تراجع نسبة المشاركة في الإنتخابات….إنذار بخطر قادم كبير..الدكتور محمد ولد الراظي

عادة ما يهتم الناس بتوزيع الأصوات المتحصل عليها بين المترشحين أكثر مما يهتمون بغيرها من مخرجات الإقتراع  ولكن بعضهم يهمه أيضا عدد الأصوات اللاغية خاصة أولئك الذين يظنون أنْ قد يكون لهم منها نصيب أوفر فيكون اهتمامهم بها من أجل فهم أسبابها والعمل على تجنبها قدر المستطاع في قادم الإستحقاقات.

ليست الأمية الأبجدية وحدها السبب في الصوت اللاغي كما هو شائع بين الناس – فالأمي يستطيع التعرف على خانة مرشحه من خلال صورة المرشح نفسه  أو من خلال الرمز المعبِّر عنه-  بل إن السبب الجوهري يكون في ضعف الوعي المدني للناخبين عموما وضعف المستوى  التأطيري والتنظيمي للكادر السياسي المشرف تارة وغياب الدوافع والمحفزات لديه تارة أخرى.

تكثر البطاقات اللاغية عادة في المناطق الحضرية الكبرى حيث الكثافة السكانية تفوق قدرة المؤطرين ، وتكثر أيضا في المناطق القصية حيث يكاد التأطير ينعدم ، وليست الأصوات اللاغية كالأصوات المحايدة،  فكل مترشح يناله منها ضرر قلٌَ أو كثُر.

أما نسبة المشاركة فتظل دائما خارج دائرة اهتمام الجميع فلا أحدهم يلتفت كثيرا لعدد الذين تخلفوا عن الإقتراع ولا أحدهم يهمه أن يفهم الأسباب رغم أهمية نسبة المشاركة  في ترسيخ مشروعية الفائز بأغلبية الأصوات وأهميتها الكبيرة أيضا في رسم معالم ما قد يكون عليه المشهد في اليوم الموالي !!!  فلماذا يتخلف الناس عن الإقتراع ؟

قد يتخلف الناس لعدم اكتراثهم أصلا بالعملية  الإنتخابية برمتها وعدم اهتمامهم بمخرجاتها  وقد يتخلفون عنها من أجل إفشالها نكاية بالسلطة القائمة وتارة يتخلف البعض لأنه يئس من التجربة الديمقراطية عموما ولم تعد له ثقة في  مسار يراه  يراكم  من أسباب اليأس أكثر بكثير مما يعطي من إشارات الأمل…تعددت الأسباب والنتيجة واحدة : تتراجع نسبة المشاركة في الإنتخابات وتتزايد المخاوف من تعرض البلاد لهزات كبيرة يوم يكون أكثر من نصف المسجلين قد تغيب عن الصناديق .

حين تتجاوز نسبة المشاركة  50% من أصوات المسجلين تكون قد منحت المشروعية السياسية والأخلاقية  لمن فاز بغالبية أصوات المقترعين وتحرم  الخاسر من دفع قوي يساعده في المضي بعيدا في مسارات الرفض والتشكيك التي تعود أن يسلكها  كلما جاءت النتيجة بما لا يهوى.

أما حين تكون نسبة المشاركة أقل من نصف عدد المسجلين – وهو ما تهدف له عادة حملات المقاطعة-  فالفائز والخاسر كلاهما خسر،  الأول خسر أغلبية المسجلين فخسر مشروعية فوزه وخسر القدرة الأخلاقية على تمثيل شعب تخلف أكثر من نصف ناخبيه عن تزكيته  والثاني خسر أغلبية المقترعين فخسر الإنتخابات لكنه لا يقبل بفوز خصمه الخاسر هو أيضا ….فتبدأ المواجهة بين خاسرين قد تنتهي بصراع لا قدرة للبلاد على مواجهته ولا مصلحة لأحد في وقوعه …

لا يُستبعد أن تشهد الإستحقاقات القادمة ، إن ظل الحال على ماهو عليه، انتكاسة أخرى لنسبة المشاركة مما يستدعي البحث في أسبابها والعمل على معالجتها بسرعة وقبل أن يكون الأوان قد فات .

فاز السيد محمد ولد الشيخ  الغزواني فوزا مريحا وهو ما كان يتوقعه الجميع حتى الذين أنكروه يعلمون جيدا أن ليس من بين المتنافسين مَن بمقدوره أن يفوز بثقة الغالبية من المصوتين في انتخابات 2024.

