*من أجل حوار يؤسس لنهضة موريتانيا الحديثة* بقلم : عبد الله ولد بونا /خبير استراتيجي
14آغشت 2025
لا ريب أن هناك إرادة قوية لدى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للتأسيس لتحول آمن وإصلاح عميق يكون نواة حقيقية لإصلاح شامل يفتح آفاقًا حقيقية لموريتانيا الحديثة.
هذه الإرادة، إذا أحسن تنفيذها عبر مسار وطني جامع، يمكن أن تتحول إلى نقطة انعطاف تاريخية في مسار الدولة، بما يضمن الانتقال من حالة التسيير التقليدي للمؤسسات إلى بناء دولة مؤسسية حديثة، قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، مع الحفاظ على الثوابت التي تميز هوية موريتانيا المسلمة العربية الإفريقية كجمهورية ودولة مواطنة.
ومن الطبيعي أن يكون هناك خوف ورهبة من الإصلاح والتغيير ، لدى النخب السياسية والإدارية والمالية ، التي تعودت على صناعة المصالح ، من الوضع الرتيب القائم منذ الاستقلال.
لكنه خوف لا مبرر له ، فموريتانيا الحديثة ، الناهضة اقتصاديا واجتماعيا ، ستكون أكثر فرصا للجميع.
ومن المؤسف أن تكون هناك مقاومة ضد الإصلاح الذي يريده الرئيس ولد الغزواني ، من داخل فريق عمله القيادي في جهاز الدولة ، مقاومة تختفي خلف تقديم استشارات وآراء هدفها لفت انتباه الرئيس عن طريق الإصلاح الحقيقي ، بجج واهية
إن التأطير الدستوري والقانوني للأصلاح الشامل هو أول خطوة باتجاه بناء موريتانيا حديثة مختلفة عن الماضي الرتيب
العقدة: فجوة البنية الدستورية والقانونية
رغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال، لا تزال البنية الدستورية والقانونية في موريتانيا تحمل بصمات المراحل الانتقالية والضرورات الظرفية، أكثر مما تعكس رؤية استراتيجية لدولة حديثة.
فالدستور الحالي، رغم ما يوفره من إطار عام، لم يخضع لمراجعة شاملة تواكب التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وظل القانون المنبثق منه في كثير من الأحيان موزعًا بين نصوص متقادمة وتعديلات جزئية لا تشكل مشروعًا إصلاحيًا متكاملًا.
أبرز نقاط الضعف تشمل:
توازن السلطات: ضعف آليات الرقابة المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ما يحد من فعالية النظام الديمقراطي.
التمثيل السياسي: قصور النظام الانتخابي عن إنتاج مؤسسات تمثيلية تعكس بدقة التنوع المجتمعي والجهوي، وتفرز كفاءات مؤهلة.
استقلال القضاء: استمرار ثغرات تجعل القضاء عرضة للتأثيرات السياسية والإدارية.
الحكامة المحلية: محدودية الصلاحيات الممنوحة للسلطات الجهوية والمحلية، ما يعيق التنمية المتوازنة.
حماية الثروات الوطنية: ضعف الإطار القانوني لضمان إدارة شفافة ومستدامة للموارد الطبيعية.
ضمان الحقوق والحريات: الحاجة لتعزيز الضمانات الفعلية لممارسة الحريات العامة والفردية في إطار المرجعية الإسلامية.
الحل: حوار وطني للإصلاح الدستوري والقانوني
الحوار الوطني المنشود يجب أن يتحوّل إلى منصة توافقية لصياغة إصلاحات دستورية وقانونية كبرى، تعيد بناء الدولة على أسس صلبة، عبر:
1. تحديث الدستور بما يرسّخ مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات، ويعزّز صلاحيات البرلمان في الرقابة والمساءلة، مع تقليص هامش التفرد التنفيذي.
2. إصلاح النظام الانتخابي ليضمن التمثيل العادل والمتوازن، ويشجع على بروز أحزاب قوية وبرامجية، ويحدّ من التشتت السياسي.
3. تعزيز استقلال القضاء من خلال آليات محصّنة لاختيار القضاة وترقيتهم، وضمان عدم تبعيتهم لأي سلطة سياسية.
4. ترسيخ اللامركزية بإعطاء المجالس الجهوية صلاحيات فعلية في التخطيط والتنفيذ، وتمكينها من الموارد المالية والبشرية.
5. تحصين الثروات الوطنية عبر قوانين شفافة تحدد شروط استغلالها، وتضمن أن تعود عائداتها للتنمية الوطنية، مع رقابة مؤسسية ومجتمعية.
