مناخ الاستثمار في موريتانيا حقائق تتحدي الاتهام / ذ.براهيم الب خطري
ليس كل اتهام يستحق الرد، ولكن عندما يكون الاتهام موجه من شخص أجنبي، يكون الرد عليه واجبا من طرف كل غيور على وطنه، لا دفاعا عن شخص بذاته وإنما عن وطن برمته، ومن هذا المنطلق أضع نفسي كأي مواطن يحب سمعة بلده وينزعج من كل ما يمس منه ومن شرفه.
لقد أثارت إحدى المستثمرات الأجنبيات مؤخرا جدلا واسعا تمحور حول اتهامات وجهتها إلى الإدارة الموريتانية تتهمها بتعطيل الاستثمار وابتزاز المستثمرين.
هذا النوع من التهم، إذا صدر في ظروف عادية، لربما تم تجاوزه واعتباره سوء فهم أو تجربة فردية. لكن عندما ينشر بهذا الشكل وفي هذا التوقيت، ومن خارج البلد المتهم ويقدم بصيغة توحي بأنه متعمد وممنهج، فإنه يصبح قضية رأي عام ـ كما وقع ـ ويلقي بظلاله على صورة الدولة وصدقية مؤسساتها وجهودها في تدعيم مسار الإصلاح.
لقد تابعت هذا الخبر في الساعات الأولي من تداوله، وأحجمت عن الكتابة عنه رغم حساسيته وجدوائية الرد عليه، احتراما لروح التريث والتحقيق في الأمر وإيمانا مني بأن الدولة لا تتعامل مع الأمور بالانفعال بل تحتكم إلى القانون المؤسس.
وعلي ذلك الأساس كلفت وزارة الشؤون الاقتصادية وترقية القطعات الإنتاجية، لجنة لتقصي الحقائق حول ما نسب إلى الإدارة المعنية، وخلص هذا التقرير إلى أن الإدارة المعنية باشرت الملف وتصرفت عليه وفق المساطر القانونية، فلم يكن ثمة أي انحراف أو إخلال بما يلزم من احترام القانون ومراعاة أخلاق المهنة.
لكن خلاصة التقريرـ رغم أهميته ـ، لا يعفينا من مسؤولية التوضيح، لأن الحادثة تتيح لنا الفرصة لإلقاء الضوء ـ ولو قليلا ـ على واقع الجهود الإصلاحية التي بذلتها موريتانيا في السنوات الأخيرة لتحسين مناخ الأعمال وتهيئة بيئة استثمارية جذابة وعادلة ومنفتحة على الجميع دون تمييز أو إقصاء أو عرقلة.
فمنذ سنوات اعتمدت الحكومة الموريتانية خطة إصلاح شاملة، استهدفت الكثير من الإجراءات المتعلقة بالاستثمار والمستثمرين، فكان منها على سبيل المثال:
ـ تبسيط الإجراءات المتعلقة بإنشاء استثمارات المستثمرين، وأسس لذلك الغرض شباك موحد ووكالة عامة لترقية الاستثمار، ثم إنشاء مجلس أعلي للاستثمار بموجب المرسوم الصادر بتاريخ 7 فبراير سنة 2020 كهيئة استشارية تخضع للسلطة المباشرة لرئيس الجمهورية.
ـ تحسين الإطار القانوني للاستثمار والذي من أولوياته توفير الضمانات الضرورية للمستثمرين وتحفيزهم
ـ عصرنة القضاء التجاري ليكون قادرا على فض النزعات ذات التعلق بالاستثمار بشكل سريع وعادل
ـ تحسين الإطار القانوني المتعلق بالسجل التجاري عن طريق مراجعة مدونة التجارة والمرسوم المنظم له
ـ ربط الجهات المعنية ببوابات إلكترونية لتقليص التدخلات البشرية وتسريع ملفات الاستثمار
ـ إعفاء الشركات ذات المسؤولية المحدودة من إجبارية التوثيق وعدم إلزامها بتحديد حد أدني لرأس المال عند التأسيس دعما لها باعتبارها نموذجا للشركات الصغيرة والمتوسطة. وهو ما يترجم مرونة التشريع الوطني بما يتناسب مع قدرة أصحاب المباراة الفردية وصغار المقاولين.
