هل سيدمر ترمب أميركا / ممدوح المهيني

ما المقصود بتدمير النظام الأميركي وهيمنة الولايات المتحدة عالمياً؟ هذا السؤال المتكرر هذه الأيام، ولكن برأيي أن في ذلك مبالغة، ويعود الأمر جزئياً إلى ترمب نفسه، فهو يقول أشياء متناقضة في الجملة نفسها. ترمب يقول أي فكرة من دون أن يهتم كثيراً كيف سيتعاطى معها الآخرون. مهمته تنتهي عند إطلاق الرصاصة من دون معرفة أي هدف أصابت. ولكن لنتذكر أن توقعات كثيرة قيلت عنه ولم تكن صحيحة. لقد قيل إن ترمب في عهده الأول سيفضي إلى حرب عالمية ثالثة، ولم يحدث ذلك. وقيل إنه سيتحول إلى ديكتاتور يحكم إلى الأبد، ولم يحدث ذلك. قيل إنه سيقضي على «الناتو» ولم يحدث ذلك. قيل إنه سيشعل حرباً نووية، ولم يحدث ذلك. أخاف العالم بالحقيبة النووية، وقضى وقته في شرب الدايت كولا.

السؤال الآن، ما الذي يريده ترمب؟ وهل فعلاً سيقضي على القوة الأميركية العالمية والنظام الذي أسسته بعد الحرب العالمية الثانية؟ يجب ألا ننسى نقطة مهمة جداً وهي أن ترمب غالباً لا يتحدث لنا، ولكن يتحدث لمناصريه. ترمب في مزاج انتخابي طوال الوقت. تسيطر عليه فكرة واحدة رئيسية، وهي التي أعادته للبيت الأبيض، وهي أن أميركا «ضعيفة بسبب الرؤساء الجبناء قبلي، وسأعيدها إلى مجدها. سأعيدها عظيمة مجدداً».

ولكي يفعل هذا لن يتحدث عن التحالفات والنظام الدولي، ولكن بالصفقات، والتهديد بفرض العقوبات والتعريفات الجمركية، وبلغة المال والأرقام التي تفهمها قاعدته الانتخابية. لن يتكلم عن القواعد الأميركية الـ128 في 49 دولة، ولا الإنفاق العسكري (880 ملياراً سنوياً، أكثر من 8 دول التي بعدها مجتمعة)، ولا القيم العالمية؛ لأن جمهوره لا يهتم بها، ولكنه يتحدث عن الصين التي «تسرق» وظائف الأميركيين (ويقصد ناخبيه) وسيعيدها. أميركا لا تتعامل بعدالة وتتعرض للسرقة، كما يردد، وسيعيد لها حقها وكرامتها، وقبل ذلك أموالها المنهوبة. هذا من الجهة الاقتصادية؛ ولكن أيضاً من الجانب الثقافي، أميركا تتعرض للغزو الثقافي بسبب المهاجرين غير الشرعيين «القتلة وأفراد العصابات ومهربي المخدرات»، كما يردد، ولهذا أقفل الحدود وبدأ بعملية الترحيل ومنع التعدد في الهويات الجنسية، وحدد أن هناك هويتين (ذكر وأنثى)، وحاول منع منح الجنسية بالولادة، وأصدر قرارات منع اللاعبين الذكور المتحولين من المشاركة في الرياضات النسائية.

وفيما يخص الحكومة وتقليص حجمها، ينظر 22 في المائة فقط من الأميركيين بعين الرضا عن أداء الحكومة الفيدرالية، حسب «مركز بيو» للأبحاث، وهي نسبة تتراجع كل عام. رغبة ترمب بتقليص الحكومة وجعلها رشيقة وفعالة وعملية، ويضع على رأس المهمة ماسك المعروف بنجاحه في عالم الأعمال، تلقى صدى إيجابياً بكل تأكيد.

ترمب لديه حس غريزي عميق، ويعرف تماماً أين يضع قدميه. لديه خطة عمل واضحة، وجمهور واضح، وأهداف واضحة، واستراتيجية واضحة. يعرف لمن يتحدث، وماذا يريد أن يقول، وكيف يقوله. رسالته واحدة يعيدها مراراً وتكراراً. إنه مثل ملك ناقم تعتمل داخله مشاعر الغضب المتأججة. لا يتوقف عن شن الحروب الشعبوية على جبهات الهوية والاقتصاد والسياسة والإعلام.