فقد فاز بنسبة 56% من المقترعين في انتخابات وصلت فيها  نسبة المشاركة حدود 55% ؛ وكان قد فاز في مأمويته الأولى عام 2019 بنسبة لم تتجاوز 52% فقط في ظل مشاركة بلغت ما يقارب 63%…..

فما الذي دفع الموريتانيين لهجر صناديق الإقتراع هذه المرة أكثر من المرة السابقة ؟ وماهي الدروس  التي يمكن أن نستخلصها من هذه المشاركة الضعيفة نسبيا ؟

وهل يعود السبب لتراجع ثقتهم في السياسة عموما ؟ أم أن الخمسية الأولى جاءت دون التوقعات فلم تقنع الكثيرين بالمشاركة في الإقتراع ؟ ولماذا لم يتوجه هؤلاء للصناديق لممارسة تصويت عقابي على وعود لم تتحقق وتجربة لم ترق للحد الأدنى مما يقبلون به  ؟ أم أن المعتكفين في بيوتهم لم تصل مرارتهم من السلطة درجة العداء ولا يخشون عليها من مرشحين لا يرغبون فيهم ،  ففضلوا أن يستريحوا في منازلهم بدل الإنتظار في طوابير طويلة وجو مشمس دون دافع كبير؟

وهل من فرضيات أخرى تساعد في فهم تراجع بنسبة المشاركة هذا العام بواقع 8% عما كانت عليه عام 2019؟

وكيف سيكون عليه الحال إن استمر التراجع بهذه الوتيرة فوصلت نسبة المشاركة لما دون 50% في قادم الإستحقاقات ؟ وهل يمكن لمجتمع قليل الوعي، ضعيف البنيان،  تتعاوره المخاطر من داخله ومن خارج حدوده ، ويستعد لأن يكون قبلة لمن ضنت عليهم أوطانهم بأسباب العيش ،  أن يتحمل تجاذبات انتخابات فاز فيها الرئيس بأصوات المقترعين وخسر  أصوات المسجلين  ؟ وكيف كانت ستكون عليه البلاد لو أن نسبة المشاركة هذه السنة انخفضت لما دون 50% ؟ !!!

وما هي السبل الكفيلة بتوعية الناس حول مخاطر العزوف عن صناديق الإقتراع ؟ ومن تقع عليه المسؤولية في ذلك ؟ وماهي  الإجراءات القانونية والسياسية والفنية التي يتعين على السلطة أن تقوم بها من أجل تفادي هذه المخاطر مستقبلا ؟

ثلاثة ممن ترشحوا لهذه الإنتخابات يملكون مخزونا انتخابيا كبيرا ، إثنان من هؤلاء الثلاثة لهما قواعد منظمة ومتماسكة وتكاد تكون ثابتة لكن كليهما يدرك جيدا استحالة فوزه في هذه الإستحقاقات لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية،  والمشاركة في المنافسة الرئاسية يريانها مجرد فرصة للتواصل مع الناخب من جديد وتحقيق نسب تصويت أحسن مما سبق تمكن من تحقيق مكاسب سياسية للبعض وتساعد في تنفيذ أجندات خاصة بالبعض الآخر ….

هذان المرشحان السيد بيرام الداه اعبيد بقاعدته ال”إيراوية والفلامية” والسيد حمادي سيدي المختار بقاعدته “التواصلية” غير معنيان كثيرا  ، بالنظر لطبيعة قواعدهما ، بتراجع نسبة المشاركة إذ لن يتخلف لهما أحد عن التصويت إلا لقوة قاهرة…

أما ثالث المترشحين الكبار فهو الرئيس المنتهية ولايته السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ، له حزب وله أغلبية داعمة  وحزبه وأغلبيته تشكل نفس المشهد الداعم لسلفه ولسلف سلفه ولمن سبقهم جميعا منذ 1991 ولمن سيأتى من بعده…..

زاد السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أنه استطاع أن يوسع دائرة أغلبيته بشخصيات وعناوين حزبية وازنة من الطيف المعارض لسلفه ومن ضمنهم من سجل موالاته لأول مرة في تاريخه السياسي.