وقد انعكست هذه الإصلاحات في تقارير دولية مرجعية ومحايدة أبرزها تقرير Doing Business الصادر سنة 2020 عن البنك الدولي والذي أظهر تحسنا ملحوظا في تصنيف موريتانيا في مؤشرات متعددة، منها بدأ النشاط التجاري ودفع الضرائب وحماية المستثمرين وحماية الأقليات المستثمرة داخل شركات المساهمة، وتحسن مؤشر منح القروض والذي شجع البنوك على منح القروض الميسرة مقابل تقديم ضمانات محمية بالتقيد وبالإشهار.
ومن ضمن ما يحسب لهذه الإصلاحات أنها تمت بقدر عال من الشفافية ومن خلال إشراك الفاعلين الاقتصادين والقطاع الخاص، بهدف تطوير النصوص التشريعية بما يراعي واقع المستثمرين ويستجيب لتطلعاتهم مع ضمان حماية المصلحة العامة وعدم المساس بسيادة الدولة وسيادة قوانينها.
إن هذه الجهود لا تعبر عن مجرد نوايا، بل عن مسار إصلاحي متكامل يتعزز في كل سنة.
ويتجسد هذا الإصلاح في الواقع من خلال تحسن أداء المؤسسات المعنية بالاستثمار، وتنامي الاهتمام الدولي بواقعنا، وارتفاع حجم الاستمارات الوطنية والأجنبية.
وبحكم عملي ـ كممثل سابق للمحكمة التجارية على مستوي الشباك الموحد مكلفا بالسجل التجاري، ـ أتيحت لي الفرصة للاطلاع عن قرب على الديناميكية الإدارية والتنظيمية التي تحكم الإدارات المعنية بالاستثمار، ويمكنني القول بأن الطواقم الإدارية والفنية المكلفة بملفات المستثمرين تتسم بالكفاءة والتفاني والانضباط واحترام القانون، وهي تدير الملفات المعروضة عليها بعيدا عن أي عرقلة للملفات بغرض شخصي أو مصلحة ضيقة.
ولا يعني هذا أن الوضع بلغ المثالية، فالإصلاح بطبيعته تراكمي، ومناخ الاستثمار يتطلب تحديثا دائما وتقيما مستمرا. ولكن من غير المنصف أن تختزل كل هذه الجهود في صورة سوداوية تنقلها تجربة واحدة قد تكون مشابة بعدم فهم بعض المقتضيات القانونية أو مبنية على مصالح لم تنسجم مع الإجراءات المطلوبة وفق القانون.
فموريتانيا، وهي ترحب بالمستثمرين الأجانب وتفتح لهم أبوابها، تسعي في الوقت ذاته إلى صيانة سمعتها وحماية إدارتها من الشكوك غير المؤسسة، وتثبت مبدأ المسؤولية المتبادلة بين المستثمر والدولة في إطار من الشفافية والمحاسبة. وهي بهذا الصدد لا تريد تكميم الأفواه أو منع التبليغ عن ممارسات لا تليق ولا تمنع النقد، بل تشجع على كل ذلك حين يكون هادفا وبناء ويستند إلى معطيات دقيقة وتجارب مشهودة وموثقة، لأن مناخ الأعمال لا يمكن أن ينهض إلا بتعاون الجميع وتلاقح الرؤي وتبادل الملاحظات بين المستثمر والجهات المعنية بالاستثمار في جو من الثقة والاحترام.
وفي الختام، فإن ما تحقق في موريتانيا من إصلاحات في مجال الاستثمار، يستحق أن يصان لا أن يشوه ويستحق أن يبني عليه لا أن يهدم بمعاول الانطباعات أو التجارب الشخصية، فالنقد الموضعي لا يمكن أن يصدر عن موفق لحظي أو تجربة عابرة، بل عن قراءة شاملة ومتأنية تعترف بما تحقق وتشير إلى ما تبقي بروح الشراكة لا القطيعة والتقويم لا الاتهام.