أخطبوط الدولة العميقة: حينما تحكم السلطة التي لا تُرى/د.محمدعالي الهاشمي

 

كثيرًا ما أسمع البعض، في اللقاءات الخاصة أو الحوارات العامة، يتحدثون عن “الدولة العميقة” وكأنها كيان غامض لا يُفهم تمامًا.
وقد رأيت من المفيد أن أشارككم هذه التدوينة التحليلية، التي لا تكتفي بتوصيف الظاهرة، بل تحاول أن تفتح النوافذ لفهم جذورها، آليات عملها، وأثرها على الدولة والمجتمع.

إنها محاولة لتفكيك ما وراء الستار، ليس بدافع الإثارة، بل من أجل الوعي…
فالسلطة التي لا تُرى، قد تكون أحيانًا أقوى من كل ما نراه

في عالم السياسة، هناك دولتان:
واحدة نقرأ عنها في الأخبار، نراها في الصور، ننتخب مؤسساتها ونراقب قراراتها…
وأخرى لا تظهر للعلن، لا تخضع للمساءلة، لكنها تحكم فعليًا كل مفصل من مفاصل الدولة.
إنها الدولة العميقة… الكيان الموازي الذي لا يُنتخب، لكنه يعيّن. لا يُحاسب، لكنه يُقرر. لا يظهر، لكنه حاضر في كل شيء.

أولًا: تعريف الدولة العميقة

مصطلح “الدولة العميقة” ظهر في تركيا خلال تسعينيات القرن الماضي باسم Derin Devlet، لوصف تحالف غير معلن بين عناصر في الجيش والمخابرات والقضاء والمافيا ورجال الأعمال، ورجال الدين يعمل في الخفاء للسيطرة على القرار السياسي، خاصة في وجه التيارات التي تهدد امتيازاتهم، سواء كانت ديمقراطية أو إسلامية أو اجتماعية.

المفهوم سرعان ما توسّع ليشمل بلدانًا عديدة، من الولايات المتحدة إلى فرنسا، ومن إيران إلى دول العالم العربي والإفريقي، حيث نجد أن شبكات النفوذ غير الرسمية غالبًا ما تتغلغل داخل الأنظمة السياسية وتتحكم بها من وراء الكواليس.

ثانيًا: الجذور التاريخية

الدولة العميقة لا تنشأ من فراغ، بل تتكون في بيئات معينة أبرزها:
1. غياب الديمقراطية أو ضعفها، حيث تصبح الأجهزة الأمنية والعسكرية بديلاً للشرعية الشعبية.
2. المرحلة ما بعد الاستعمار، إذ تعيد النخب التابعة للاستعمار القديم تشكيل نفسها كدولة ظل داخل الدولة المستقلة.
3. الخوف من الانهيار أو التطرف أو الفوضى، مما يُستخدم كذريعة لتشكيل شبكات نفوذ “تحمي الدولة” بينما هي تبتلعها.

ثالثًا: من هم أذرع الدولة العميقة؟

تمتد أذرع الأخطبوط في كافة الاتجاهات:
• الاستخبارات تراقب، توجه، وتُصفّي.
• الجيش يحسم حين تخرج الأمور عن السيطرة، أو حين تلوح رياح التغيير.
• القضاء يُشرعن، يعطل القضايا، ويمنح الغطاء القانوني للفساد.
• الإعلام يصنع الروايات، يشوه المعارضين، ويوجه الرأي العام.
• رجال المال والأعمال يموّلون، يشترون الذمم، ويسيطرون على مفاتيح الاقتصاد.
. رجال الدين العلماء والفقهاء والأئمة

• الإدارة البيروقراطية تحصّن النفوذ وتبني جدرانًا داخل الدولة لا يمرّ عبرها إلا أبناء “العائلة العميقة”.

رابعًا: ماذا تفعل الدولة العميقة؟

أنشطتها لا تقتصر على التوجيه بل تشمل:
• الاغتيالات والتصفيات لكل من يقترب من كشف المستور.
• الابتزاز بالملفات وتهديد الخصوم السياسيين.
• شراء الولاءات عبر المناصب، المال، والعقارات.
• التخريب والإفساد لمنع أي مشروع وطني لا يصب في مصلحتها.
• نشر التضليل الإعلامي وترويج رواية بديلة للحقيقة.
• التحالفات الخارجية لضمان الحماية والدعم الدولي مقابل تنفيذ أجندات خفية.
• تخويف المجتمع بشعار “إما نحن… أو الفوضى”.

والمفارقة أن أبناء هذه الشبكات الحاكمة غالبًا ما يكونون جهلة، مفسدين، عاجزين عن القيادة، مدمنين، أو طفيليين… لكنهم ورثوا النفوذ كما يُورث العقار.

خامسًا: لماذا يصعب تفكيك الدولة العميقة؟

لأنها لا تواجهنا مباشرة، بل:
• تتلوّن بحسب النظام القائم: عسكري، مدني، ديني، أو حتى ثوري.
• تملك أرشيفًا مخيفًا من الأسرار والملفات يجعل الجميع عرضة للضغط.
• تسيطر على مفاصل القرار: من القضاء إلى الإعلام إلى المال.
• تفهم قواعد اللعبة الدولية، وتبني علاقات ذكية مع سفارات وأجهزة أجنبية تحميها مقابل الولاء أو المعلومات.

سادسًا: الديمقراطية… الخصم الأول

الدولة العميقة لا تخشى إلا صوت الشعب الحقيقي، ولهذا تقاتل الديمقراطية بكل الوسائل:
• تُطلق حملات إعلامية ضد القيادات المستقلة.
• تُحرك القضاء لتوريط الإصلاحيين.
• تُفجّر أزمات وهمية لزعزعة الثقة.
• وإن فشلت كل الوسائل… يكون الاغتيال السياسي هو الملجأ الأخير.

سابعًا: هل يمكن تحجيم الدولة العميقة؟

نعم، ولكن بشروط حازمة:
• إرادة سياسية لا تخضع ولا تساوم.
• إعلام حر يُسلّط الضوء على الظلال.
• وعي شعبي منظم، لا غوغائي.
• قضاء محصن من الإملاءات.
• تجفيف منابع المال الفاسد، وتحطيم شبكة الولاء الزبائني.

خاتمة: الدولة العميقة ليست خرافة

إنها واقع مرير يُفسّر أزمات الحكم المزمنة، وانهيار المشاريع الوطنية، وتكريس الرداءة بدل الكفاءة.
هي الوجه الخفي للسلطة، والعدو الصامت لأي محاولة تغيير حقيقي.

والسؤال اليوم ليس: هل الدولة العميقة موجودة؟

بل: هل نملك الشجاعة والوعي لتفكيكها؟

وهل هناك إرادة حقيقية لرد الدولة إلى شعبها ؟