عناصر القوة في الدولة الموريتانية ..
أربعاء, 12/02/2020 – 08:07
الضابط و الكتاب الموهوب / سيدنا عالي المصطفى
نشر الضابط في قطاع الدرك الوطني سيدنا عالي المصطفى مقالا متماسكا عميقا فيه يذكر مكامن القوة في الدولة الموريتانية الحديث و قابيلة استمرارها كدولة قوية في محيط إقليمي متحول وغير قار بالمرة تتقاذه الازمات و القلاقل و الاطماع .
الضابط و الكاتب الموهوب سيدن عالي المصطفى كتب مايلي :
أعرف أننا لم نتعود على التفكير في أننا كموريتانيين نمتلك دولة لها نقاط قوة لأننا تعودنا على جلد الذات وتحقير الأنا الجمعي ودرج مثقفونا على الرؤى الفوقية وإعادة إنتاج مقولات خارجة على السياق الفعلي لدولتنا ومنطلقة من رؤى فلسفية وتبريرية منطقية انتجها ترف المستشرقين ومعدوا تقارير وزارة المستعمرات الفرنسية ترى في المجال الذي توجد فيه دولتنا بأنه مجال طارد للدولة وبالتالي تحكم على مشروع الدولة فيه بالفشل منذ البداية
وآخر هذه الصيحات كانت نظرية المفكر الموريتاني الكبير بدي ولد أبنو عن دولة المشروع التي ضمنها كتابه موريتانيا إلى أين؟ حيث عمق الشك الثقافي حول جدوى استمرار الدولة الموريتانية مؤكدا نظرية افتعال المستعمر لها قافزا على الواقع وحاكما عليه بنفس الرؤى الفوقية غير مهتم بدراسة أكثر من نصف قرن من التفاعلات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية معمقا الرؤى القديمة الفوقية ومبررا بها السياقات التي أنتجتها الدولة خلال عمرها الحديث وكأنه يؤكد ضمنيا من خلال عنوانه التنيجة الحتمية لسير السياق الفكري الذي يغرد فيه وهو حتمية موت هذه الدولة رغم ان نظرة رصدية بسيطة لآلبوم ذاكرتها الحديثة تثبت العكس إذ أنها تعج بمظاهر الحياة والتطور وسط اهتزازات محيطها الجغرافي والجيوستيراتيجي الذي شهد انهيار ليبيا وفشل مالي وما عانته الجزائر في العشرينية الحديثة من مشاكل كل ذالك لم يشفع لهذه الدولة في التحرر من مسلمات معرفية مترفة بناها سياح ومتعجلون وموظفون للادارة الاستعمارية مبررين بها وجودها ومستشرفين انطلاقا منه مستقبلها
للامانة لم أقرأ الكتاب فقط تابعت مقابلة للكاتب عن مضمونه على إحدى الفضائيات الوطنية ولذالك لست هنا في معرض مناقشته بل فقط ولَّد لدي ذالك الحوار خلاصة عن المفاهيم المعرفية المضمنة في الكتاب وهو لا يختلف تبعا لما فهمت عن ما ذهب إليه آخرون كولد بريد الليل وغيره من المفكرين الموريتانيين ذوي الخلفية التشكيكية في مشروع الدولة الوطنية بهذا المجال والذين يحلوا لهم ربط وجود الدولة بمصطلح الطرد وهو مصطلح قاسي وانفعالي ورافض مما يجعل استخدامه كأداة معرفية بعيد عن ما ترتبه المعرفة من حياد وتحرد وانصاف وواقعية ويحيل إلى الطبيعة الفلسفية المنبتة عن الواقع لنظرة مفكرينا في مناقشة سؤال الدولة
