من “جوول” إلى “فيينا”: على خطى البرفسور “حامدون”الدكتور محمد السالك ابراهيم،
لا أدري هل هي مجرد صدفة، أم هي لحظة تخاطر روحي عابرة، أن ينعقد اليوم هنا في فيينا، وبالذات في هذا المبنى المميز، المنتدى الرابع لصندوق أوبك للتنمية، بقصر “هوفبورغ” الامبراطوري قبالة ساحة “هلدنبلاتز” الهادئة وسط فيينا .. إنه المقر العتيد للمكتبة الوطنية للنمسا.. هنا في أروقة هذا القصر الباروكي، جرت أهم أحداث روايتي “لغز إنجيل برنابا”، بحكم أن بطلها البرفسور “حامدون” كان يعمل هنا لمدة أكثر من عشرين عاما بصفته حافظا لقسم المخطوطات والكتب النادرة بالمكتبة..
في هذا المكان المبهر، سطر ذلك الرجل الخلاسي، النمساوي من أصول موريتانية، الذي كان يجسد بإيجابية تنوعنا القومي وتعددنا الثقافي، حيث أن والده “بولاري” من أهالي الضفة، كان معلما للغة الفرنسية في أطار، أما والدته فهي “بيظانية” من أهالي آدرار؛ سطر “حامدون” هنا ملحمة رائعة في التشبث بقيم الوطنية والشجاعة والنزاهة، عندما قاد بنفسه ملحمة استرجاع المخطوطة النادرة لإنجيل “برنابا” كما يتضح من أحداث الرواية، بعد أن هربتها المافيا الدولية المتخصصة في سرقة ونهب التراث الثقافي للأمم والشعوب، من مخبئها في جرة فخارية ظلت مخبأة طيلة عدة قرون، داخل كهف بأعالي جبل “انطرزي” قرب بلدة “آزوكي” التاريخية.. حيث تكالبت عليها المنظمات الدينية السرية وتنافست أجهزة الاستخبارات العالمية سعيا للظفر بها..
وقد استطاع “حامدون” -الذي سماه والده تيامنا باسم صديقه المؤرخ المختار ولد حامدون، بفطنته وذكائه ومثابرته أن يقدم للعالم ذلك المخطوط الثمين بعد استرجاعه، منتهزا الفرصة للتعريف ببلاده الأصلية موريتانيا، في الإحتفالية العالمية الخاصة بتخليد الذكرى الـ650 لتأسيس المكتبة الوطنية في فيينا، التي تأسست قبل حوالي سبعة قرون على سبعة كتب من بينها النسخة الأصلية لمخطوط إنجيل “برنابا”، وكبرت وازدهرت وتطورت هذه المكتبة إلى أصبحت تضم حاليا أكثر من سبعة ملايين كتاب..
ومن وحي أجواء فيينا وبطل الرواية “حامدون ” وقصر “هوفبورغ” المطل على ساحة “هلدنبلاتز” وسط فيينا، الذي ظل مقرا لحكم مملكة “الهابسبورغ” لأكثر من سبعمائة سنة، تذكرت بلدة “دجوول” العريقة التي تغفو بين التلال والنهر الذي يعانق عندها سهول “شمامه” ويروي مرابعها الخصيبة.. مستحضرا بأن “حامدون” هو الابن البار لتلك الضفة حيث ظل الناس “أمة واحدة” في تلك الربوع الطيبة.. يتنفسون عبق التاريخ، ويتغنون بأساطير المجد المؤسسة لحاضرتهم الجميلة “جوول” أو بلدة الألف تلة وتلة، وهي نفسها مهرجان مفتوح عبر الزمن والجغرافيا.. أهلها مسكونون بالروحانيات، وتقديس قيم المحبة والتآخي والتعايش والتسامح..
تذكرت افتتاح مهرجان “دجوول” الثقافي من طرف فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، في تلك الجمعة المشهودة، وزيارته لضريح الحاج محمود باه، وأداءه صلاة الجمعة في مسجد “جوول” العتيق..
