محاولة لفهم الخلفية الفلسفية للتراجع الغربي أمام المد الصيني / الدكتور محمد ولد الراظي عضو قيادة حزب الإصلاح
يشهد عالم اليوم تحولات جذرية في موازين القوي تعلن عن نفسها في الكثير من العناوين المدنية والعسكرية والاقتصادية والتطور العلمي في التكنولوجيا الرقمية قاطرة العلوم في القرن الواحد والعشرين……ظل الغرب سيد العالم بثقافته وقوته الإقتصادية والعسكرية لقرون عديدة وبلا منافس كبير لغاية العشريات الأخيرة من القرن العشرين…..هنا بدأ يلوح في الأفق قطب آخر وثقافة أخري ونمط عيش مختلف تماما وعلاقات مجتمعية تكاد تكون شيئا آخر غير الذين نعرف…….. صدق فيه قول الكاتب الإيطالي الشهير “ألبرتو مورافيا” إن من يزور الصين يشعر أنه حل بكوكب آخر أو أنه كان في كوكب آخر ….كل شيئ مختلف.
إن هذا التحول الكبير له أبعاد كثيرة تفسر تراجع الغرب وأخري تحدد بعض ملامح ما أصبح يعرف بالمعجزة الصينية….ولا بد أن يكون للحاضنة الفلسفية الدور الكبير في حالتي الجزر بالغرب والمد بالشرق ….
تخلفت المراكز البحثية في أوروبا وأمريكا كثيرا في فهم المجتمعات السوفياتية المجاورة والتي تشترك معها في الكثير من الخصائص والسمات الثقافية والبشرية ولم يتنبأ أحد بتفكك تلك الإمبراطورية المخيفة…..لم يكن سبب ذلك قلة الأموال المرصودة ولا ضعف الخبرات ولا قلة حيلة الخبراء وقطعا لم يكن ذلك القصور ناتجا عن تفاهة الهدف ولا سهولة المستهدف ……
وكان تخلفها أكبر حين عجزت أن تستشعر عودة الصين بعد فشلها الأول مع انهيار الإتحاد السوفياتي فأين تكمن المشكلة ؟
ما هي الأسس الفلسفية التي قامت عليها حضارة الغرب؟ وما هي أسباب تراجعها الكبير في مطلع القرن الواحد والعشرين؟ وهل هو عائد لاختلالات مادية وتراجع اقتصادي بحكم علاقات الدول والأحلاف أم ناتج عن انفراط عقد المنظومة الثقافية وانفصام العلاقة بين الإنسان والتربة الثقافية التي صنعت تقدمه وتطوره ؟ وما هو الدور الذي لعبته المسيحية القادمة من الشرق في تكلس العقل الأوروبي أيام سيطرة الكنيسة؟ وهل كان تحرر الغرب من الكنيسة ناتجا عن كونها أجنبية علي بنية العقل الإغريقي أم لتنامي سطوتها وخرافيتها ؟ وماهي الأسباب التي استفزت الصين فأيقظتها من غفوتها الطويلة ؟ وما هو السر وراء تماهي الإنسان الصيني مع الثقافة الصينية ومناعة العقل الصيني بوجه الأفكار الوافدة ؟ وهل السبب يعود لعدم اغتراب الإنسان الصيني عن ثقافتة؟ أم لأنها ثقافة تحمل معها أبعادا دينية تجمع بين الأرضية والمحلية؟…..ولماذا هذا التسارع المذهل للنمو في شرق الكرة الأرضية ؟
وهل هو بفعل الثورة الرقمية التي جعلت العلوم تتراكم بسرعة ومديات مذهلة بعدما كانت تتراكم وهي تحبو في القرون الخوالي ؟
الفلسفة هي العقل والأمم تتطور بالعقل وتتراجع وتكبو بالخرافة والظلامية والجمود …..والجمود والفلسفة لا يجتمعان……
بدأت الفلسفة في عالم الإغريق تنتشر مع نهاية القرن السادس قبل الميلاد وبداية الخامس وبدأت معها بواكير العلوم في الرياضيات والفيزياء والفلك والطبيعة….وأنجبت أثينا وحواضر الإغريق الأخري علماء وفلاسفة كبارا كان بيتاغور أولهم وسقراط أعظمهم………..كان النصف الشرقي من الكرة الأرضية علي موعد هو الآخر وفي نفس الوقت تقريبا مع مفكرين وفلاسفة كبار ومدارس فلسفية لها ما قبلها…..لم تنقطع ولم تتوقف وإن تطورت فمن داخلها فكانت تعبر عن نفسها في حلة جديدة تجمع بين الفكر والسياسة والفلسفة والدين.