إن تبرير وجود الدولة بأنها نتيجة لاكتشاف جبل الحديد ثم السمك وأخيرا ربطها بالغاز هو طرح لمسلمات فكرية جاهزة هي أقرب لصناعة نظرية فلسفية منها إلى قراءة متجردة للواقع لأنها تريد فرض نفسها على الواقع أكثر من أن تكون تسعى لفهم هذا الواقع هذه القراءة تجعل قيام الدولة مربوط بمبرر اقتصادي عابر وبمسوغات موضوعية خارجة عن الذات الوطنية التي لا يريدون الاقتناع بأنها شيء آخر غير شجرة “لعلندَ” لا تقف لوحدها في حين أن الدولة لم ترتبط وجوديا لا بالحديد ولا السمك ولا اعتقد أنها سترتبط بوجود الغاز لأنها تمتلك مقومات وجود مستقلة عن هذه المسائل العرضية التي قد تثري لكنها لا تأسس
موريتانيا بعيدا عن الإطار النظري للفلسفة وانطلاقا من دراسة واستقراء لمقومات القوة التي تمتلكها أثبتت خلال الخمسين سنة الماضية أنها أقدر على الوجود والاستمرار مما روج له معظم المفكرين والكتاب الذين تحدثوا عنها برؤى متعددة استشرافية وتاريخية لكنها ظلت حبيسة مسلمات ميتة لا تصلح لدراسة كائن حي لقد أثبتت أنها امتلكت مقومات قوة طورتها خلال عمرها الفتي يمكن أن نجملها في النقاط التالية
1 ـ المرونة: تعتبر الدولة شكلا من أشكال القوالب يتم عادة ضغط الشعب داخلها وتقييده بالقوانين والأطر التنظيمية ولذالك تبقى الدول حديثة النشأة التي لم تولد نتيجة لتراكمات معرضة للانفجار وهو ما يؤدي بالكثير منها إلى التفكك والانهيار نتيجة للحروب الأهلية والثورات إلخ ولكن الدولة الموريتانية التي انعقد اجتماعها الوزاري الأول تحت خيمة أخذت من رمزية الخيمة شكلها ذالك الإطار السكني الذي يحمي من الشمس والمطر ويؤمن مكان للراحة والعيش لكنه يبقى مفتوحا من كل الجهات يمكن دخوله ويمكن الخروج منه دون تعقيد أو الحاجة لباب واحد وإجراءات معينة ربما مرونة الخيمة فوضوية أكثر من اللازم لكن مجتمع الصحراء وضفة النهر العليا الذي لم يتعود على المدنية وبالتالي لا يمتلك تراكمات يحتاج لاطار مرن يضمن استعابه دون ضغط إطار جاهز للتاقلم مع الطبيعة الرعوية والزراعية لساكنته هذه المرونة تمكن من التشكل الهاديء لشخصية الدولة وتضمن نموها بشكل سلس يفتح المجالات لفوضوية التفاعلات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية وهو مايتم حاليا في أعلى صوره دون أن يكون هناك تهديد فعلي لكيان الدولة نتيجة له
2 ـ الحرية: ربما ينظر البعض انطلاقا من تصنيف موريتانيا في مجال الحريات وخصوصية الصحفية المتقدم عربيا وإفريقيا بنوع التجاهل إن لم يكن التفنيد وهو إفراز للنظرة التي تدمن جلد الذات ولا تقتنع إلا بما هو سلبي فقط عند الحديث عن الذات الجمعية الوطنية في المقابل ترى أكثرنا يهلل للتصنيفات السلبية ويتماهى معها بنوع من المازوشية التي لن يفهمها الآخر لكنها تتسق مع ما يراد لنا أن نعتقده ويكرره على آذاننا المثقفين ورجالات الفكر والذي لا يجدون أنفسهم إلا اذا تكلموا بتلك الطريقة التي كرست ثقافة سلبية في نقد الذات لكن الحرية جزء جوهري من تكوين عقل أهل هذه الربوع لأنه عقل منفتح نتيجة لطبيعة الترحال وسعة الصحراء لذلك فالإنسان الموريتاني حر بطبعه يعبر بفوضوية والمتصفح لصحافتنا أو إعلامنا الإجتماعي سيرى حجم الحرية الذي يتجاوز كل الحدود ورغم النقد المبرر الذي قد يوجه لهذه الظاهرة فإنها تبقى ظاهرة صحية تمكن من التنفيس وتسمح بطرح جميع القضايا ومناقشتها بدلا من تركها مدفونة تتعامل حتى تنفجر لا قدر الله وعندها لا أحد سيعرف إلى