 

فلماذا رغم توسع دائرة قبول الرئيس بين المعارضين السابقين  واستمرار أغلبيته التقليدية  في دعمه، لم تتمكن حملته من حشد عدد أكبر من الناخبين خاصة في المناطق الحضرية الكبيرة وعجزت عن تسجيل نسبة مشاركة أعلى في الكثير من الحواضر والبلدات والقرى في الداخل؟

فهل يعود الأمر أن طواقم الأغلبية “المخزنية” للسلطة- ضاقت ذرعا بالوافدين الجدد الذين غمروها وأزاحوها لخطوط خلفية،  فانكفأت عناصرها ممن لهم تجارب طويلة في عمليات استخراج الناخبين من بيوتهم ولم تُجهد نفسها كثيرا فجاءت نسبة المشاركة ضعيفة وجاءت نسبة الأصوات المتحصل عليها أقل مما كان متوقعا ؟ أم أن هؤلاء لم يعودوا يخافون من الحاكم مساءلة ولا تعنيفا ولا ردة فعل ضارة ففضلوا الراحة ولزموا البيوت….؟

تميزت مأمورية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الأولى باستقالة شديدة  لجهاز حزبه الإعلامي  مقابل نشاط قوي لمعارضيه عبر وسائل التواصل الإجتماعي التفاعلية ، فتعرض للكثير من التعريض ولم يخرج مَن يدافع عنه من أنصاره وبثَّ خصومه صورة نمطية عنه ذاعت بين الناس تقول  إنه يخاف كثيرا أن يأتي أحدا بسوء وهذه الصورة قاتلة لهيبة الحكم ولصورة الحاكم الذي هو الضامن لحسن سير المؤسسات والضامن لتفعيل القانون وإنفاذه ولا يقبل منه إلا الحزم والقوة،

فحين تهتز صورة الحاكم في أذهان الناس لا يعود المرء يتقيد بضوابط ولا يعود يلتزم بقوانين ولا تعود الدولة تعني له شيئا مذكورا فيختل كل شيئ وهذا مكمن الخلل النفسي الكبير.

فهل يفوت على الرئيس أن اللين والمرونة والكياسة دون القوة إشارات خاطئة لا تنتج سوى المفاسد وأن العدل دون قوة  بلاغ كاذب لا تستقيم عليه دولة ولا يقوم عليه بنيان و أن القوة دون عدل طغيان وفجور لا ينتهي إلا بالمآسي والخراب ؟ وهل فاته أن الدولة وحدها من له الحق في الإكراه وأن الحاكم حين يجمع  بين العدل والقوة يكون محل ثقة لدى الناس عامة وموضع تقدير واحترام وموطن أمان….فكيف يجمع  الحاكم بين القوة والعدل ؟ لا طريق لذلك غير تفعيل القانون وتركه وحده حكما بين الناس وخصم الجميع…وأول تفعيل للقانون يبدأ بحماية هيبة الدولة ودستورها ومحاربة الغش والفساد في مؤسساتها…

ينسب لعلي بن أبي طالب قوله :” أعينوني على أنفسكم ، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها” فمن هو الظالم ؟ الظالم من تعدى على المال العام بقليل أو كثير،  فقد  ظلم الجميع وعرض الجميع لضنك العيش وعرض الجميع للفشل وعرض حياة الكثيرين للخطر.

فمن نهب مالا عاما يكون مسؤولا جنائيا عن حياة أي إنسان قضى في حادث طرقي  نتيجة رداءة الطريق ومسؤولا جنائيا عن كل من قضى نحبه لسوء خدمات صحية ومسؤولا عن كل مستقبل ضاع لمواطن لم يتحصل على أسباب التحصيل المدرسي والظالم من تعدى على أعراض الناس جماعات و فرادى  والظالم من عرَّض السلم الأهلي للخطر بقول أو فعل وتصبح السلطة الظالم الكبير وللجميع حين تفشل في دورها في إنصاف الناس وفرض سيادة القانون فلا شيئ يمكن توزيعه بعدل وتناصف غير العدل والسلطة لا بد أن تكون مظنة للقدرة على إنزال العقوبة بمن استحقها…..ولا أحد فوق القانون

أحدث هذا الانطباع الذي تحصل لدى الناس عن الرئيس ضررا كبيرا  بهيبة الدولة وأضعف ولاء “حزب المخزن” لرئيسه وأضعف مِن تحفز الطواقم “المخزنية” لتوجيه الناخبين والجد في خدمة المرشح مثل الذي كانوا  دأبوا عليه في كل الإستحقاقات السابقة خوفا وطمعا….

