حين يعجز التخصص عن رؤية الجرح / د. خضير المرشدي
لقد علّمتنا دراسة الطب ألا نكتفي بما يُقال، بل أن نسأل: لماذا؟ ، سؤال بسيط في لفظه، ثوريٌّ في جوهره، لايقتصر على استجلاء العلّة المرضية، بل ينفذ إلى بنية المعرفة نفسها: كيف نعرف؟ ولماذا نعرف؟ وما الغاية من هذه المعرفة؟
هذا السؤال هو ما يميّز الطبيب الذي تجاوز حدود المهنة، ليصبح شاهداً على الإنسان في كل تجلياته، في ألمه، في هشاشته، في علاقته بالعالم، وفي صراعه مع الناس والسلطة والحرمان والموت.
لكن هل هذا ما يحدث فعلاً في عالمنا العربي؟ هل يثمر التخصص وعياً؟ وهل تُعيد الجامعة تشكيل العقل؟
في معظم الأحيان، لا.
ليست المشكلة أن نمتلك تخصصاً، إنما أن يتحوّل التخصص إلى قفصٍ ذهبي، يمنع الرؤية الشاملة، ويُعيد إنتاج التجزئة داخل العقل.. فنخرج من التلقين التقليدي لنقع في الاختزال العلمي، ومن الانغلاق العقائدي إلى الانغلاق المنهجي.
المعرفة التخصصية ـ كما نشأت في السياق العربي ـ ليست مشروعاً للتحرّر من الجهل،
بل أصبحت، في كثير من الأحيان، معسكراً للانفصال عن الواقع.
نمتلك أدوات دقيقة، لكننا نفتقد إلى الرؤية الكلية.. نُنتج خطاباً صلباً، لكنه بارد، منفصل عن أسئلة المجتمع، وهموم الناس، وآلام الإنسان.
لماذا؟
لأننا لا نُنتج التخصص انطلاقاً من حاجاتنا، بل نستعير خرائطه الجاهزة من الخارج.
لأننا لا نُسائل التخصص، فقط نُقدّسه.
لأننا لا نعيد تشكيله وفقاً لمشروع ثقافي واجتماعي عربي، إنما نُعيد إنتاجه كما هو، داخل سياقات لا علاقة لها بنا، ولا وعي او معرفة لنا بها.
هكذا، يتحوّل العالم العربي إلى مخزنٍ للشهادات العليا بلا أثر ثقافي ..
تتكدّس فيه المعارف، وتُنتج الأوراق، وتُعقد المؤتمرات، لكن شيئاً لا يتغيّر في بنية العقل، في عمق الوعي، في نسق العلاقات.
المعرفة هنا ليست طاقةً للتحرّر، إنما نظاماً للتكيّف، ليست تمرّداً واعياً، إنما ترتيباً بيروقراطياً لمفاهيم مستوردة.
وليست تحوّلاً في الإدراك، إنما استهلاكاً لبلاغة الحداثة الأكاديمية.
اللا اكتمال في الثقافة التخصصية لا يعود فقط إلى بنيتها، بل إلى سياقها المنفصل عن الواقع الثقافي العربي.
•تُدرّس الاقتصاد، دون نقد البنية الرأسمالية التابعة.
•تُدرّس القانون، دون مساءلة السلطة.
•تُدرّس الفلسفة، دون طرح السؤال العربي.
•تُدرّس الطب، دون التفكير في العدالة الصحية.
•تُدرّس الهندسة، دون رؤية للمدينة بوصفها كائناً حضارياً.
نحن لا نمارس التخصص كثقافة، بل كمهنة صامتة فقيرة مبتسرة وأنانية..
نفصل بين العقل والوجدان، بين العلم والحكمة، بين العمل والمعنى.
فلا يُثمر التخصص إلا عزلة إضافية داخل جزر معرفية منفصلة.
وما يزيد الوضع سوءاً هو تكلّس النظام الأكاديمي العربي، الذي يُعيد إنتاج المعرفة لا كمغامرة، إنما طقس إداري بيروقراطي.
العقل يُقيّم بعدد الأبحاث، لا بعمق السؤال.
الفكر يُقاس بعدد الاقتباسات، لا بتأثيره على الواقع.
الطالب يُكافأ على الحفظ، لا على التفكير.
وهكذا تتحوّل الجامعة ـ التي يُفترض أن تكون محرّكاً حضارياً في عقل الإنسان ـ إلى مصنع للشهادات، ويتحوّل الأستاذ الجامعي إلى موظف مفاهيم، ويتحوّل الطالب إلى مستهلك للامتحان، لا باحث عن المعنى.
والأسوأ من كل هذا، أن هذا النمط يُقنع الجميع أن الأمور تسير “بشكل جيد”!!!!
هناك نشر علمي، هناك ترقٍ وظيفي، هناك مؤتمرات وتقارير وخطابات.
لكن كل هذا يتم داخل فقاعة مغلقة، لا يخترقها صوت الناس، ولا تصل إليها صرخة المجتمع.
والسؤال الأهم .. أين المثقفون؟
أين الأطباء من البؤس الصحي العام؟
أين المهندسون من النقاش الحضاري حول المدينة؟
أين أساتذة الاقتصاد من قراءة الجوع والفقر؟
أين أساتذة القانون في زمن الظلم؟
أين وأين وأين ؟؟؟
لماذا تتحوّل التخصصات إلى أنا معرفية منعزلة لا تندمج في سؤال الناس والأمة؟
هذا هو الجرح الكبير:
أن تنفصل الثقافة التخصصية عن الحياة،
أن تصبح مجرد وظيفة معرفية لا تُسهم في بناء وعي جمعي، أن يتشرذم العقل العربي إلى حقول صمّاء، لا تتفاعل، لا تتقاطع، لا تُلهم أحداً.
كيف السبيل نحو ثقافة تخصصية متجذّرة في المشروع الحضاري ؟
إن إعادة وصل الثقافة التخصصية بالمجتمع ليست مهمة تقنية، إنما هي مهمة فكرية وحضارية وأخلاقية.
•أن نُنتج الطب كجزء من سؤال العدالة.
•أن نُعيد تشكيل القانون كأداة للمقاومة لا الخضوع.
•أن نضع الاقتصاد في خدمة الإنسان، لا السوق والربح.
•أن نستعيد الفلسفة بوصفها تمرّداً لا ترفاً.
أن نجعل التخصص بوابةً للاندماج في مشروع النهضة العربية، لا أداة للهروب منه.
وحين يُصبح التخصص أداة للتحرر ..
فإن الثقافة التخصصية لا تُجدد إلا حين تُحرر من انعزالها، وتُعاد صياغتها بوصفها ركناً من الأمن الحضاري العربي، وليس منظومة مغلقة من المعارف، إنما هي أداة من أدوات صناعة المصير المشترك.
أوطاننا تحتاج إلى تخصص متجذر في السؤال العربي .. تحتاج إلى مفكرين تخصصيين يطرحون رؤاهم في الفضاء العام، لا مختصين يلوذون بصمتهم.
إننا نعيش في زمن الخطر،
ولا شيء أشد خطورة من معرفة لا تَسْألْ، وعلم لا يَنخرطْ، وتخصّص لا يرى الجُرحْ.