العقل الذي يخشى الفوضى .. عقل ميّت / الدكتور خضير المرشدي ..
لماذا يخاف الناس من الفوضى، طالما أنها خلّاقة ؟؟
الفوضى التي سُمّيت خلاّقة، لم تكن لغزاً عبثياً ، ولا خبطة عشوائية في زمننا العربي التائه .. كانت قنبلةً عقلية زُرعت بإحكام في أرضنا العربية، مفهوماً بدأته (كوندوليزا رايس) المرأة التي قررت عبر إدارتها أن تُعيد تشكيل المنطقة العربية بالحفر في العقول، وليس فقط في جغرافيا الدول العربية وأمنها وبنيتها..
لم يُطلَق هذا المفهوم عبثاً، ولم يكن مشروعاً عسكرياً فحسب، انما كان هجوماً مدروساً يستهدف تغيير طريقة تفكير عقل الإنسان العربي، وإعادة برمجته، وتصغير رؤيته للعالم، عبر إدخاله في دوامات لا تنتهي من الفوضى السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، العسكرية، والعلمية، لتُجبر الإنسان، بدءاً من العراق حين احتلاله، على أن يعيش في دوامة لا تتيح له فرصة التماسك أو السيطرة او البناء.
بذلك فهي ليست انهياراً محضاً كما يظن البعض، إنها لعبة قاتلة مصممة لتجريف الأرض تحت أقدامنا، وتهشيم أفكارنا، وإزهاق أرواحنا .. إنها الفخ الذي يجعلنا نركض خلف وهْم الأمان، ونبني في هوامش هذا الانهيار ما يسمى (استقراراً ) لكنّه استقرارٌ هشّ على حافة الهاوية.
كل مرة نرى فيها نظاماً سياسياً عربياً يُهشّم، أو ثقافة عربية تُمزّق، أو اقتصاداً ينهار، تَرفع النخب وأبواق الاعلام المأجورة راية (الفوضى) كتبرير لتلك الكارثة، ليُقال لنا إنها (ولادة جديدة) .. وهل ان الولادة لا تكون إلا عبر قهر العقول وتحطيم الأرواح ؟؟
الأخطر أن كثيرين منّا، في زهوهم بالكلام عن الحرية والتغيير، يغفلون أنهم قد أصبحوا أدوات في هذه اللعبة القذرة، يرقصون على إيقاعها دون أن يدركوا أن الفوضى ليست في أيديهم، انما في يد من زرعها وفق مخطط رغباته وليقتل فيها قدرتنا على الحلم والنهضة.
لكن السؤال لماذا نخاف الفوضى؟ طالما أنها خلاّقة؟ وأنها ممكن لو استثمرت بوعي وارادة ان تنقذ عقولنا من الموت ..
ربما الخوف من الفوضى يأتي ليس فقط خوفاً من الضجيج والاضطراب، إنما خوفاً من المجهول الذي يرهب كل إنسان يبحث عن الاستقرار في حياة مملة ومكررة.
لكن العقل الذي يخاف الفوضى هو عقلٌ ميتٌ، لأنه يرفض مواجهة الحقيقة الوحيدة في عالمنا العربي هي: أن لا شيء يتجدد إلا في انفجار الفوضى !!!
الفوضى والخلّاقة منها خاصة، هي الجرح الذي يفقأ عيون الجمود، وهي الشرارة التي تشعل ثورة الفكر ضد براثن التقليد.
إنها الملجأ الأخير لكل عقل يريد أن يتحرر من قبضة اليقينيات، وتقييدات القوالب الجاهزة، ورؤى العالم الضيقة.
الفوضى تخيفنا، لأنها تسلبنا السيطرة على قصصنا ورواياتنا القديمة المكررة، لكنها في ذات الوقت تعطينا فرصة لنكتب رواياتنا من جديد، بلا رقابة ولا وصاية.
علينا ان نحتضن فوضانا دون أن نغرق في مستنقع الخراب .. لأن الفوضى ليست لعبة أطفال إنما هي معركة فكر وحضارة.
وعلينا ان نؤمن إن الفوضى بمثابة تمهيد لبزوغ فجر جديد … وان العقل الذي يهرب من الاستثمار في الفوضى هو عقل ينتظر دفنه في قبور الماضي.
الفوضى الخلاقة تفرض علينا إما أن ننهض أو نموت، إما أن نتحرر من سلاسل اليقينيات المزيفة أو نختنق تحت وطأة الخوف من المجهول .. لا مكان للمهادنة هنا، ولا السماح لصراعات الأنا الصغيرة التي تبحث عن فتات العناوين الهزيلة والذليلة ..
إنها معركة استعادة العقل من قبضة التبعية والتكرار والركون إلى الماضي، معركة اعادة التكّون الفكري من وسط صخور التمزق والتلاشي .
فإما أن تُدمّر جدران العقل المُخرّب لتتوهج عقولنا بالنار المتجددة، أو نظل أسرى في قبور الأفكار الميتة التي نسميها تقليداً، ونحتمي خلفها ونحن نغرق في بحر من الانهيارات.
لا ننتظر أحداً ينقذنا، فالفوضى الخلاقة التي تخيفنا، هي نفسها الفوضى التي ستجعلنا أحراراً أو تُدفننا الى الأبد ..