السبب الآخر في ضعف الإقبال هذه السنة أن الطواقم التي دفع بها الرئيس لم تكن مقنعة في غالبيتها وقد يكون الكثير من هؤلاء أساء لمرشحه من حيث أراد أن يحسن إليه وقد يكون من بين القوم  من يأتمر به ؛  فلا مأمن في السياسة ولا أمان .

فقلة القلة من طاقم حملته  من يُقنع في أدائه الوظيفي وقلة منهم من يُقنع في خطابه والكثرة الغالبة تعود الناس منهم قول الشيئ ونقيضه مرات ومرات  وتعود الناس منهم أنهم قليلا ما يستحون وقليلا ما يعفُّون وتعوَُد الناس منهم أنهم في غالبيتهم مدعاة نفور لا سفارة قبول……فنفَّروا الناس من مرشحهم لكن هؤلاء الناخبين لم يستهوهم  أحد من المترشحين الآخرين ولم ينجح في كسبهم  فلبثوا أماكنهم واستراحوا….

لم يقدم الرئيس المنتهية ولايته برنامجا واضح المعالم لمأموريته القادمة  ولم يقدم طاقمة جردا لتجربته في الحكم واكتفت الطواقم بتنظيم سهرات وحفلات ،  هذه سهرة فلان وتلك حفلة الفلانيين وهذه مبادرة شيخ القبيلة فلان بن فلان  وتلك مبادرة مدير المؤسسة الفلانية وكأن الجميع في بازار عرض لأجمل الخيام وأحسن الأنغام وأكثر أنواع الرقص حداثة وتنوعا…..وأكثرها سفورا أيضا ؛ كانوا جميعهم في كل خرجة يُشهدون الناس كيف وأين ولماذا تُنهب أموال البلد وأقوات الناس،  فلن ينفق موظف حكومي من جيبه إلا مستثمرا يضمن رجعا كبيرا  في قادم الأيام القريب ولن يكون العائد إلا من نهب آخر وسوء حكامة جديد !!!

تأثرت نسبة المشاركة كثيرا بهجرة ما  يقارب 30 ألفا من الشباب الموريتاني نحو أمريكا غالبيتهم قد تكون شاركت في انتخابات 2019 وكان أيضا لهؤلاء المهاجرين دور كبير في الحملة المضادة  وكان لذويهم أسباب كثيرة تجعلهم يهجرون الصناديق ؛ فلا هم من جمهور “إيرا-فلام”  ولا هم من جمهور “تواصل” ومأمورية الرئيس الأولى لم تخلق لأبنائهم ملجأ عن الهجرة فخلصوا أن  لا شيئ يدعوهم للتصويت ومكثوا في البيوت.

جرت انتخابات 2019 في فترة ما تزال المعارضة التقليدية لها حضور محسوس وتخشاها الدوائر الحكومية خشية كبيرة فاستفز ذلك ماكينة “المخزن” فاستشعرت الخطر – سيتضح لاحقا أن الإنذار كان كاذبا- فقامت بجهد تعبوي كبير لم تقم به اليوم.

لم يكن من المتوقع أن يحصل الرئيس على نسبة مئوية أعلى من تلك التي تحصل عليها في الإنتخابات الأولى ، فعادة ما تكون ممارسة السلطة سببا في تآكل الحاضنة الداعمة للرئيس ولكن جرت  العادة أيضا أن يدفع ذلك بالكثير من المغاضبين للنزول يوم الإقتراع لتصويت عقابي فتتحسن نسبة المشاركة وتتراجع النسبة التي يفوز بها الرئيس لكن الذي حصل عكس كل التوقعات ، فاز  الرئيس بنسبة أعلى  وتراجعت نسبة المشاركة كثيرا…..  !!!!! قد يكون السبب أن القاعدين غير راضين عن مأمورية الرئيس الأولى وغير مستعدين لدعم غيره من المنافسين الكبار ومطمئنين باستحالة فوز أحدهم عليه  ففضلوا أن يستنكفوا في البيوت بدل الإنتظار في الطوابير الطويلة فلاهم يخافون وصول غيره للسلطة ولاحافز لهم  في تحسين نسبة فوزه.

