التعديلات في النظام الداخلي للبرلمان الموريتاني: ضبطٌ ضروري لترقية الخطاب الديمقراطي/بقلم: عبد الله بونا

 


31 يوليو 2025

في السنوات الأخيرة، شهدت التجربة الديمقراطية الموريتانية تطورًا ملحوظًا في ظل قيادة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، تمثل في ترسيخ مناخ من التهدئة السياسية والانفتاح المسؤول على المعارضة، وتعزيز دورها كفاعل دستوري وشريك في التوازن الديمقراطي.

ورغم أن ذلك يعتبر جرعة مهمة غير كافية ، فقد تم إعادة تفعيل مؤسسة المعارضة الديمقراطية وتوفير الدعم اللوجستي والسياسي لها، كما شهد المشهد السياسي تعديلات قانونية هامة طالت النظام القانوني للأحزاب، ساهمت في تنظيم الحياة السياسية، وضمان تمثيل أوسع وأكثر فاعلية، وهي تعديلات في مسار طويل لم يكتمل بعد

هذا التوجه الإصلاحي لم يقتصر على الشكل، بل شمل أيضًا المضمون، من خلال خلق مناخ أكثر انفتاحًا للحوار، وتوسيع قاعدة التمثيل السياسي، وتكريس ثقافة التعددية واحترام الرأي المخالف.

عرفت المؤسسة التشريعية الموريتانية خلال السنوات الماضية توسعًا في هامش حرية الخطاب البرلماني، إلا أن هذا التوسع لم يواكبه تطور مماثل في جودة المضامين ومستوى النقاش.

وقد تحوّلت قاعة البرلمان، في مناسبات عديدة، إلى فضاء لصراعات لفظية حادة، وتوصيفات جارحة لا تليق بمقام السلطة التشريعية، ولا تنسجم مع ضوابط الديمقراطية المسؤولة، خطاب عدمي خارج موضوع الجلسات غالبا

في هذا السياق، تبرز التعديلات الأخيرة على النظام الداخلي للجمعية الوطنية بوصفها ضرورة ملحة، وليست تقييدًا للحرية، بل محاولة جادة لضبط الخطاب البرلماني وتحصينه من الانزلاق نحو الشخصنة والتجريح والعبثية

من حرية التعبير إلى فوضى الخطاب التجريحي والابتزازي

شهدت قاعة البرلمان خلال دورات متعددة تجاوزات لفظية غوغائية، شملت إساءات صريحة بحق الحكومة وفئات من الشعب ، واتهامات مباشرة طالت وزراءً وموظفين سامين، وأحيانًا مسّت مقام رئيس الجمهورية، رغم أنه غير مسؤول دستوريًا أمام البرلمان.

وقد تصدّر هذا المشهد بعض نواب المعارضة، بمن فيهم نواب محسوبون على النائب برام الداه اعبيد، والتي أصبحت تعرف لدى الموريتانيين بنواب الصراصير ، لان نوابها جعلوا من المنبر البرلماني أداة للضغط الشعبوي وليس للتشريع أو الرقابة الرصينة، وأطلقوا حملة أوصاف ضد الجميع معتبرين كل من يخالفهم هو صرور!

وهناك ما يسمى لدى الرأي العام بكتلة نواب فيس بوك.
وهم نواب صعدوا بالنسبية عبر حملات نظموها على فيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي ، فأصبحوا عمليا بلا قاعدة شعبية في الواقع وإنما هي شعبية افتراضية ، عليهم أن يسعوا للاحتفاظ بها بمزيد من الإثارة والتهويل ، كما هو طابع الإعلام الشعبي الموريتاني.

ونواب السرديات الشكلية التي تتقمص دور التحليل الكمي لأداء الحكومة ، لكنها خالية من الوعي والرؤية الاحترافية ، كتعداد عدد القروض والتمويلات والجهات المانحة والممولة واعتبار ذلك فضيحة اقتصادية، بينما هو من زاوية أخرى دليل على تعافي جزئي لاقتصاد موريتانيا ومصداقية لأداء الجهاز الحكومي في المجال الاقتصادي
فارتفاع نسبة الإئتمان مؤشر على حيوية الاقتصاد
ولم يكن الاقتراض يوما علامة عجز وإنما علامة حيوية..
المهم أن يوجه جانب كبير منه للإنتاج حتى لا يكون ديونا ميتة.

ونواب “الخطاب الديني” الذين هم أحرص على احتكار الإسلام لهم دون غيرهم
ونواب من كتل هشة تناور بالخطاب العدمي واللوني بحثا عن ناخبين في بلد لم تنضج فيه بعد العلاقة بين الناخب والمنتخب.
وموالاة أغلبية متباينة في وعي دورها التشريعي ، وتسهم أحيانا في نفس الخطاب السلبي

هذه الممارسات أساءت لهيبة البرلمان، وأضعفت ثقة المواطنين في دوره، كما حولت النقاشات من تقييم موضوعي للسياسات العمومية إلى معارك لفظية مشحونة، لا تقدم بدائل، ولا تحترم كرامة المؤسسات ولا لغة الخطاب السياسي البناء.

