تطوير النفس مسؤولية فردية ومجتمعية/ أحمد محمد الشحي
إن الاستثمار في بناء الإنسان ركيزة أساسية لنهضة المجتمعات والأوطان، فلا يقوم العمران إلا بعقول فذة وسواعد قوية، ولا تزدهر الحضارات إلا بالأفكار المبدعة والعمل المخلص الدؤوب، وأساس ذلك الأفراد بوصفهم لبنات المجتمع.
ومن هنا فإن تطوير النفس مسؤولية فردية ومجتمعية، فهو مسؤولية فردية باعتباره عاملاً مهماً لبناء الإنسان وتحقيق تطلعاته وأمانيه على المستوى الشخصي، وهو مسؤولية مجتمعية لأنه يمثل حجر الزاوية في نهضة الوطن وتحقيق رفعته وصدارته وريادته، وبالأخص في وطن مثالي كالإمارات حمل على عاتقه بناء الإنسان ودعم الأسرة وتنمية المجتمع.
ومما يعين الإنسان على تطوير نفسه أن يدرك ما يمتلكه من مواهب وقدرات فعلية في حاضره، وما يمكن أن يكتسبه في المستقبل بالتعلم والتدريب والاجتهاد، فيوجه جهده إلى الحفاظ على ما لديه وتعزيزه، والسعي لاكتساب الجديد، فيضيف إلى سجله صفحات مشرقة من المواهب المتجددة.
وهكذا يبقى في تطور مستمر، لا يتراجع بإهمال مواهبه الموجودة فيخسرها، ولا يقف كذلك في مكانه مكتفياً بما لديه، فيقل نفعه، ويسبقه الآخرون ويتراجع، ومن هنا قسم المنطقيون وغيرهم الموجود إلى نوعين، موجود بالفعل وموجود بالقوة، فالموجود بالفعل هو الموجود فعلياً على أرض الواقع، كالمواهب والقدرات التي يمتلكها ويمارسها الشخص، وأما الموجود بالقوة فهو ما لم يتحقق بعد.
ولكن يمكن أن يتحقق، كقابلية الإنسان لاكتساب مهارات جديدة، فيجتهد في تحصيلها، فيُخرجها من دائرة الإمكان إلى التحقق، ويسقي هذه البذور الكامنة في نفسه لتصبح أشجاراً مثمرة يانعة.
ومن أهم ما يحتاجه الإنسان في ذلك أن يعوِّد نفسه على التعلم المستمر لكل ما هو جديد مفيد، ليجعل ذلك نهجاً مستداماً في حياته، كما قال الله تعالى لنبيه الكريم: {وقل رب زدني علماً}.
وهذا يتطلب منه حسن الانتقاء واستثمار الوقت فيما هو أكثر فائدة ونفعاً، وخصوصاً وأننا في عالم يموج بالتطور المستمر، ويشهد تنافساً معرفياً في شتى المجالات.
فمن أراد أن يترك بصمات إيجابية مؤثرة ينبغي عليه مواكبة هذا التطور، واختيار ما هو أنسب لحاله وأكثر تمكيناً له في الإفادة والنفع، سواء في عطائه الوظيفي أم الأكاديمي أم على مستوى إسهاماته المجتمعية أو الشخصية.
ويتأكد ذلك مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، بما تعج به من محتويات مختلفة، إلى جانب المواقع والتطبيقات الإلكترونية الهائلة وصولاً إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي فتحت آفاقاً واسعة للتعلم والمعرفة، وهذه التطورات ولا شك نعمة كبيرة، ينبغي على الإنسان أن يستثمرها في اكتساب المعارف الجديدة.
كما أنها تمثل كذلك تحدياً أمام الفرد، لينتقي ما يفيده من هذا العالم الرقمي، بل ما هو أكثر فائدة ونفعاً، ويبني اختياراته على أسس متينة، ومن أهمها الاعتماد على الموثوق الصحيح، وعدم هدر الوقت فيما لا يفيد ومن باب أولى ما يضر.
ومن المهارات المهمة أيضاً في مسيرة تطوير النفس المهارات العقلية والتفكير الإبداعي، التي تمكِّن الإنسان من فهم واقعه بشكل دقيق، ليعرف ما فيه من تحديات وفرص، واستثمار ما يمتلكه من معرفة في التطوير والوقاية والعلاج.
وبذلك يصبح الإنسان قادراً على مواجهة التحديات، وتحويلها إلى فرص واعدة، وابتكار الحلول المبدعة، بل والمبادرة إلى ذلك، كما قيل: لا تنتظر الفرص، بل اصنعها بنفسك.
ولا يقتصر تطوير النفس على الجوانب المهنية أو الأكاديمية أو العقلية فقط، بل يشمل ذلك أيضاً المهارات الاجتماعية والأخلاقيات الإنسانية التي تمكن الفرد من التعامل الأمثل مع الآخرين.
مما يعزز فرص نجاحه في الحياة، ويكسبه السعادة وانشراح النفس، ويجعله مفتاحاً لنجاح الآخرين وإسعادهم، فالكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب، والتعاون مع الآخرين ومشاركتهم الخبرات تزيد من دعم المهارات الموجودة وصقلها ورفد الآخرين بها.
إن بناء الذات عملية مستمرة تتطلب الإرادة والعزيمة، والتحلي بالصبر والمثابرة، والتمسك بالطموح، كما قال الشاعر: «إذا غامرت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم».
كما أن ذلك يستلزم التخطيط الجيد وتحديد الأهداف والسعي لتحقيقها، وللأسرة دور كبير في تنشئة الأبناء على تطوير أنفسهم، وغرس ذلك في نفوسهم، فأبناء اليوم هم رجال الغد، وهم عُدة الوطن وعتاده، وبهذا تتكامل الأدوار في بناء مجتمع يسعى فيه كل فرد ليكون أقدر على البناء والعطاء.