هناك، وفي كل مرة، كان يخيل إلي أنني سألتقي في أزقة الحي القديم مع “صمب كلاديو دجيكي”، فارس مملكة “ساتيغي” ، وبطل الملحمة الشعرية الشهيرة التي ما يزال يترنم بها “إيگاون” الأمير، وحافظو الذاكرة منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم؛ أو أنني ربما ألتقي بالعالم والمجاهد الشيخ سليمان بال، مؤسس الدولة المامية في حوض النهر، الذي حارب العبودية وجدد في أمور الدين والعقيدة.. هناك، في أزقة البلدة القديمة، قبلة الأبطال والأساطير، تتوقع أن تلتقي في أي لحظة ب “كولي تنقلا با” السلطان الفلاني الشهير، أو بالمجاهد الإمام “عبدول بوكار كان”. كما أتذكر أيضا أن “حامدون مودين الله” ، بطل روايتي “لغز إنجيل برنابا”، قد استوقفني في تلك الأزقة، ليسلم علي وليقول لي بأنه قادم للتو من بلدة “كومبالي” بضاحية “مقامة” على بعد كيلومترات قليلة من “دجوول”.. وأنه يعتبر نفسه أبن الضفة تماما كما هو ابن واحات النخيل..
تداعت إلى ذهني أحداث الرواية التي تجري في فيينا.. في ذلك اليوم الذي غير إلى الأبد حياة “حامدون”.. عندما كان يقف قرب الواجهة الزجاجية في مكتبه بالطابق العلوي في مبنى المكتبة الوطنية بقصر “هوفبورغ”، منشغلا بالتفكير، وهو يحدق ساهم الطرف نحو الأسفل، حيث تترامى القاعة الكبرى للمكتبة، غارقة في سكونها المهيب.
عبر الزجاج، كانت تظهر صورة رجل أسمر، بملامح إفريقية مميزة.. ربما يكون قد تجاوز الخمسين ببضع سنوات.. طويل القامة، عريض المنكبين. تعلو وجهه المائل إلى الحمرة، جبهة عريضة يتخللها خطان كبيران من التجاعيد. وتبرز تحتها عينان واسعتان، وأنف أفطس عظيم، وشفتان رقيقتان رسم فوقهما شارب قصير. أما في أسفل الذقن، فتظهر لحية خفيفة وقد تطايرت فيها شعيرات بيضاء مجعدة.
بصفته مديرا لقسم المخطوطات والكتب النادرة، تتيح له الواجهة الزجاجية لمكتبه بالطابق العلوي، التمتع برؤية شاملة لمختلف أركان القاعة الكبرى “State Hall” التي تحمل إسم الإمبراطور “كارل السادس”، والتي تعد من أروع جواهر الهندسة المعمارية الباروكية في العالم، كما هي القلب النابض للمكتبة الأكثر إبهارا، منذ أن وضع أسسها “ألبرت الثالث”، دوق “الهابسبورغ”، سنة 1368م، لتكون مكتبة البلاط الإمبراطوري في النمسا قبل أن تتوسع المكتبة عبر مختلف مراحل تاريخها العريق، متجاوزة حدود قصر “هوفبورغ”، لتحتل الجزء الأكبر من “القصر الجديد”، ودير “أوغسطين”، ومتحف “ألبرتينا”، ومباني “القوس” حول ساحة “ميخائيل”..
لطالما بدت مذهلة بحق القاعة الكبرى للمكتبة State Hall، ولعل ذلك هو ما جعل صندوق الأوبك للتنمية يختار هذا المبنى العريق لانعقاد منتداه الرابع، بحضور ومشاركة فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني..
وكأن البرفسور “حامدون” ما يزال واقفا يتفرس هذا المكان الجميل من زجاج مكتبه بالطابق العلوي.. صحن القاعة الكبرى بيضاوي فخم من الرخام المعشق بالذهب، يتجاوز طوله ثمانين مترًا، وارتفاعه أكثر من عشرين مترًا، وتعلوه قبة لازوردية ضخمة فائقة الجمال، مزينة بروائع الرسوم الجدارية، بينما تنبسط أرضية بلاط الرخام الأبيض الممرد، مطرزة بأشكال هندسية مختلفة ذات ألوان بنية رائعة.
