لا تتوقف عن تكرار المحاولة / محمد الأمين ولد الفاضل
يحكى فيما يحكى، أن أحد الزائرين لحديقة حيوان استوقفه مشهد فيل ضخم تم ربط إحدى رجليه بحبل ضعيف، وقد أثار ذلك المشهد استغراب الزائر، فما كان منه إلى أن سأل أحد العاملين في الحديقة عن السر وراء استسلام الفيل الضخم للقيد، ولماذا قبل أن يبقى مربوطا بحبل ضعيف يمكنه أن يقطعه عند أول حركة يقوم بها للتحرر من ذلك الحبل؟
كان الجواب الكاشف للسر، هو أن نفس الحبل كان قد قُيِّد به الفيل وهو ما يزال صغيرا، وأن الفيل في صغره حاول عدة مرات أن يقطع الحبل ويتحرر من القيد، ولكنه كان يفشل في كل مرة. بعد تلك المحاولات المتكررة استسلم الفيل للأمر الواقع، وقرر أن يتوقف نهائيا عن محاولة التحرر من القيد، وذلك لأنه لا يرى أي جدوى من تكرارها، وقد فات الفيل بأن أي محاولة جديدة له بعد أن كبر، ستكون كفيلة بقطع الحبل، بل وقطع عدة حبال مماثلة.
ما حدث مع الفيل يحدث معنا في الحياة، وبأشكال متعددة وفي صور مختلفة، فكل واحد منا هو في أمس الحاجة إلى أن يقطع حبالا من الأوهام والمعتقدات الخاطئة التي ما تزال تكبله، وتحرمه ـ بالتالي ـ من إعادة المحاولة حتى يحقق أو ينجز أشياءً كان قد فشل في انجازها في أوقات سابقة.
إن على من يسعى إلى تحقيق نجاح ما في أي مجال من مجالات الحياة، أن يدرك بأن تحقيق ذلك النجاح يتطلب ـ مع أمور أخرى ـ توفر شرطين أساسيين:
الشرط الأول: عدم التوقف عند المحاولة الأولى
من النادر جدا أن يتحقق أي إنجاز يذكر من خلال المحاولة الأولى، وأكثر الفاشلين فشلا هم أولئك الذين يتوقعون أن تأتي محاولاتهم الأولى بإنجازات هامة. إن هذا الاعتقاد الخاطئ سيجعل من يتوقع ذلك يصاب بالإحباط واليأس إن لم يُحقق إنجازا من خلال المحاولة الأولى، وهو ما سيؤدي به إلى أن يتوقف عند المحاولة الأولى، وإن هو أعاد المحاولة فسيعيدها بتشاؤم وبلا حماس، وهو الشيء الذي سيؤدي حتما إلى فشلها.
الشرط الثاني : إضافة الجديد مع كل محاولة جديدة
إن تكرار المحاولة مرة بعد مرة هو أسرع الطرق وأضمنها للوصول إلى الإنجازات الكبيرة، ولكن بشرط إضافة جديد مع كل محاولة جديدة، وتكرار المحاولات حتى وإن كانت فاشلة سيبقى من الأمور المفيدة، إن اكتسبت من ورائه معلومات وخبرات جديدة . يعدُّ”توماس أديسون” من أشهر المخترعين في العالم، وقد سجل باسمه في أمريكا لوحدها 1093 براءة اختراع ، من بينها براءة اختراع المصباح الكهربائي المتوهج الذي ساهم في إنارة العالم، ومع ذلك فقد جاء في كتاب “عظماء بلا مدارس” لمؤلفه “عبد الله صالح الجمعة” بأن “توماس أديسون” قد قام بعشرة آلاف تجربة على مركم ( بطارية)، وأن تلك العشرة آلاف تجربة لم تعط النتائج المرجوة، وقد حاول أحد أصدقائه أن يواسيه، فما كان من “أديسون” إلا أن قال له : “لماذا؟ أنا لم أفشل، لقد اكتشفت 10 آلاف طريقة لا تؤدي إلى الهدف المطلوب”. إن تكررا المحاولة هو أمرٌ في غاية الأهمية، ولكنه يجب أن يضبط بمعايير ومقاييس محددة لعل من أهمها :
1 ـ أن لا تُعيد المحاولة دون أي تعديل أو تغيير، فإعادة المحاولة دون أي تعديل أو تغيير هو عمل عبثي وساذج، ومن صور الفشل تكرار المحاولة دون أي تعديل أو تغيير. يقول “آلبرت آنشتاين” : “الغباء هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى بنفس الأساليب وتتوقع نتائج مختلفة!”.