ولكن هل سيقوم بهدم «الناتو»؟ إذا كان الجواب نعم، فهو بالفعل يريد هدم النظام الأميركي.

الجواب بالطبع لا، وبالعكس، ضغوطاته فعلت العكس. دفعت أعضاء في «الناتو» لزيادة الميزانية للحلف، الأمر الذي يعني أن التحالف سيصبح أكثر قوة. ويجب ألا ننسى أن دخول مثل كندا التي تراخت عن دفع حصتها الـ2 في المائة، وتراجعت دول عديدة مثل اليابان عن دعم ميزانيتها العسكرية، وذلك بسبب الاعتماد على الولايات المتحدة. هل فكك قاعدة عسكرية واحدة؟ دعونا ننسى التهديدات المتكررة بالانسحاب. لم يفكك قاعدة من القواعد الـ128 المنتشرة حول العالم.

هل سيدمر العلاقة مع الحلفاء؟ تجاهلوا حديثه المعروف الأهداف وركزوا على أفعاله. لن تضعف العلاقة مع الحلفاء بسهولة، وكل ما نراه الآن، وكأننا نرى الفيلم السابق مرة أخرى. رغم كل حديثه فإن العلاقة مع الحلفاء من كوريا الجنوبية واليابان والأوروبيين والسعودية وكندا قوية. بعيداً عن الزوابع التي يحركها، فإن هذه التحالفات ستظل صلبة وليس من السهولة زعزعتها.

هل سيترك للصين فرصة أن تحكم العالم وتفرض هيمنتها؟

في هذا السياق، ترمب سيسير على خطة الاستراتيجية الأميركية الكبرى ولن يغير شيئاً. للصين خيار واحد، وهو الانخراط في النظام الدولي بشكل كامل. وهذا ما فعله الرؤساء قبله من بوش وأوباما وبايدن، وترمب في العهدين الأول والثاني. محاصرة الصين بالتحالفات السياسية والعسكرية، ودمجها بالنظام الاقتصادي، هما الكفيلان بدفعها إلى الدخول في النظام الدولي، أما تركها معزولة وبقاؤها في الخارج قد يؤديان إلى خلق حالة من الصدام وربما حرب كبرى ثالثة، وسيضعف النظام الليبرالي الذي نعيش فيه.

هل سيمنح روسيا بعد الاتفاق معها الهيمنة على أوروبا؟ برأيي هذا مستبعد. روسيا منهكة عسكرياً واقتصادياً (في مقال نشرته مجلة «الشؤون الخارجية» للكاتبين أندرو كوسينكو وبيتر ليبرمان، يشير إلى النتائج المدمرة لهذه الحرب على الاقتصاد والمجتمع الروسي. إلى جانب عدد القتلى الكبير، واهتزاز صورة المؤسسة العسكرية. فالأراضي الأوكرانية المحتلة ستكلف موسكو الكثير بسبب البنية المدمرة، ولن تحصل روسيا على غنيمة الحرب كما توقعت في البداية)، وغزو أوكرانيا جعل الأوروبيين متحدين أكثر من أي وقت، وانضمت دول أخرى إلى «الناتو»؛ الأمر الذي سيحد من النفوذ الروسي مستقبلاً بعد مرحلة الرئيس بوتين الذي ينطلق من فكرة استعادة المجد الإمبراطوري للاتحاد السوفياتي، وهي فكرة تعثرت في أول مغامرة عسكرية كبيرة.

لا نعرف تحديداً بماذا يفكر ترمب، ولكن كل ما يفعله لا يؤشر إلى نيات تدمير القوة الأميركية أو إضعاف مكانتها. لم يضعف حلف «الناتو»، ولم يفكك القواعد، ولم يضعف الجيش، ولم يهدم الاقتصاد، ولم يقطع التحالفات (علق مؤقتاً التعريفات الجمركية على كندا والمكسيك). ولكن من الصحيح أن هناك حوله من يريد فعلاً أن يقوم بذلك. هناك جوقة مؤدلجة ومؤمنة بتفكيك النظام الأميركي وإعادة أميركا إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. رغم ضجيجها المستمر لا يبدو أن ترمب يستمع لها لحد الآن على الأقل.