رفض السيد بيرام الداه اعبيد وحليفه “الفلامي” نتائج الإنتخابات قبل الإعلان رسميا عنها وأضاف أنْ رفض اللجنة المستقلة للإنتخابات ورفض المجلس الدستوري و قد أودع ملفه لديه وقال بالتزوير ولم يقدم  دليلا واحدا عليه لا في الآجال المنصوص عليها ولا في الخرجات الإعلامية  ثم شهد شاهد من حملته  وليس كأي شاهد ، المسؤول عن تدقيق العمليات،  وقال إنه لم يلحظ خدشا ولو بسيطا في  مسار العملية ولما لم يستمع قومه لشهادته رد الباب وانصرف …..فمتى تكون الإنتخابات عادلة بالنسبة للسيد بيرام الداه اعبيد وحليفه “لفلامي”؟  وما ذا لو كانت نسبة المشاركة هذه السنة دون 50% ؟ !!! سيقول إن الرئيس فاز بأقلية المسجلين وأن الإنتخابات مختلة من أساسها وسيستمع له قوم كثيرون في الداخل والخارج وستكون البلاد دخلت في دوامة من الشك والريب…….فكيف السبيل لضمان أن تظل نسبة المشاركة تفوق نصف المسجلين ؟

التصويت،  من حيث المبدأ ، حق للمواطن يلزم الدولة أن توفر له كل السبل للقيام به  وليس واجبا تترتب على تركه إجراءات عقابية.

لكن التفريط في هذا الحق قد يكون به مضرة والحق حين يضر تتدخل السلطة لتصحيح الخلل من خلال سن تشريعات تحيد الضرر وتبقي للشخص حريته في اختيار الشكل الأنسب للتعبير عن إرادته.

كانت الترشيحات المستقلة مشروعة فامتلأت غرف البرلمان بشخصيات مجتمعية لا تهمها السياسة في شيئ ولا يعنيها الشأن الوطني كثيرا فتبين أن في ذلك مضرة كبيرة بالتنمية السياسية وتطوير المؤسسات فتقرر فرض الترشح من خلال الأحزاب وحُرم المواطن من حقه في الترشح بنفسه وهو حق مشروع…..تغير الشكل ولم يتغير الجوهر كثيرا  لأسباب عدة  ولكن القرار كان سليما.

سيتعين على السلطة أن تبحث عن سبل تسهيل عملية التصويت من خلال دراسة أسباب العزوف عنها في الأرياف كما في المدن وسيتعين عليها أيضا النظر في قضية البطاقات اللاغية وغيرها من مخرجات العملية الإنتخابية  ويمكن تلمس مسالك عدة لذلك من بينها:

1- التصويت الإلكتروني

يمكن للجنة المستقلة للإنتخابات برمجة إمكانية التصويت الألكتروني على أن يبدأ العمل به  في مراحله الأولى في   نواكشوط ونواذيب وازويرات

2- التعبئة اللوجستية

يمكن  للدولة أن تعبئ على نفقتها الخاصة سيارات نقل مجهزة بمكبرات الصوت تجوب شوارع كبريات المدن لنقل من لم يتمكن من الذهاب نحو مكتب التصويت وتكون تحت إشراف اللجنة الوطنية المستقلة للإنتخابات

3-  الرجوع للبطاقة الفردية لكل مترشح تحمل إسمه وشعاره سيمكن من التغلب على ظاهرة البطاقات اللاغية وسيتعين على السلطة لاحقا  أن تجد الوسائل الكفيلة بالتغلب على ما قد يفسح ذلك  من مجالات واسعة لشراء الذمم .

4-  اعتماد النسبية في جميع الدوائر بالنسبة للإنتخابات البرلمانية سيحفز الجميع على بذل أقصى جهد لحشد الناس يوم التصويت وزيادة المشاركة والوعي بها.

5-إن أهم محفز على المشاركة السياسية مهما كان شكلها ونوعها هو أن يكون  المواطن حرا في رأيه وحرا في التعبير عنه وقادرا عليه……فكيف يكون المواطن حرا في رأيه؟

يكون الناخب حرا حين تكون الدولة عادلة وضامنة لأساسيات الحياة وراعية لحسن سير المؤسسات ولا يكون لأحد نصيب من مال عمومي إلا مقابل خدمة عمومية ولا يكون أحد فوق القانون ويكون القضاء مستقلا وتكون النيابة العامة لها من الإستقلالية ما يسمح لها بفتح الدعاوي العمومية عن كل ملف حامت حوله شبهات وأن تكون للإعلام حرية تنتج لفت انتباه وتقصي ولا تكون مجرد تنفيس أو صراخ لا يهم أحدا وينتهي بصاحبه عادة أن يمل منه ويستقيل.

