قانون «جاستا» إرهاب من النوع الجديد . بقلم سميرة رجب
مع تشريع ما يدعى قانون «جاستا» الأمريكي، رجعت بي الذاكرة إلى سنوات طويلة ماضية، عشنا فيها مع كل صور القمع والإرهاب الأمريكي في حربها ضد مبادئ العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أصقاع العالم، بدءا بالشعب الأمريكي، وأعطى هذا الإرهاب الشرعية بذريعة أنها من متطلبات حرب باردة ضد عدو شيوعي كافر يقبع في الطرف الآخر من العالم.
في ذلك العصر كان الفرد الأمريكي يختفي خلف الشمس إذا تجرَّأ وعبّر عن رأيه ضد السياسات الأمريكية ومبادئها الرأسمالية المتوحشة.
وكانت الولايات المتحدة ترسل جيوشها واستخباراتها لقصف وقمع الدول والشعوب في حربها الدموية ضد الاتحاد السوفييتي.
وكانت الاستخبارات الأمريكية، وأتباعها، تُسمي كل الوطنيين العرب (المثقفين المنتمين وغير المنتمين إلى الأحزاب الوطنية) الإرهابيين؛ فقط لمواقفهم المبدئية ضد الفكر الرأسمالي البشع.
ولم تتورع الولايات المتحدة في عام 1958 عن إرسال أسطولها أمام شواطئ البحر المتوسط لقصف ثورة عبدالكريم قاسم في العراق؛ لأنها ثورة لم تكن تناسب المواصفات الاستعمارية الغربية.. ولولا وجود قطب سوفييتي يحفظ توازن القوى الدولية حينها لقُصفت بغداد في ذلك اليوم.
في الستينيات كنت لا أزال ما بين الطفولة والشباب عندما أدمنت القراءة، وتعودت أن أقرأ كل قصاصة ورق تصلني، ولا أعلم إن كان ذلك من حسن أو سوء حظي؛ إذ إن بعض تلك القراءات الثقيلة على عقلي الصغير حينها بقيت محفورة في ثنايا الذاكرة، ولم تغب عنها حتى يومنا هذا. ولربما أسوأ ما نهش براءة عقلي في ذلك الزمان هو ما كنت أقرأه وأشاهده عن الحرب الأمريكية في فيتنام (1965-1973)، بكل تفاصيلها التي تقشعر لها الأبدان… وأكثرها بشاعة كانت أخبار وصور المدن الفيتنامية التي سُوّيَت بالأرض تحت القصف الأمريكي، في عمليات عُرفت لاحقًا بأنها تُدعى الـ«carpet bombing»… وصور الفيتناميين المشردين في العراء من دون مأوى أو ملجأ، وصور أفراد الجيش الأمريكي وهم يقطعون الرؤوس عن أجسادها… وذلك المشهد المشهور لأطفال فيتناميين عراة بأجساد حرقتها قنابل النابالم، يركضون هربًا من جحيم القصف، فأرعبنا رعبهم وتمزقهم وآلامهم.
لم تكن تلك الحرب البشعة الوحيدة في ذلك الوقت، إذ كانت دول أمريكا اللاتينية، شعوبًا وأنظمة، تئن وتصرخ من القمع والفوضى العارمة (الخلاقة) التي كانت تنفذها وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) عبر سلسلة متتالية من الانقلابات الدموية التي أشاعت كل أنواع السجون والقمع والتعذيب والإذلال الاقتصادي، وراح ضحيتها مئات الآلاف من شعوب المنطقة، وخلفت وراءها مافيات الجريمة والفقر والصراعات الداخلية في كل دول أمريكا اللاتينية.
كانت الأولى حرب الأرض المحروقة، والثانية حربا مخابراتية قمعية دموية… ولكن استغرق الأمر سنوات من عمري كي أفهم أن كل الحروب الأمريكية الهمجية البشعة، التي تلت إسقاط القنابل النووية على مدينتي ناجازاكي وهيروشيما اليابانيتين، تُدعى حروبًا بالوكالة، استخدمت فيها الولايات المتحدة كل أسلحة الدمار الشامل، وكل أنواع الإرهاب الجسدي والبوليسي والقمعي، في ذروة حربها الباردة ضد شبح يُدعى الشيوعية، والحقيقة أنها كانت لتحطيم القوة التي كانت تنافسها في العالم، دولة الاتحاد السوفييتي.