وتحت القبة، يوجد معرض دائم للكتب، يضم أكثر من مائتي ألف مجلد من مختلف المخطوطات والكتب النادرة، تم تجميعها من مختلف أصقاع العالم.
توجد بين المصنفات مجاميع كتب لعائلة “الهابسبورغ”، وكتب الأمير “يوجين من سافوى”، الذي ينتصب تمثاله شامخا وسط ساحة “هلدنبلاتز”، قبالة مدخل المكتبة، وكذلك بعض كتابات “مارتن لوثر”، في عصر الإصلاح الديني، ونسخة “جوتنبرج” من الكتاب المقدس، التي كانت أول وثيقة طبعت في أوروبا سنة 1455م، والمخطوطة الأصلية لسمفونية القداس الجنائزي لـ “موزار”، فضلا عن نسخة من مخطوطة إنجيل “برنابا”، كانت هي النواة الأصلية التي تشكلت حولها مكتبة البلاط، قبل نحو ستمائة وخمسين عاما.
عند مدخل القاعة الكبرى، التي تقسم مبنى المكتبة إلى جناحين، يعرف أحدهما بجناح السلام، والآخر بجناح الحرب، تنتصب أزواج من عواميد الرخام القرمزي المنقوش، المدعّمة للقبة.
روعة جمال المكتبة تفوق كل تصور. مكان يبهر الأبصار ويأسر القلوب، ويوحي برهبة طاغية. يحبس المرء أنفاسه وهو يستمتع بجمال هذا الصرح المعماري الفريد، ويتفكر في سمو الذوق الفني، وتفتق الحس الجمالي الذي ألهم عبقرية أولئك الذين شيدوه.
بقي البروفسور “حامدون” تارة يحملق إلى المنصات الحاملة للكتب، واحدة تلو الأخرى، كما لو كان يتفحصها بعناية شديدة. إنها دواليب عملاقة، مصنوعة من الأخشاب النبيلة لأشجار الأبنوس والزان. طوابق متعددة من الرفوف، مزخرفة بفسيفساء جميلة، تحمل مئات الآلاف من الكتب المصفوفة بإتقان. إلى جانب منصات الكتب، توجد سلالم منفصلة، وضعت على بكرات، للصعود إلى الرفوف العليا وتسهيل الوصول إلى الكتب.
ثم يحدق تارة أخرى متفرسا عند المدخل، صف تماثيل الرخام الأبيض التي تخلد أسلاف الملك “كارل السادس”، من عائلة “الهابسبورغ”، وكأنها تحرس في صمت مطبق، المنافذ المؤدية إلى السلالم التي تقود إلى منصات الكتب، تحت القبة اللازوردية الهائلة التي تعلو الصحن.
هنا يشكل انسجام الديكور مع الهندسة المعمارية الباروكية للمكتبة، تناسقا رفيعا، يعكس جمالية الجداريات التي تعتمد على الصور الأيقونية.
يظهر في الجدارية التي تتوسط القبة السماوية، فضاء مأهول بالرموز والإيحاءات المختلفة. لا شك أنها كانت تسعد الإمبراطور، وترضي غروره، بعد أن قرر أن يكون ملهما وحاميا للفنون والمعارف في عصره. كما تصور أجزاء من الجدارية، فنون الحكم والحرب، التي تبدو رموزها محاطة بالكتب والجوائز، بينما تخلد شجاعة وطموح الإمبراطور، من خلال إحاطة صورته بكوكبي الزهرة والمريخ.
في مكان آخر، تصور الجدارية الرحلة الشاقة للبحث عن المعرفة، من خلال رموز تجسد الأوامر التي أصدرها الإمبراطور بتأسيس المكتبة، عبر أسطورة “الجني العبقري”، الذي أوحي الفكرة إلى الإمبراطور، وقام بمساعدته من أجل التمكن من طرد الكسل والجهل، والتكبر، وكل أعداء المعرفة، والقذف بهم إلى الهاوية السحيقة.