هل تخدع أمريكا وإيران الرأي العام العالمي؟ بقلم : عبد الله ولد بونا

في أوج التصعيد غير المسبوق بين إيران وإسرائيل، تتكشّف ملامح مشهد إقليمي مأزوم، بدأ يخرج عن حدود “اللعبة المضبوطة” التي أتقنت واشنطن وطهران إدارتها لسنوات طويلة. فهل ما يجري من تبادل الرسائل النارية هو تحول استراتيجي حقيقي؟ أم أن ما نشهده مجرد نشاز مؤقت في معادلة تتقاطع فيها المصالح والتفاهمات الخفية أكثر مما تعلن الصراعات العلنية؟

هذا السؤال يستدعي فحصًا أعمق للوقائع، بعيدًا عن السرديات الرسمية التي تقدم الطرفين كعدوين لدودين. فالوقائع والتاريخ، من “إيران–غيت” إلى التنسيق الميداني في العراق، ومرورًا بإخطار متبادل مسبق بالهجمات، تؤكد وجود ثقافة صفقة تحكم علاقة العدوين أكثر مما تحكمها القطيعة التامة.

صفقات خلف الستار تحالفات ظرفية رغم الخطاب العدائي

منذ قيام الجمهورية الإسلامية، تصاعد الخطاب الإيراني ضد “الشيطان الأكبر”، وردّت واشنطن بتصنيفات عدائية وقيود استراتيجية. لكن في الخلفية، تجري منذ عقود تنسيقات سرية عابرة للأزمات. من أبرزها
إيران – غيت (1985–1986): فضيحة كبرى كشفت بيع أسلحة أمريكية لإيران أثناء الحرب مع العراق، مقابل إطلاق رهائن أمريكيين وتمويل جماعات في نيكاراغوا، رغم أن واشنطن كانت تدعم الزعيم صدام حسين علنًا.

التنسيق في أفغانستان (2001): بعد سقوط طالبان، تعاونت إيران أمنيًا مع القوات الأمريكية لتثبيت الحكومة الانتقالية في كابول، عبر وسطاء غربيين.

غض الطرف الأمريكي عن التوسع الإيراني في العراق (2003–2010): عقب الاحتلال، تغاضت واشنطن لفترة عن النفوذ الإيراني الصاعد في بغداد، ضمن تفاهمات غير معلنة، خاصة أثناء الحرب على داعش لاحقًا.

التفاهم الميداني غير المباشر في سوريا واشنطن لم تصطدم عسكريًا بإيران رغم التداخل الكبير في المشهد السوري، وتم توجيه الضربات بشكل دقيق لتجنّب المواجهة المباشرة.

الإخطار المسبق بالهجمات: بعد اغتيال قاسم سليماني، نقلت إيران رسائل مباشرة عبر وسطاء قبل ضرب قاعدة عين الأسد، بما سمح للقوات الأمريكية باتخاذ تدابير احترازية خفّفت من الخسائر.
ويتكرر السناريو في قصف ايران لقاعدة العديد مع احتمال دخول قطر نفسها في الصفقة السرية لاستهداف أراضيها كحل لمنح ايران فرصة رد بلا أخطار على الضربة الآمريكية لمنشآتها النووية!

هذه السوابق ترسم نمطًا واضحًا:عداء في العلن، وتفاهم ظرفي في الخفاء حسب المصالح المشتركة!

حين خرجت اللعبة عن السيطرة

مع تصاعد الضغط الاقتصادي والعزلة السياسية في 2024:

تعطّلت المفاوضات النووية بالكامل.

الاقتصاد الإيراني واصل الانحدار.

ازداد الضغط الميداني على طهران عبر الضربات الإسرائيلية المكثفة على أذرع إيران الإقليمية

إيران ردت عبر تفعيل وكلائها الإقليميين، لا سيما:

حماس في غزة،

حزب الله في لبنان،

الحوثيين في البحر الأحمر،

الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا.