أين ستقود ونماذج الانفجار كثيرة في الآونة الأخيرة
3ـ الثراء : ينظر الكثيرون إلى تنوع المجتمع الموريتاني من زاوية التناقض ويرصدون غالبا مظاهر الخلاف وبؤر التوتر على أنها دليل على أنه مجتمع غير متجانس ويحكمون عليه من هذه الزاوية بالفشل الوشيك متأثرين بالسياق الفوقي الذي يحكم على المجال الموريتاني بأنه طارد للدولة وبالتالي تصبح تلك المشاكل والجدالات قنبلة منزوعة الفتيل يتوقع أن تنفجر في أي وقت ويغيب عنهم أن يقرؤوا التاريخ الحديث ليدركوا أن من مصادر قوة الدول تنوعها وأن الدولة المتجانسة لا تمتلك المؤهلات التي تساعد على التطور يغيب عنهم المثال الأمريكي والهندي والبراويلي والجنوب إفريقي لذلك من نقاط قوة الدولة في موريتانيا ثرائها وما الجدالات والنقاشات الجارية مهما بلغت حدتها إلا حراكا يعتمل ضمن الأطر الطبيعية سيبني التعايش بشكل واثق على أسس سليمة وسيجعل الدولة في المستقبل إن شاء الله تنموا على تلك الرافعة القوية التي توحد ميكانيزمات ومصادر قوة مختلف الأطراف من أجل نهضة حقيقية وسليمة خصوصا مع وحدة المعتقد حيث يدين جميع المواطنين بالإسلام ويؤدون صلاتهم أكثر من خمس مراة في اليوم تعبدا لله عز وجل مستخدمين اللغة العربية في قراءة السور والآيات وهي اللغة الرسمية للبلد
4 ـ الدور : توجد دول عالة على منطقتها والعالم ربما يصح فيها ما قاله ولد أبنو عن بلادنا وهو أنها نتاج مشروع مسوقات وجودها متعلقة بجبل معدن أو غاز الخ لأنها لا تقوم بأي دور حيوي أو وظيفة ضرورية حضارية أو جغرافية وتلك الدول مؤجلة الدفن إن صح التعبير وموريتانيا ليست كذالك لأنها تقوم بوظيفة وصل حضاري وجغرافي بين شمال القارة وجنوبها وتعمق هذا الدور وتطور عندما أدرك العالم أهمية موريتانيا بعد موجة الإرهاب التي ضربت شبه المنطقة وبروز الدور الموريتاني الحيوي والفاعل حين فشلت دول كان ينظر إليها على أنها تفوقنا كنشروع دولة بالنظر إلى الشكل واتضح عندما ظهر المضمون العكس
في الأخير أتذكر نقاشا إفريقيا عابرا حول مواجهة دول المنطقة الغرب إفريقية للارهاب شارك فيه بعض موظفي دول غرب إفريقيا وبرزت خلاله اشادات منبهرة ببلادنا في مواجهة الألم الغرب إفريقي من فشل الدولة المالية في مواجهة الإرهاب رغم اجماع أغلبهم على توفر ظروف موضوعية مساعدة لمالي أكثر مما هو متوفر لموريتانيا من حيث التسليح وعدد السكان إلخ لكن افواريا وقف فجأة بصراحة أبناء ذالك البلد وخفة دمهم وقال “عملت في موريتانيا ضمن طاقم سفارة كوت ديفوار لمدة تقترب من العامين ولما حلقت بي الطائرة فوق أنواكشوط لأول مرة ورأيت بناياتهم الهزيلة ضحكت ساخرا لأنني كنت قد اقلعت من أبدجاه وتعود بصري على ناطحات السحاب لكنني عندما اقلعت من مطار أنواكشوط آخر مرة ونزلت في أبدجاه وهي تحت حماية الفرنسيين أدركت الفرق في موريتانيا بنوا دولتهم لأنفسهم ولذالك مازالت بناياتهم هزيلة وفي البلدان الغرب إفريقية الأخرى بناها لنا المستعمر ولذالك هم قادرون على الدفاع عنها أما نحن فتعودنا على وجود المستعمر ولذالك نطلب منه كلما واجهتنا مشكلة أن يدافع عنا”.