نجحت تلك الحروب في تنفيذ عمليات الصدمة والرعب والفوضى في تلك البلدان، حتى وصلت إلى حالة اللاعودة إلى الاستقرار الوطني، مع استمرار صراعاتها الداخلية حتى يومنا هذا. خسرت تلك الشعوب طموحاتها إلى العدالة الاجتماعية والاستثمار الوطني لثرواتهم. لقد تمكنت تلك الحروب من إبقاء الهيمنة الخارجية على القرار السياسي وعلى الثروات، مع ترسيخ أعمدة الفوضى (الخلاقة) في مفاصل البلاد المستهدفة.
توقفت الحروب هناك، ولكن المصالح الأمريكية لم تتوقف… بل بدأت تنشر دمارها في كل اتجاه.
ففي صباح يوم 13 أبريل/نيسان 1975 استيقظ أهل بيروت (حيث كنت أعيش في تلك الفترة) على خبر بدء القتال بين أطراف مسلحة بعد عملية نفذها مجموعة من الملثمين (مجهولو الهوية) بإطلاق النار على حافلة ركاب تنقل عددًا من الفلسطينيين الأبرياء، من النساء والرجال المسنين، وقُتلوا جميعًا… وبالرغم من أن الفاعلين كانوا مجهولي الهوية فإن تلك الحادثة كانت كافية لإطلاق عنان حرب أهلية بين كل الفصائل الفلسطينية واللبنانية المسلحة وغير المسلحة، على كامل التراب اللبناني، من الشمال حتى الجنوب… حرب أنعشت أسواق ومصانع السلاح الغربية التي لم تتوقف عن تزويد كل الأطراف اللبنانية المتحاربة بكل أنواع الأسلحة والذخائر لتبقى مستمرة على مدار خمسة عشر عامًا (1975-1990)… ومازالت نتائجها تعبث بكل المنطقة العربية.
انتهت الحرب اللبنانية المدمرة بعد سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة… وبالرغم من مرور أكثر من ربع قرن على ذلك التاريخ فإن لبنان يعيش في حال من الفوضى تحت سيطرة أكبر مليشيا إرهابية مسلحة في الوطن العربي ولدت في تلك الحرب بجنسية لبنانية، ولاء إيراني. والأغرب من كل هذا أن هذه المليشيا تتعامل مع سوق السلاح العالمي خارج إطار الدولة، أمام أنظار المجتمع الدولي، من دون رادع.
كانت الحرب الأهلية في لبنان أولى ثمار مشروع قوس الأزمات الأمريكي الذي كشف عنه، فيما بعد، زبغنيو بريجنيسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مجلة التايم (TIME) الأمريكية، في 15 يناير 1979، تحت عنوان: «إيران.. هلال الأزمات»
(IRAN: The Crescent of Crisis)… هدفه خلق الأزمات في المنطقة العربية بوساطة الأصولية الإسلامية والتطرف الديني لتكون رأس الحربة في إسقاط الاتحاد السوفييتي، وإن مركز ثقل هذا الهلال (أو القوس)، كما جاء في تفاصيل الحديث، هو إيران.
مشروع قوس الأزمات أسس الإرهاب عبر الجماعات الجهادية التي أطلقت عليهم الاستخبارات الأمريكية (CIA) حينها اسم «المجاهدين» تحت راية «الجهاد»، حتى سقوط القطب السوفييتي.
وبعد ذلك السقوط المدوي، الذي أدى إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام الدولي، استبدلت الـ«سي آي إيه» اسم «المجاهدين» باسم «الإرهابيين»، ليتحولوا فجأة إلى مصدر تهديد للأمن القومي الأمريكي.
لقد عاصرت شخصيًّا كل تلك السياسات الأمريكية، التي لا مكان لسرد مزيد منها في هذه المساحة الكتابية البسيطة. فبعد الحرب الباردة زُجت منطقتنا العربية في منظومة جديدة من السياسات والإستراتيجيات الأمريكية الأكثر دموية وتهديدًا لأمن العالم… فتلك السياسات لم تتوقف عند حروب البلقان العرقية والدينية التي أدت إلى تفتيت دول المعسكر الاشتراكي (يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا) مباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، التي مازالت شعوبها تئن من آثارها البشعة على حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… كما لم تنته عند غزو واحتلال العراق وسياسات الإبادة الجماعية للشعب العراقي في أبشع حفلات القتل والتعذيب تاريخيًّا، وتدمير العراق بأكمله، واستخدام الإرهاب بهدف تقسيمه إلى ولايات متصارعة… لا بل حروب المصالح مازالت مستمرة بأشكال متعددة.
الجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت خلال فترة قصيرة في إخفاء كل الآثار الإعلامية التي يمكن أن تُذكّر ببشاعة سياساتها في تلك الحروب والجرائم. ففي سعيها الممنهج إلى تغيير صورتها، عملت مؤسسات أمريكية مكلّفة بالمهمة على إخفاء كل معالم الماضي، ومسح تلك الذاكرة عالميًّا… أخفت كل مادة إعلامية تشير إلى بشاعة تلك الحقبة.
لقد تمكن صانعو الصورة الجديدة للولايات المتحدة (US Image Makers) من تحوير صورة تلك الدولة الرأسمالية الاستعمارية الشريرة إلى صورة معكوسة تمامًا، فتحولت فجأة إلى داعية للديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، المناقضة تمامًا للمبادئ الرأسمالية. وزادت هذه الصورة الجديدة تلميعًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وبدء تشكيل نظام دولي جديد تحاول الولايات المتحدة الاستفراد بقيادته، فتحولت أمريكا وجيوشها الدموية، التي كانت أول من عمل على قطع رؤوس البشر، إلى دولة راعية للحرب ضد الإرهابيين قاطعي رؤوس البشر (ومن يعترض على هذه الصورة الأمريكية الجديدة يقطع الإرهابيون رأسه).
الأخطر من كل ما سبق أن السياسات الأمريكية نجحت في كل حقبة زمنية في أن تستقطب العرب وتسحبهم في حبال تحالفاتها، وتضمهم في خندقها ضد كل القوى التي تحاربهم، وخصوصًا القوى العظمى في الشرق، الصين وروسيا، بالرغم من أن هاتين القوتين لم تدخلا يومًا بلادنا كغزاة أو طامعين في ثرواتنا، في لعبة المصالح التي تحكم سياسات كل دول العالم.
نجح الإعلام الغربي، أثناء الحرب الباردة، في تشويه صورة روسيا والصين بالمؤثرات الدينية، التي وضعت المجتمعات الاشتراكية في خانة الكفر والإلحاد، في عملية إعلامية مضللة ومفبركة، وصدقت شعوبنا كل ذلك الإعلام، وكنا نحن العرب أول الضحايا الخاسرين بعد الحرب الباردة.
ونجح ذلك الإعلام، بعد الحرب الباردة، في تضليل شعوبنا وتشويه صورة دول الشرق العظمى، في حرب إقليمية لا صالح لنا فيها… بل هي حرب بالوكالة تدور على أرضنا العربية، لتقسيم المنطقة في مشروع همجي لن يحقق أي مصلحة لأي شعب أو نظام عربي، والنموذج العراقي والليبي والسوري شاهد حي على هذه الحقيقة.
منذ عام 1990، انتقلت كل الحروب الأمريكية بالوكالة إلى الساحة العربية… فتحولت المنطقة إلى ساحة حرب تتواجه فيها كل جيوش الغرب لقتل عدوا افتراضيا اسمه الإرهاب… عدوا ينمو ويكبر وينتشر، في نشرات الأخبار والقنوات الفضائية، تحت الغارات الجوية المستمرة… مع نزيف وابتزاز اقتصادي عربي لم يتوقف منذ ربع قرن، وصولاً إلى قانون «جاستا»، الذي لا يقل خطرًا عن الإرهاب على بلداننا، مبشرًا بمرحلة جديدة في المشروع الأمريكي الذي يهدد المنطقة.
فهل يا ترى سنستدرك الخطر الذي تعيشه بلداننا، حكومات وشعوبا، لتوجيه تحالفاتنا الإستراتيجية إلى الاتجاه الصحيح، دفاعًا عن مستقبل ووجود هذه الأمة… أم أننا سنصحو يوما «ونحن أموات»، بحسب تشبيه الخبير الإستراتيجي العسكري الأمريكي لنمط الجيل الرابع من الحروب التي تعيشها المنطقة.
sameera@binrajab.com