إن على رئيس الجمهورية أن يفهم  أن الأسباب التي جعلت موظفي الدولة يفشلون في إقناع الناس هي أنهم  فشلوا في خدمتهم يوم تولوا  الوظائف التي شغلوها  وفشل الموظف العمومي لا يكون الا عن سوء حكامة لا مراء فيه ولا لبس….. ثم إنه مطالب أن يقوم بإصلاحات جوهرية تؤسس لمنظومة حكامة تنتج ناخبا حرا في رأيه وتنتج موظفا حكوميا في خدمة وظيفته يخشى المساءلة عن كل خطأ ولا يبخل عليه شعبه بمكافأة حين يحسن الفعل….فمتى يكون الموظف خادما لوظيفته ؟

سيكون على الرئيس أن يؤسس لنظام توظيف مبني على أساس مسابقات مفتوحة أمام كل الذين يملكون المؤهلات وتكون المسابقات بإشراف قضائي.

سيشعر الموظف الجديد أن لا منة لأحد عليه  وأنه مدين لبلده ومدين له وحده فتصبح الدولة حينها دولة مؤسسات لا دولة قبائل ولا شرائح ولا مراكز نفوذ.

ثم إن الخطاب السياسي حين يكون مقنعا يساعد في تعبئة الناخبين….ولكن متى يكون الخطاب السياسي مقنعا ؟ أول الشروط أن يكون صاحبه يعرف ما يريد ثم يكون مقتنعا به ولا يبدو أن في البلاد اليوم من يؤمن بخطاب سياسي واضح  غير جماعات اليسار والقوميين والإسلاميين ولا بأس أن تقبل الدولة بترخيص العمل السياسي لهذه الحركات بأسمائها وأفكارها.

ثم إن حصر قبول الأحزاب في ملء استمارات وتقديم لائحة وكلاء  فيه تتفيه كبير للسياسة نفسها وهو ما تسبب في هذا الانتشار الكبير للأحزاب السياسية المحمولة فضاعت البرامج البديلة وأصبح التعريف المميز للحزب أنه  ضمن الأغلبية أو مسجل في الطرف الآخر ينتظر ….سيكون من الضروري أن

تنشئ الدولة مجلسا علميا يبت في قبول الأحزاب على أساس مشاريع مجتمعية واضحة غير مستنسخة بعضها من بعضه فيكون أصحاب الحزب ملزمين  بنهج وسياق وموقف معروف وإلا يصبحون في تعارض مع النصوص التي تقدموا بها للحصول على إذن العمل السياسي…….فلا يجوز أن تستمر الدولة شريكا في استغباء المواطن بهذا الشكل القائم اليوم.

أخيرا ليس تدني نسبة التصويت وحده ما قد يمثل خطرا على استقرار البلاد وسكينة المجتمع وإنما المجالس الجهوية قد تكون الأخطر لأنها تضع قواعد الفيدرالية وأساسات الإنتماء الجهوي على حساب الدولة ولأنها لا تنتج خيرا لأحد.

الانتماء الجهوي حين يكون مؤسسة فتؤسس المؤسسة لمصالح بين أهل الحيز وتخلق روابط تجعل مصالحهم فيما بينهم أقوى سيترسخ الإنتماء فيصبح هوية وسيكون أكثر تجليا في الداخل منه في نواكشوط ونواذيب وازويرات  وسيجد فيه الكثير من دعاة الفيدرالية ضالتهم المنشودة فيعيدون المطالبة بما طالبوا به يوم لم يكن أحد يخطر بباله غير وطن واحد وهوية واحدة.

ثم إن بلدنا لا يملك ثروات كافية خاصة بكل منطقة ولا يملك حسا وطنيا كافيا يحميه  وآخر ما يحتاجه هو هذه الفيدرالية التي لا تخبر عن نفسها صراحة لكنها  في واقع الحال قد خطت خطواتها الأولى يوم تأسست المجالس الجهوية .