كان الموعد مع “كونفوشيوس”لم يكن وحده بل كان ” لاو اتز” و كان “منسيوس” الذي هو منه بمنزلة أفلاطون من سقراط……لم يكن “كونفوشيوس” بالنسبة للحضارة الصينية مجرد العنوان الأبرز كما كان سقراط بالنسبة للحضارة الإغريقية بل زاد بأن جمع مع ذلك صفة القائد السياسي والمرجع الديني…..
لم يترك أي من الرجلين كتابا ولا منشورا مكتوبا رغم أن كليهما ترك إرثا فلسفيا عظيما ….ولدا في حقبة زمنية متقاربة وعاشا حياة لا يشتركان في قواسم كثيرة منها…سقراط عاش مآسي كثيرة منذ ولادته قصير القامة دميم الخلقة متقشفا وانتهي منتحرا بالسم بعد أن حكم عليه بالإعدام بتهمة “إفساد عقول الرعية” لأنه تمرد علي السفسطائيين الذين كانوا يسوقون الفكر والجدل كما تباع البضاعة وتشتري …..كانت بضاعتهم حكرا علي القادرين علي الدفع ولم يكن هؤلاء يودون كثيرا نصيبا من العلم……كان سقراط ثورة بكل المقاييس يجوب حواضر الإغريق يعلم الناس الجدل والمنطق بلا أجر…..أخذ أفلاطون يكتب ما سمع من معلمه وبث فكره بين الحواضر بلبوس أكثر هدوءا وأقل صدامية يعكس مرارة الحزن للمصير المأساوي الذي آل إليه سقراط…
يمكن القول إن الفلسفة الإغريقية نشأت من فراغ كبير (ما ينسب لبيتاغور -السابق لسقراط- من عبقرية في مختلف العلوم تسيٌَج بالكثير من الخرافة التي أفقدته الكثير من ألقه) كانت الخرافة والآلهات المتعددة والمتحولة والمخزون الهائل من الميتولوجيا المنثورة والمنظومة عناوينه البارزة لذلك كان سقراط مؤسسا وكانت فلسفته النبتة التي أثمرت الفكر الإغريقي لاحقا.
لم تتأثر كثيرا هذه الفلسفة من بطش الرومان لأن هؤلاء كانوا يتغاضون عن كل نشاط لا يمس من سلطانهم ولا يهدد إقليما من أقاليم الدولة.
وقد استفادت المسيحية من هذه “الرحمة” وحتي اليهود في المشرق كانوا يعيشون بسلام في جو احترام سلطة “بيلاتوس”……ما تعرض له المسيح عليه السلام كان فقط حين بدأ في ثورته وعصيانه علي الإمبراطورية فحاكموه وقالوا إنهم قتلوه “وما قتلوه يقينا”…كانت أولي ترجمات الأناجيل الأهم “متي” “مارك” “لوقا” و”يحني” الي اللغة اليونانية……وهو أمر طبيعي إذ كان الإغريق قبلة المعارف ومحجة العقل والمنطق…
بدأت المسيحية تنتشر علي خلفية مظلومية كبيرة نتيجة للتصفيات البشعة التي تعرض لها البعض من أتباع الدين الجديد حين يفصحفون عن المعتقد ويبدأون بنشره…….هم ساعتها أقرب للطائفة المشؤومة من أي شيئ آخر…ستنقلب الأحوال رأسا علي عقب بداية القرن الخامس حين استطاعت السيدة “كلوتيد” زوج القائد “اكلوفيس” في بلاد “الغال” أن تقنعه بالتنصر علي خلفية خرافة النذر بأن يصبح مسيحيا فور انتصاره في معركته القادمة والخطيرة مع الفرسان البرابرة الألِمان….فلما انتصر تنصر وتنصرت معه فرنسا كلها….. حال “اكلوفيس” مع المسيحية يشبه الي حد كبير حال “قسطنطين” في روما الذي رأي في منامه أن برأسه خوذة بها ما يشبه الصلبان وكان هو الآخر علي موعد مع معركة حاسمة فلما انتصر بها دخل الدين الجديد ليكون ذلك إعلانا لميلاد المسيحية في أوروبا…..أصبح ينظر للدين المسيحي في أوربا أنه دين المنتصرين والدخول فيه يعطي قوة ومهابة وبركة وموعدا مع الرحمة…….تنصرت القارة وتسلطت الكنيسة بقوة الخرافة الغيبية المقدسة وستنطاع الرعية بسلطتها كطاعة عبد لربه….. وتنصرت الفلسفة الإغريقية فسيطرت الكنيسة علي العقل والتفكير في كل المجالات المعرفية وتعطل العطاء الفكري ودخلت أوروبا في ظلمات القرون الوسطي….وراجت صكوك الغفران وأصبح البابا ربا في الأرض فثارت شعوب أوروبا ثورة قوية وحررت الإنسان في عقيدته وقوله وتفكيره ولكن سيظهر بعد قرون أن بتلك الحرية بعض الشطط أوصل الإنسان الغربي إلي الجنوح للفردانية أكثر من ميله للحياة المجتمعية …..بدأت المراجعات من داخل بعض الأركان الكنسية وكان القس”توما داكينه” أول من أعلن عن ذلك في القرن الثالث عشر حين فصل بين ما أسماه “المنطق الطبيعي” و”المنطق المستنير بالوحي”…….بدأت خجولة ولكنها يمكن اعتبارها الأب الشرعي للتحولات الكبري في العلاقة بين الإنسان والكنيسة في أوربا بعد ذلك بقرون ويعود الدور الأكبر في نشر هذه الرؤي المحافظة والمتحررة في آن لجماعة من القانونيين والفلاسفة والإقتصاديين ورجال الدين أسسوا ما يعرف بمدرسة “سالامانك” في القرن الخامس عشر.
