ترامب والعودة إلى “الميركانتيلية”/ بشار نرش

تُعرّف الميركانتيلية بأنّها مذهب سياسي اقتصادي ساد في أوروبا بين بداية القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، ارتبط تاريخياً بعالم كانت فيه الثروة تُقاس بالذهب والفضة، وكان يُنظر فيه إلى النشاط الاقتصادي، وخصوصاً تجارة السلع والخدمات بين الدول، لعبةً صفرية.
ويعدّ الميركانتيليون قوميين بطبيعتهم، إذ يدافعون بقوة عن الدولة وتدخّلها في الحياة الاقتصادية بهدف تحقيق فائضٍ في ميزان المدفوعات، ويدعمون تعزيز الصادرات، وفرض الرسوم الجمركية على الواردات لمنع تسرّب الأموال إلى الخارج. كما يؤمنون بأنّ التُجّار والصُنّاع هم الأجدر بالاستفادة من موارد الدولة وثروات الدول الأخرى.يركّز ترامب في سياساته الاقتصادية في إعادة التوازن للتجارة العالمية، عبر سياساتٍ حمائيةٍ تهدف إلى تقليص العجز التجاري وتعزيز الإنتاج المحلّي

تقوم الميركانتيلية على مجموعةٍ من المبادئ أهمّها اعتبار الثروة أهم شيء لدولة ما، وأنّ التجارة الدولية أفضل طريقة لزيادة ثروة الدولة، وأنّ على الدولة أن تحمي اقتصادها بفرض رسوم جمركية على الواردات، وأن تسعى إلى تحقيق فائض في ميزانها التجاري، وأن تتدخّل في الاقتصاد لتنظيم التجارة وحماية الصناعة الوطنية. وبالتالي، يشير مفهوم “الميركانتيلية” إلى النظام الحمائي، الذي يكرّس التدخّل الحكومي لدفع رفاهية الدولة وتقويتها في مقابل الدول الأخرى، بهدف الحفاظ على ثروات الدولة في داخلها.
ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة عودة الميركانتيلية إلى دائرة الاهتمام في الفترة الماضية، خصوصاً بعد تبنّي الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خطاباته وسياساته الاقتصادية نظاماً حمائياً يُركّز على تقليص العجز التجاري، وفرض تعريفات جمركية صارمة على الواردات، وتعزيز الصناعات الوطنية، وإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية بما يخدم المصالح الأميركية أولاً.
يستند ترامب، في سياساته هذه، إلى قناعته بأنّ العولمة أضرّت بالاقتصاد الأميركي، وأدّت إلى فقدان ملايين الوظائف لمصلحة الدول ذات العمالة الرخيصة، مثل الصين والمكسيك، ويرى أنّ التجارة الحرّة لم تكن عادلةً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بل استفادت منها دولٌ أخرى على حساب العمّال والشركات الأميركية.
ومن هذا المنطلق، نراه (ترامب) يركّز في سياساته الاقتصادية في إعادة التوازن للتجارة العالمية، عبر سياساتٍ حمائيةٍ تهدف إلى تقليص العجز التجاري وتعزيز الإنتاج المحلّي. ولذلك تبنّى منهج الرسوم الجمركية على المستوردات لتحصيل مزيد من الإيرادات وتقليل النفقات، وهو بذلك يشبه الميركانتيليين في نظرتهم إلى الصادرات والتجارة الخارجية، إذ يعتبر هؤلاء أنّ الدولة يجب أن تدير التجارة الخارجية، وأن تفرض حمايةً على السلع المحلّية من طريق فرض رسوم جمركية عالية، وهو ما يفعله ترامب، ففي نظره التجارة الخارجية والرسوم الجمركية أبرز سلاح يمكن استخدامه ضدّ الدول الأخرى، وهذا ما كان يراه الميركانتيليون بالضبط.
وكذلك تبنّى نهج البحث عن المعادن الثمينة، وهي من أهم المبادئ التي تقوم عليها الميركانتيلية. ولذلك لم يكن حديثه عن ضرورة سيطرة الولايات المتحدة على غرينلاند الغنية بالمعادن النادرة، وكذلك التفاوض مع أوكرانيا للحصول على نصف معادنها الثمينة، مقابل الدعم الأميركي لها، مجرّد تصريحات عابرة، بل كانت تعكس تبنّياً للرؤية الميركانتيلية التي تعتبر أنّ امتلاك المعادن الثمينة والموارد الطبيعية تعزّز نفوذ الدولة اقتصادياً وسياسياً.تتماهى نظرة ترامب إلى الاقتصاد مع المبادئ الميركانتيلية، من حيث اعتبار العلاقات الاقتادية علاقات صراع وتنافس بين الدول

ولا يقتصر تبنّي ترامب الميركانتيلية على السياسات التجارية وحماية الصناعة المحلّية، بل يمتدّ إلى رؤيته لدور الدولة في الاقتصاد، فتبنّى الفكر التجاري في تعييناته من خلال تقريب التجّار والصناعيين، وهي من الأفكار المهمّة عند الميركانتيلية، ومن أبرز هؤلاء تعيين إيلون ماسك، مالك شركة تسلا لصناعة السيارات، وشركة سبيس إكس لتوفير خدمة الاتصال الرقمي بالإنترنت، وموقع إكس للتواصل الاجتماعي، مسؤولاً عن الكفاءة الحكومية، وهو اسم محسّنٌ لمسألة تعزيز الإنتاجية وتخفيض التكاليف، والتي ترى فيه الميركانتيلية أمراً مهمّاً يحافظ على ثروة الدولة. كما عزّز التدخّل الحكومي في توجيه الأسواق وضبطها بما يحقق الأهداف القومية، لذلك نراه يضغط على الشركات الكبرى لإعادة مصانعها إلى الأراضي الأميركية، ويستخدم العقوبات الاقتصادية أداةً للضغط على الدول المنافسة، وهو ما بدا واضحاً في سياساته تجاه الصين، إذ فرض قيوداً على شركات صينية مثل “هواوي”، وسعى إلى تقليل الاعتماد على المنتجات الصينية في سلاسل التوريد الأميركية.
وعلاوةً على ذلك، تتماهى نظرة ترامب إلى الاقتصاد مع المبادئ الميركانتيلية، من حيث اعتبار العلاقات الاقتصادية علاقات صراع وتنافس بين الدول، وليست علاقات تكامل كما يفترضها الاقتصاد الليبرالي الحديث. لهذا نراه في سياساته الخارجية يعتمد على أدوات اقتصادية للضغط على خصومه، تماماً كما كان يفعل الميركانتيليون، عندما كانوا يسعون إلى تعزيز هيمنة دولهم على الأسواق العالمية.
هكذا تُجسّد سياسة ترامب العودة إلى الميركانتيلية، التي لم تعد مجرّد مذهب اقتصادي من الماضي، بل أعادها ترامب إلى الواجهة في ظلّ تعامله مع الاقتصاد بمنطق قومي صرف، يسعى إلى حماية الثروة الأميركية وتعزيز الهيمنة الاقتصادية الأميركية بأيّ وسيلة ممكنة، حتى وإن كان ذلك على حساب المبادئ الليبرالية التي قام عليها الغرب خلال العقود الماضية.