2 ـ أن تعيد المحاولة وأنت على قناعة بأن فشلك في المرة السابقة سيمكنك من أن تعيدها بخبرات أكبر قد اكتسبتها من ذلك الفشل. إن كل محاولة فاشلة ستمنحك خبرات جديدة، وتلك الخبرات يجب أن تستفيد منها مع كل تكرار للمحاولة. كان “سويشيرو هوندا ” مؤسس شركة “هوندا” للسيارات لا يخجل من الاعتراف بأنه قد ارتكب الكثير من الأخطاء في حياته، ولكنه كان يقول دائما بأنه لم يرتكب نفس الخطأ مرتين.
3 ـ أن تعيدها بثقة أكبر في النفس وبحماس أقوى من حماسك عند المحاولة السابقة. هذه الثقة في النفس وذلك الحماس لن يتأتيا إلا إذا تولد لديك اعتقاد قوي بأن فشلك السابق قد منحك خبرات جديدة، وأن هذه الخبرات الجديدة التي اكتسبتها ستتيح لك الفرصة لأن تكرر المحاولة من جديد بذكاء أكبر وبخبرات أفضل.
إن من أقوى تعريفات النجاح هو ذلك التعريف الذي ينسب إلى “ونستون تشرشل”، والذي كان قد تولى رئاسة الوزراء في بريطانيا في ظرفية عصيبة (1940 ـ 1945) ، والذي يصنف على أنه أعظم بريطاني على مر العصور . يقول هذا التعريف بأن “النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل دون فقدان الحماس”! هناك أيضا تعريف قوي للفشل من المهم أن نذكر به في هذا المقام، ويقول هذا التعريف بأن الفشل ما هو إلا مجموعة من التجارب التي تسبق النجاح.
إن أولئك الذين ينسحبون بعد فشل المحاولة الأولى، أو يكررون نفس المحاولة دون أي تعديل لن يحققوا في حياتهم إنجازات تذكر. أما الذين يرفضون الانسحاب بعد فشل المحاولة الأولى، ويصرون على تكرار المحاولة تلو المحاولة مستفيدين من محاولاتهم السابقة، فهؤلاء هم الذين سيحققون في نهاية المطاف نجاحات خالدة.
وإذا ما تأملنا في سير العظماء عبر مختلف العصور فسنجد ما يؤكد ذلك، ولأن المقام لا يتسع لتقديم الكثير من الأمثلة، فسنكتفي بالتوقف بشكل سريع مع محطات من سيرة حياة صحابي جليل، وأخرى من سيرة حياة مؤسس واحدة من كبريات شركات السيارات في العالم.
سلمان الفارسي والبحث عن الحقيقة
عاش سلمان الفارسي رضي الله عنه طفولة مدللة، و كان والده غنيا ويحبه حبا عظيما، وقد اجتهد سلمان في صغره في المجوسية حتى أصبح قطن النار الذي يوقدها، ولا يتركها تخبو، وذات يوم شُغِل والد سلمان عن ضيعة عظيمة كان يملكها، فطلب من ابنه أن يذهب إليها ويتفقدها، وفي الطريق إليها مر سلمان بكنيسة للنصارى كانوا يتعبدون فيها، فأعجبته صلاتهم، فسألهم عن أصل دينهم، فأجابوه بأنه في الشام.
كانت تلك هي بداية رحلة فريدة من نوعها للبحث عن الحقيقة. لقد قرر سلمان رضي الله عنه أن يترك حياة الترف في قريته، وأن يهرب مع إحدى القوافل المتوجهة إلى الشام، وبعد أن وصل إلى الشام سأل عن أفضل رجال أهل هذا الدين، فقيل له بأنه الأسقف الذي يوجد بالكنيسة، فأسرع إليه وطلب منه أن يعلمه أمور دينه. عاش سلمان مع الأسقف، وقد كان هذا الأسقف جشعا يجمع أموال الصدقات لنفسه ولا يعطيها للفقراء.
هذه كانت هي نتيجة أول محاولة في رحلة سلمان للبحث عن الحقيقة، وقد كانت بمنطقنا نحن محاولة فاشلة وصادمة، وكانت تفترض وفق منطقنا أن يعود سلمان إلى أهله، وأن يترك البحث عن الحقيقة، وذلك بعد أن اطلع على خبث وجشع أسقف الكنيسة . بقى سلمان رضي الله عنه مع ذلك الأسقف حتى مات، وبعد موته انتقل إلى الأسقف الجديد، وكان رجلا ورعا طيبا على عكس سلفه. بقي سلمان مع الأسقف الجديد إلى أن حان أجله، فطلب منه أن يوصيه فأوصاه بأن يذهب إلى رجل دين في الموصل، فذهب إليه وعاش معه إلى أن حضرته الوفاة، فطلب منه سلمان أن يدله إلى أين يذهب فقال له بأن يذهب إلى نصيبين ففيها رجل دين ورع، وبقي سلمان مع ذلك الأسقف حتى جاء أجله فطلب منه أن يوصيه، فأوصاه أن يذهب إلى عامورية فسيجد بها قسا ورعا، فذهب إلى عامورية وعاش فيها مع القس الصالح، إلى أن حضرته الوفاة فسأله سلمان ماذا يفعل من بعده، فقال له بأنه لا يعلم أحدا على مثل ما هو عليه، ولكن سيخرج في أرض العرب نبي من بني إسماعيل فإن استطعت أن تلحق بهذه البلاد فافعل، فخرج سلمان يبحث عن النبي المنتظر، وأعطى لقافلة تجار كانت متجهة إلى هناك بقرات وغنيمات كان يملكها، وذلك مقابل أن يوصلوه إلى بلاد العرب، وفي الطريق باعوه لرجل من اليهود، وبذلك أصبح الولد المدلل الهارب عن أهله عبدا مملوكا لتاجر يهودي.