الهدف: إيلام إسرائيل وواشنطن دون جرّ البلاد إلى مواجهة مباشرة.
لكن الهجمات تجاوزت السقف التقليدي، فبدأت واشنطن تشعر بأن الخيوط قد تنفلت من يدها ومن يد طهران معًا.
اسرائيل رفعت مستوى اللعبة ردا على تحديات رأتها وجودية ، طوفان الأقصى وتوحيد الجبهات ، واضطرت ايران لرد مدروس فخم المشهد في مرتين قصفت اسرائيل فيهما مباشرة دون أضرار مؤثرة بدعوى الرد على مقتل القائد هنية في إيران ،
لكن تطور المعارك عبر المتناظرة فرض نسقا واسعا للحريق

واشنطن تعيد الحسابات في عهد ترامب الثاني

الآن، في ظل إدارة ترامب الثانية، ورغم نبرة الصقور، تتحرك امريكا ببراغماتية محسوبة:

لا تسعى لإسقاط النظام الإيراني، بل إلى احتوائه وترويضه.

تريد ضبط سلوك إيران دون الدخول في حرب استنزاف إقليمية.

تخشى من دخول قوى أخرى (روسيا، الصين) في حال انفجر الإقليم.
لذا، تتجه واشنطن نحو ما يُشبه “إعادة تأهيل الخصم”:
أي إبقاء إيران في موقع التهديد الذي يُبرر التواجد الأمريكي، دون السماح بانفلات شامل يُربك المنطقة.
وايران مضطرة للعب الدور الثوري في مواجهة الشيطان الأكبر
ونتنياهو يبحث عن قشة نجاة ولو كانت في حريق كبير بالشرق الأوسط لا تتحمله جبهته الداخلية فهي لم تمر بتجربة نارية كثيفة ومدمرة منذ نشوء اسرائيل كالتي تواجهها حاليا تحت القصف الصاروخي الإيراني

الرأي العام ضحية مزدوجة

كلا الطرفين يُتقن التضليل الجماهيري:

إيران تُبرر كل تنازل بأنه “تكتيك مرحلي”، وتقدم مفاوضاتها مع الغرب كـ”نصر استراتيجي مؤقت”.

واشنطن تبيع لجمهورها شعار التصدي للإرهاب والأنظمة المارقة، بينما تنخرط في صفقات مع ذات الأنظمة حين تقتضي المصلحة.
وتسوق لدول الخليج دورها الاستراتيجي في الحماية من خطر إيراني داهم هي من صنعه بترك مساحة مناورة له في الشرق الأوسط .

هذه الازدواجية تضعف السرديات الرسمية أمام الشعوب، وتكشف حجم التباين بين القول والفعل.

هل يُعاد ضبط المسرح أم نشهد كتابة نص جديد وممثلين جدد؟

في هذا السياق المعقد، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل تنجح واشنطن وطهران – مرة أخرى – في إعادة الإمساك بخيوط اللعبة وضبطها كما اعتادتا؟
أم أن تشعب الفاعلين وتداخل الجبهات سيحول المسرح إلى فوضى مفتوحة لا تحمد عقباها؟

ما جرى سابقًا يُرجّح السيناريو الأول، لكن هذا لا يلغي احتمال انفجار مفاجئ تعجز كل الأطراف عن احتوائه… خصوصًا أن بعض الفاعلين – كحزب الله أو الحوثيين – قد لا يلتزمون بنصوص التفاهمات غير المكتوبة.
ودورة الصدام الحالي أسقطت كثيرا من أوراق التوت عن عورة اللعبة الخبيثة بالشرق الأوسط.

لم يكن الصراع بين إيران وأمريكا يومًا صراع وجود، بل صراع وظائف وصناعة مصالح .

كلا الطرفين يحتاج الآخر كخصم دائم لتبرير وجوده، وتغذية سرديته، وضبط إيقاع المسرح.
أما الشعوب، فهي ضحية هذا الإخراج المتقن الذي يُعاد إنتاجه كلما اقتضت المرحلة ذلك.
وكذلك الرأي العام العالمي.
وهذا دليل على أن النظام في إيران متقدم في الوعي الاستراتيجي على الأنظمة العربية التي هي ميدان اللعب وتظن أنها شريكة في اللعبة الكبرى وهي الضحية

فرغم جسامة التضحيات الإيرانية والخسائر فقد فرضت إيران ذاتها كلاعب إقليمي يحسب له ألف حساب في الوقت الذي لا مساحة للنظام العربي في لعبة هو دائما في لجة موجها المتلاطم ينتظر ما يقرره الآخرون من حرب أوسلام ومن أسعار للخدمات وسلاسل الإنتاج وأسعار للنفط والغاز وحجم تتطلبه سوق الطاقة تخفيضا أو زيادة للإنتاج ، واستهلاكا للسرديات التي ينتجها اللاعبون المتلاعبون بالشرق الأوسط !