجرد نقل عن الآخرين؟ بعد أن عجز لجهله باللغة العربية عن الاطلاع على مضمون الكتاب والتعريف بمادته التاريخية.

ولا يخفى بأن كتاب “زهور البساتين في تاريخ السوادين” قد شكل وسيظل يشكل مُدوَّنة كبرى لمعرفة شعوب غرب أفريقيا في التاريخ والأنساب والأنثروبولوجيا. وتكمن أهميته في كونه يمثل نظرة معرفية ذاتية في مواجهة النظرة الغرائبية التي غذتها الدراسات الأتنولوجية ذات الصبغة الإستعمارية، كما يعبر الكتاب أيضا عن الموقف الأفريقي الأصيل، ويحاول طرح إشكالية التواصل العربي-الأفريقي من منطلقاتها الأولى، فضلا عن كونه يقدم صورة أخرى كفيلة بالإسهام في تصحيح الخلل وإعادة الارتباط العربي- الأفريقي، بعد أن نجحت المبادرات الثقافية الغربية خاصة الإنجليزية والفرنسية، في تحويل وجهة أفريقيا عن توجهها الطبيعي نحو الوطن العربي إلى عالم أوروبي غريب عنها، وبذلك تكرست عزلة أفريقيا وتبعيتها للمجال الثقافي والاقتصادي الأوروبي المتحسس من كل تواصل مع عرب شمال الصحراء، رغم ما اقترفه الأوروبيون في حق أفريقيا من ممارسات رهيبة مثل النخاسة والاحتلال ونهب الثروات والإستعمار وتحطيم الثقافات المحلية وفرض التبعية.

وقد صدرت سنة 2016 ترجمة باللغة الفرنسية للجزء الأول من الكتاب تحت عنوان

“مختارات من حديقة تاريخ السوادين (زهور البساتين). المجلد الأول، الأرستقراطية الفولانية وثورة رجال الدين المسلمين (وادي السنغال)” عن منشورات المركز الوطني للبحث العلمي في باريس.

Florilège au jardin de l’histoire des Noirs (Zuhür Al Basatin). Tome 1,

volume 1: L’aristocratie peule et la révolution des clercs musulmans (vallée du Sénégal).