بتوفيق من الله وبهداية منه أكمل سلمان رضي الله عنه رحلته الطويلة والشاقة، والتي أوصلته في نهاية المطاف إلى يثرب التي أسلم فيها، وذلك بعد أن التقى برسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. كانت رحلة سلمان للبحث عن الحقيقة، رحلة شاقة يصعب تحملها، فمن ذا الذي يستطيع أن يتخذ قرارا بترك حياة الترف ليتفرغ للبحث عن الحقيقة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يواصل الرحلة بعد المحطة الأولى والتي كانت صادمة جدا؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يتجاوز المحطات الأخرى إن افترضنا جدلا بأنه تمكن من تجاوز المحطة الأولى؟
أترك لكم الإجابة على تلك الأسئلة.
“سويشيرو هوندا” والعزيمة التي لا تقهر
ولد “سويشيرو هوندا” في يوم 17 نوفمبر 1906، في بلدة يابانية صغيرة، وكان والده يمتلك ورشة صغيرة لإصلاح الدراجات الهوائية، وبدأ “هوندا” طفولته في مساعدة والده في ورشته. عندما بلغ عمر “هوندا” 15 سنة قرر أن يذهب إلى طوكيو بحثا عن فرصة عمل، فحصل على وظيفة “متعلم مبتدئ” في ورشة لإصلاح السيارات. بعد ست سنوات من العمل في هذه الورشة اقترض “هوندا” مالا وفتح ورشته الخاصة به في بلدته. أخذ “هوندا” يصنع بعض قطع الغيار ( حلقات المكبس) لصالح شركة “تويوتا”، وقد رفضت “تويوتا” في بادئ الأمر المكبس الذي صممه “هوندا”، فما كان منه إلا أن عاد للتعلم والتجارب لمدة سنتين صنع من بعدها مكبسا وافقت شركة “تويوتا” على شراء كميات كبيرة منه، وهو ما استوجب من “هوندا” تشييد مصنع لإنتاج الكميات المطلوبة. في تلك الفترة كانت اليابان تستعد للحرب، وكان السلطات تمنع بيع الاسمنت للاستخدامات غير العسكرية. لمواجهة هذا العائق قرر “هوندا” وعماله أن يصنعوا ما يحتاجونه من اسمنت لتشييد مصنعهم.
تعرض المصنع بعد تشييده للقصف مرتين من طرف طيران الحلفاء، فلم يكن من “هوندا” إلا أن أخذ يجمع علب البنزين الفارغة التي كانت تتخلص منها طائرات الحلفاء، ويحولها إلى مواد خام لمصنعه، وكان يعتبر تلك العلب الفارغة هدايا من العدو.
لم تتوقف المشاكل التي واجهها “هوندا” عند قصف مصنعه، بل حدث بعد ذلك ما هو أخطر من القصف، حيث تعرض المصنع والمنطقة التي يوجد بها لزلزال مدمر.
كل تلك المصائب لم تجعل “هوندا” يستسلم، ويرفع الراية البيضاء، ولم تجعله يتفرغ فيما تبقى من حياته للعن أمريكا وللحديث عن المؤامرة الكونية التي يتعرض لها، بل على العكس من ذلك فقد قرر “هوندا” أن يخرج من أنقاض القصف ومن ركام الزلازل بواحدة من أكبر شركات السيارات في العالم، والتي ستغزو السوق الأمريكي وبقية أسواق العالم بدراجاتها الشهيرة وبسياراتها التي لا تقل شهرة.
إضاءة : إن من أسرع الطرق للوصول إلى المحطة النهائية للفشل هو أن تتوقف عند المحاولة الأولى، أو أن تعيد تلك المحاولة دون الاستفادة من أخطائها.
هذا هو المقال الرابع من سلسلة المقالات المتخصصة في تنمية وتطوير الذات، والتي كنتُ قد وعدتُ بكتابتها ونشرها في وقت سابق، وسأعمل مستقبلا على جمعها في كتاب عندما تكتمل بإذن الله . المقال الأول كان عن الموهبة (لا تضيع قطعة الماس !؟ ) والمقال الثاني كان عن إدارة الوقت ، أما الثالث فقد كان عن استثمار المشاكل.