جاك أتالي: العالم لن يعود كما كان!؛
نشر جاك أتالي، المنظر الفرنسي، وعالم الاجتماع والمستشار السابق للرئيس الفرنسي الرّاحل فرانسوا ميتران، مقالا في مدونته الشهيرة حول تداعيات فيروس كورونا المستجدّ، تنبّأ فيه بحدوث تغييرات عميقة سيشهدها العالم بأسره، تغييرات ستطالُ بنى العولمة التقليدية وتعيدُ تشكيل ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى. وفي هذا المقال الذي عنونهُ بـ”ما الذي سيولدُ منه؟”، تحدّث عالم الاجتماع الفرنسي عن ولادة “سلطة شرعيّة جديدة” غير مؤسسة على الإيمان أو القوة أو العقل، وإنّما على “التعاطف” في وقت الأزمة.
وفيما يلي ترجمة كاملة لنصّ المقال:
اليوم، ليس ثمّة ما هو أكثرُ استعجالاً من السيطرة على أمواج التسونامي الصحيّة والاقتصادية التي تضربُ العالم. ولكن لا شيء يضمنُ نجاحنا في ذلك. وفي صورة فشلنا في السيطرة عليها، فسنواجهُ، حينئذٍ، سنوات قادمة مظلمة للغاية. بالمقابل، وقوعُ الكارثة يظلُّ غير مؤكد، ولكي نتمكنّ من الحيلولة دون وقوعها، علينا أن ننظرَ بعيدًا، أمامنا وخلفنا، لكي نفهم ما يحدثُ في العالم بالضبط.
فعلى مدى الألف سنة الماضية، أدّى كل وباء كبير إلى تغييرات جوهريّة داخل أنظمة الأمم السياسيّة، وداخل الثقافات التي تبنى عليها تلك الأنظمة. ولو اعتمدنا الطاعونُ الكبير الذي عرفته أوروبا في القرن الرابع عشر وأودى بثلث سكانها، كمثال على ذلك، فسيكونُ بوسعنا القول، دون أن نسقط في فخّ تجاوز ما في التاريخ من تعقيد، إنّهُ ساهم في قيام القارة القديمة بمراجعة جذريّة لمكانة رجال الدين السياسية، ومن ثمّة أدّى إلى نشوء أجهزة الشرطة، باعتبارها الشكل الوحيد الفعّال لحماية أرواح النّاس. وهو ما أدّى إلى ولادة الدولة الحديثة، ومعها روح البحث العلمي، كنتائج مباشرة، أو كموجات صادمة، لتلك المأساة الصحيّة الكبرى. وهذه الولادةُ تعيدنا في الواقع إلى المصدر نفسه: مراجعة سلطة الكنيسة الدينية والسياسية، بعد ثبوت عجزها عن إنقاذ أرواح الناس أو حتّى إعطائها معنى للموت. ومن ثمّة حلّ الشرطيّ مكان الكاهن.
والأمرُ نفسهُ حصل مع نهاية القرن الثامن عشر، إذ حلّ الطبيبُ محلّ الشرطيّ، لأنّهُ عدّ أفضل وسيلة لمواجهة الموت.
وهكذا انتقلنا، خلال بضعة قرونٍ، من سلطة قائمة على الإيمان، إلى سلطةٍ قائمة على احترام القوّة، قبل أن نصل إلى سلطة أكثر فاعليّة، تقومُ على احترام القانون.
وإن نحنُ اعتمدنا على أمثلة أخرى، سنرى أنّ كلّما ضربت جائحة قارّة ما، إلا وقامت باثبات زيف المنظومات القائمة على المعتقدات والسيطرة، لفشلها في الحيلولة دون موت أعداد لا تحصى من البشر، ومن ثمّة ينتقم الناجون من أسيادهم، متسبّبين في اختلال علاقتهم مع السلطة.
واليوم أيضًا، إن ثبت عجز السلطات القائمة في الغرب عن التحكم في المأساة التي أطلت برأسها، فإنّ كلّ منظومات الحكم، ومعها كلّ أسس السلطة الأيديولوجية ستكون موضع مراجعة جذرية، ومن ثمّة سيقعُ استبدالها، ما أن تنتهي الفترة الحرجة، بنماذج جديدة قائمة على نوع آخر من السلط، وقائمة على الثقة في نوع آخر من المنظومات القيميّة.
وبعبارة أخرى، يمكن لنظام الحكم القائم على حماية الحقوق الفردية أن ينهار، جارّا معهُ، آليّتيه الرئيسيتين التي يرتكزُ عليهما، أي آليتي السوق والديمقراطية، وكلاهما اعتمد لإدارة عمليّة تشارك الموارد النادرة، في إطار من احترام لحقوق الأفراد.
فإذا سقطت أنظمة الحكم الغربية، لن نرى أنظمة رقابية استبداديّة تعتمدُ كليا على تقنيات الذكاء الاصطناعي تحلّ محلّها فحسب، بل سنشهد بروز أنظمة تقومُ بتوزيع الموارد على نحوٍ استبداديّ (وهذا ما عايناهُ في عدد من البقاع، وهي بقاع لم تكن مهيّئة لبروز أنظمة كتلك، بل ولا أحد كان يعتقدُ أن تظهر فيها، على غرار مانهاتن، حيثُ منع الناسُ مؤخرا من اقتناء أكثر من عبوتي أرز).
ولحسن حظنا، ثمّة درس نتعلّمه من هذه الأزمات وهو أنّ رغبة الناس في الحياة تظلّ هي الأقوى دومًا، وأنّهم في النهاية يتجاوزون كلّ ما يعترضهم في طريقهم لكي ينعموا بلحظاتهم النادرة فوق الأرض.
وبعد فترة من المراجعات العميقة لمفهوم السلطة، تسبقها مرحلة من الانحدار السلطوي، سعيا إلى المحافظة على تماسك سلاسل الحكم القائمة، والتنفيس الجبان، سنشهدُ ولادة سلطة جديدة، حالما تنزاحُ الجائحة، سلطة لن تقوم على الإيمان أو القوة أو العقل (ولا على المال أيضًا، باعتباره تجسيدًا نهائيا لسلطة العقل)، بل ستنتمي السلطة السياسية إلى أولئك الذين أظهروا تعاطفهم مع الآخرين، وستؤول الهيمنة إلى القطاعات الاقتصادية التي أظهرت تعاطفها مع الناس، كقطاعات الصحة، والمشافي، والتغذية والتعليم والبيئة، وهي قطاعات تعتمدُ، بالطبع، على كبرى شبكات إنتاج وتوزيع الطاقة والمعلومات، اللازمة في كلّ الأحوال.
سنتوقفُ كذلك عن شراء السلع غير الضرورية، بشكلٍ محموم، ونعودُ إلى أساسيات حياتنا، أي الاستفادة من مرورنا على هذا الكوكب إلى أقصى حدّ، كوكبٌ سنكونُ قد تعلّمنا أن ندرك كم هو نادرٌ وثمين. وحينئذٍ، سيتمثّل دورنا في جعل هذا الانتقال سلسًا قدر الإمكان، بدلاً من تحويل كوكبنا إلى حقل من الخرائب.
والحقّ أننا كلّما أسرعنا في تنفيذ هذه الاستراتيجية، كلما ابتعدنا عن هذه الجائحة، وما سيتبعها من أزمات اقتصادية رهيبة.