التعديلات كأداة لإصلاح الممارسة البرلمانية

تسعى التعديلات الأخيرة إلى وضع قواعد جديدة للخطاب داخل البرلمان، من أبرزها:

ضبط زمن التدخلات لمنع الاستفاضة الخطابية غير المنتجة.

تقنين استخدام العبارات وتوصيف الشخصيات العمومية.

حماية جلسات البرلمان من النقل الفوضوي أو الموجّه عبر وسائل التواصل.

فرض عقوبات واضحة على التجاوزات.
_اليات سحب أو تجميد الحصانة

هذه البنود لا تُقيد النائب عن ممارسة صلاحياته، لكنها تُلزمه بمسؤولية الكلمة، واحترام قيم البلد وثوابته الأخلاقية ، وقيم الديمقراطية واحترام المخالف، وعدم تحويل المنصة البرلمانية إلى مسرح استعراضي أو أداة لتصفية الحسابات أو للتعبئة السياسية بخطابات الكراهية والتحريض على العنف لتهديد السلم الاجتماعي.

الديمقراطية لا تعني الفوضى

من الخطأ الاعتقاد أن توسيع الحريات يعني رفع كل الضوابط، فالديمقراطية هي نظام للحرية المنظمة والمسؤولة، لا للفوضى اللفظية أو العنف الرمزي. والمطلوب من البرلمان ليس فقط التعبير عن الاستياء أو المعارضة، بل طرح البدائل وصياغة الرؤى القابلة للتطبيق وقيادة الدولة والمجتمع نحو ثقافة المواطنة ودولة القانون

في هذا الإطار، فإن هذه التعديلات تمثل خطوة باتجاه تحديث العمل البرلماني، وإعادة الاعتبار لسلطة التشريع والرقابة، في أجواء تحترم القانون، وتُعلي من شأن الأدب السياسي، وتجعل من الأداء البرلماني رافعة لترقية الممارسة الديمقراطية بدل أن يكون عبئًا عليها.

المطلوب الآن – تفعيل التعديلات بروح إصلاحية

يبقى التحدي في كيفية تفعيل هذه التعديلات. فحتى لا تتحول إلى أدوات لإسكات الصوت المخالف، يجب أن تُطبّق بمعايير موضوعية، وأن تكون جزءًا من إصلاح مؤسسي شامل يشمل تكوين النواب، وتطوير أدوات الرقابة، وخلق بيئة قانونية تعزز من استقلالية البرلمان وكفاءته.

التعديلات على النظام الداخلي للبرلمان الموريتاني ليست تراجعًا عن الديمقراطية، بل خطوة باتجاه ترقيتها وتطوير أدواتها. فحرية التعبير داخل البرلمان يجب ألا تكون غطاءً للسبّ أو التشويه، بل وسيلة لبناء خطاب سياسي راقٍ، يُحاسب من خلال الأدلة، ويعارض من خلال البدائل، وينتقد ضمن حدود الاحترام والكرامة.

الديمقراطية وعيٌ يتراكم

إن الديمقراطية ليست لحظة انتخابية أو شعارًا يُرفع، بل مسار طويل يتطلب التدرّج، والتعلم من التجارب، وتراكم الوعي المؤسسي والسلوكي. وما تمر به موريتانيا اليوم من إصلاحات قانونية ومؤسسية، هو جزء من هذا المسار، الذي يقتضي أحيانًا تصحيح المسار بدل الإغراق في التنظير.

لقد مرت ديمقراطيات عريقة بمراحل شديدة الاضطراب قبل أن تبلغ نضجها الحالي. فالتجربة الفرنسية عرفت اضطرابات كبرى قبل أن تستقر على جمهوريتها الخامسة، فيما واجهت الديمقراطية الأميركية لحظات اختبار صعبة، حتى ترسخت قواعدها. والمشترك بين هذه التجارب هو القناعة بأن الحرية لا تكون فعّالة إلا إذا واكبها حسّ بالمسؤولية، وأن المؤسسات لا تترسخ إلا إذا ساد فيها الاحترام المتبادل، واحتُرمت فيها الضوابط القانونية والأخلاقية.

من هذا المنظور، فإن التعديلات الأخيرة على النظام الداخلي للبرلمان ليست خروجًا عن المسار الديمقراطي، بل تعبير عن نضجه وتطوره، وعن السعي لتحسين أدوات الممارسة السياسية، بما يجعلها أكثر مهنية، وأقدر على خدمة المصلحة العامة.

إن الديمقراطية لا تزدهر بالصوت المرتفع، بل بالعقل الرصين والكلمة المسؤولة، وهذه التعديلات إن نُفّذت في سياق إصلاحي حقيقي، فإنها تمهد الطريق نحو برلمان أكثر نضجًا، وممارسة سياسية أكثر اتزانًا.