6. حماية الحقوق والحريات في إطار يوازن بين مقتضيات الشريعة الإسلامية ومتطلبات الدولة الحديثة، بما يعزز دولة المواطنة والعدالة.
الاستفادة من التجارب المماثلة
دول عدة واجهت تحديات مماثلة لما تواجهه موريتانيا اليوم، ونجحت في استثمار الإصلاحات الدستورية والقانونية لدفع نهضتها:
الجزائر: بعد الاستقلال، قامت سلسلة إصلاحات دستورية وقانونية أعادت هيكلة مؤسسات الدولة وأرسَت أسس الدولة الوطنية، مع التركيز على سيادة القانون، وتعزيز مشاركة المؤسسات في مرحلة لاحقة. التجربة الجزائرية تظهر أهمية الموازنة بين الإصلاح العميق للسلطات والحفاظ على الاستقرار السياسي.
تونس: تجربة 2011 وما تلاها من مراجعات دستورية أظهرت أن الدستور الجديد يمكن أن يصبح منصة توافقية توازن بين الحرية والمساءلة، مع تعزيز الحقوق والحريات الأساسية، ما يبرز أهمية صياغة نصوص واضحة وجامعة تعكس الإرادة الوطنية.
دول إفريقية أخرى مثل غانا وكوت ديفوار: أظهرت هذه التجارب أن الإصلاحات القانونية المؤسسية، عند ربطها بخطة تنموية واستراتيجية، يمكن أن تعزز الاستثمار المحلي والأجنبي، وتدعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
هذه التجارب تؤكد أن الحوار الوطني المنظم والمستند إلى رؤية إصلاحية شاملة قادر على إرساء أسس نهضة حديثة، شرط أن تراعي الثوابت الوطنية وتحمي مكتسبات الدولة والمجتمع.
نحو نهضة شاملة
إذا ما تم اعتماد هذا المسار، فإن موريتانيا ستكون على طريق تحوّل مؤسسي واقتصادي واجتماعي متوازن، يحقق الاستقرار السياسي، ويضمن التمثيل العادل، ويعزز حكم القانون، ويطلق الإمكانات الكامنة في الموارد الطبيعية والطاقات البشرية. الحوار الوطني بهذا المعنى ليس مجرد منبر لتبادل الآراء، بل أداة عملية لتأسيس نهضة موريتانية حديثة، تحمي الهوية الوطنية، وتؤسس لدولة مؤسسية قادرة على التنمية المستدامة والمواطنة الكاملة.
دولة تنطلق حكومتها من رعاية مصالح المواطنين وحمايتها ، وتتمحور كل البرامج الحكومية حول نفس الهدف
تحقيق الحياة الكريمة للمواطنين وحماية السيادة الوطنية ، وخلق المصالح المشتركة مع دول العالم على أساس اولويات الشعب الموريتاني
إن غرق بعض النخب الحاكمة والنخب السياسية الموالية والمعارضة في مستنقع الخطاب العنصري الشرائحي واللوني ، والتمسك بتلك الخنادق المتنافرة المتدابرة ، يتتاقض تماما مع الهدف من الحوار الوطني ومع الرؤية التي يجب أن يجمع عليها الجميع ، رؤية الحاجة للإصلاح الشامل بروح وطنية تترفع عن الموروث السياسي السلبي الغارق في الماضي.
إذا لا نستطيع صناعة المستقبل بالركض إلى الماضي ،والغرق فيه، فعلينا أن نتقن صناعة الحاضر من أجل صناعة مستقبل أفضل لكل الموريتانيين.
ورغم مسحة اليأس والتشاؤم الغالبة في الوقت الراهن على نسبة معتبرة من الموريتانيين ، إلا أن تغيير الواقع إلى الأفضل طموح يسهل تحقيقة إذا أراد الموريتانيون ذلك بوعي وتصميم على النجاح.
فهذا الشعب هو من صنع معا تاريخه الامبراطوري والإماري الذي مد أجنحته الحضارية بكل اتجاه.
وهو من صنع لحظة تأسيس الدولة الوطنية الحديثة ، وهو قادر بعون الله على الانتقال إلى عصر التمكين معا.
فقدر موريتانيا أن تظل قوية وجميلة بتنوعها الثقافي البديع ؛ فهو سر تميزها أبدا
إن علينا أن نتجه لطاولة الحوار كوطنيين يسعون لما يوحد إرادة الموريتانيين على الإصلاح ، لا كفرقاء يصرون على ثقافة التشرذم والتعبئة اللونية .