تتميز الفلسفة في الغرب عن الفلسفة الصينية في كونها سابقة لنظم الحكم وحاضنة لها في حين أن الكونفوشيوسية هي في حد ذاتها فلسفة حكم و طقوس عقيدية تكاد تكون دينا.
كونفوشيوس لم يكن فقط فيلسوفا بل قائد سلطة ومنظر حكم عرفه العالم من خلال تلميذه “منسيس” ولد من أسرة نبيلة في القرن الخامس قبل الميلاد ونشأ في بيئة سياسية وعلميه وثقافية متميزة وتبوأ مناصب قيادية في هرم السلطة في حقبة ما يعرف ب”الممالك المحاربة”…….تختلف الفلسفة الصينية عن الفلسفة الإغريقية أن الأولي تهتم بتعريف الشيئ كما هو في حين تهتم الثانية بتعريفه وفق سياقه…..تكون الأخيرة أقدر علي التكيف وأكثر واقعية……كل شيئ نسبي عند الصينين والقول الأخير للحكيم الذي هو في الدولة كالرأس في جسم الإنسان…. الكونفوشيوسية تنظر للإنسان لا في فردانيته كما هو حال الفلسفة الغربية وإنما تعرفه كجزء من الجماعة وهنا كان تزاوج الماركسية والذهنية الصينية أمرا تلقائيا حيث الأرضية مهيأة منذ عشرات القرون لتقبل الفكر الوافد….يقول كونفوشيوس إنه يدعو لبناء مجتمع متوازن بمعني أن مصلحة الفرد لا تكون إلا بمصلحة الجماعة وأن الجماعة لا تستقيم إلا بوجود الحكيم القائد أي بلغة اليوم وجود سلطة مركزية قوية يفوضها الجميع أمره……لم تتمكن قوة غازية مهما كان جبروتها أن تمزق الوحدة المجتمعية للصين لأن الصيني لا يكون صينيا إلا حين يري نفسه في الجماعة..
ينأي المواطن الغربي شيئا فشيئا عن صناديق الإقتراع وفي نأيه ذاك إنما يقول وداعا للنموذج السياسي الذي أفرزته الفلسفة الإغريقية الرومانية المسيحية…..ولكنه يقول وداعا قبل أن يعرف إلي أين يمضي !!! وهذا هو الخلل الأكبر لأن الإنسان في الغرب لا يري سعادته إلا من خلال حرية جامحة لا حدود لها ولا ضوابط……سطوة الفردانية إعلان لتفكك الجماعة……وقد بدأت الجماعة تتفكك علي مستوي الدول المتحالفة وبدأت المجموعات توظف الحرية في الإنفصال وكتطور منطقي سيطال هذا التفكك كافة مكونات المجتمعات الغربية…..لا يتوقع أن يكون ذلك قريبا ولكنه لا يستبعد أن يفاجئ الجميع…..
ستبدو هذه الخلاصات متشائمة وقد تكون فاجأت الكثير خاصة أولئك الذين لا يتصورون عالما قائما دون أمريكا وفرنسا وغيرها ولكن مما هو معروف أن التحولات الكبري لم تخبر عن نفسها يوما وأن أحدا لم يتوقع ما شهده العالم في أواخر القرن العشرين….