تعريف الشعوبية/ فؤاد الحاج
بتصرف أنقل ما قرأته في مجموعة من الكتب والمقالات والتحاليل الأدبية والسياسية عن معنى “الشعوبية” عبر التاريخ، بعد انتشار هذه الكلمة في العامين الماضيين في وسائل الإعلام في أوروبا التي تناقلتها وسائل إعلام عربية دون أن تحدد مفهومها وأصلها، وهذا الاختصار بالطبع لا يمكن أن وافياً إلا إذا تتبعنا مسار تاريخ هذا المصطلح، لذلك وتيسيراً للقارىء أختصر أهم ما ورد تاريخياً حول “الشعوبية” ولمن يريد المزيد يمكنه البحث عبر شبكة الإنترنيت حيث سيجد عشرات الكتب والمقالات السياسية المتعلقة بهذا الموضوع.
بداية أن تسمية “الشعوبية” هي نسبة للشعوب، وبالإمكان تعريفها بأنها حركة أو تيار فكري فارسي مُناهِض للعرب.
في هذا الصدد قال الإمام القرطبي في تعريفها: أن حركة “الشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم”. (تفسير القرطبي: 11/189).
ويقول الزمخشري في (أساس البلاغة): “وهم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم”.
وكان الشعوبيين يسمون حركتهم “حركة التسوية” (التسوية بين حقوقهم وحقوق العرب).
بدأت الشعوبية في الظهور في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، واستمرت طوال فترة العصر الأموي، حتى اشتدت وقويت في العصر العباسي، مع استقدام واستخدامهم الخلفاء العباسيين الموالي في شؤون الحكم، وإسناد كثير من المسؤوليات إليهم، ولا سيما الخلفاء الذين كانت أمهاتهم فارسيات، كالمأمون، وآخرين ممن استخدموا الموالي في حرسهم وجيوشهم لقمع الرعية، تماماً كما يحصل في زماننا هذا.
ويقول الجاحظ في رسالته (فخر السودان على البيضان): “إن الشعوبية لم تكن تشيع بين الفرس فحسب، وإنما طالت بقية الأمم، كالأندلسيين والزنج من أهل افريقيا… إلخ، واجتمعوا – هؤلاء – على العداء للعرب والاستطالة عليهم والحطّ من شأنهم”.
ويعزو أنصار الشعوبية ظهورها إلى أسباب عديدة، أولها اجتماعي يتمثل باستعلاء العرب على الموالي (غير العرب الداخلين في الإسلام) ونظرتهم إلى غيرهم من الشعوب نظرة السيد، فيزعمون أن العرب يحطون من شأن الموالي، حتى إنهم لا يمشون معهم في الصف نفسه، ولا يزوجون المولى من عربية، وإذا ما تزوج أحد الموالي من عربية يُطلق على اسم ابنه لقب “الهجين”، وغيرها من تصرفات العرب التي كانت تحط من شأن غير العربي.
ويمثلون السبب الثاني بالدور السياسي، إذ عمد الأمويون خلال فترة حكمهم على نبذ الموالي وإقصائهم عن المراكز الحساسة في الحكم. كما كان العرب يختارون الولاة منهم، وكذلك القضاة وأئمة المساجد، ويمنعون الموالي من الانضمام إلى الجيش العربي النظامي المؤلف على أساس قبلي، وإذا ما اقتضت الحاجة لهم فلا يقبلونهم إلا متطوعين ومحاربين راجلين.
بينما يرجعون السبب الثالث إلى الجانب الاقتصادي، إذ عاش الموالي حالة متردية من الفقر، واقتصرت أعمالهم على المهن البسيطة، في الوقت الذي كان العرب يتسلمون مفاصل السلطة ورتب الجيش.
على الطرف الآخر، يرى كثير من الباحثين، مستندين إلى التاريخ المدوّن، أن هذه الأسباب لم تكن الأساس في ظهور الشعوبية، إذ يرجعونها إلى سبب رئيس يتمثل بتأصل العصبية القومية، وتضخم النزعات القومية الاستقلالية في نفوس الموالي، الفارسية منها على وجه الخصوص.
ويبرر مَن يذهب في هذا المنحى رؤيتَه، إلى أن سياسية الأمويين في إقصاء غير العرب عن السلطة، نابعة من أوضاع العرب السياسية والفكرية في الدولة الأموية، فالعرب هم الفاتحون والمنتصرون، وهم من قدموا أكثر التقديم في سبيل انتشار الدعوة الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك، فالموالي تسلموا الإشراف على ديوان الخَراج والرسائل، ووظائف الحراسة والحجابة، وفي ميادين فنية مختلفة.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الضرائب التي فرضت على الموالي المسلمين، كانت بسبب الأزمة المالية في منتصف العصر الأموي، ويرون أن ما يقال عن إرهاق الموالي بالضرائب فيه مبالغة.
وذهبوا إلى أن الشعوبية، إذا كانت نشأت بسبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الدولة الأموية، وبسبب ما يقال بأنه ظلم وقع على الموالي، لصح أن يتلاشى سخط الشعوبيين مع قيام الدولة العباسية، التي أنصفتهم وفتحت لهم أبواب الوزارة والجيش، وأصبح لهم فيها صوت مسموع ونفوذ واسع. إلا أن ما حدث كان العكس تماماً، فالشعوبية اشتد عودها وقويت في العصر العباسي، فأسسوا حركات باطنية سرية، وعملوا على إضعاف تفكيك الدولة العربية الإسلامية، حتى تم لهم ذلك في النهاية، وهذا ما يؤكد “تأصل العصبية الجنسية وتضخم النزعات القومية الاستقلالية في نفوس الموالي”.
اختلاف مفهوم الشعوبية
بعد انتشار الإسلام على يد العرب، ومجيء العصر الأموي الذي كان يعتمد على سيوف العرب في فتوحاته وتوسعه، ظهر التمييز بين العرب والموالي، وفي أيسر تعريف للموالي أنهم المسلمون من غير العرب، وأحسّ العرب بتفوق جنسهم الذي كان منه الخلفاء والأمراء والكتاب والشعراء والفقهاء، وافتخر العرب بجنسهم ولم يساووا بين العرب والموالي وبخاصة من الفرس. لذلك كان حديث النبي العربي الكريم (صلعم) “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى” والتقوى هنا بمعنى الإيمان، تصديقاً لما جاء في الآية ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) من (سورة الحجرات 13)، وهذا الحديث والآية الكريمة توجيه للناس أجمعين، ولكن الفرس لم يفهموا أو لم يأخذوا بالمعنى المقصود بهما، وكان حقدهم التاريخي ضد العرب ولم يزل مسيطراً على عقولهم.
من هنا بدأ للشعوبية معنى جديد في التاريخ يرمي إلى التعصب لغير العرب، واعتبارهم بتاريخهم العظيم أسمى من العرب، وقاد يهود فارس هذا الاتجاه، وساعد على ذلك أن الدولة العباسية قامت بسيوف فارسية، وأن مفكري الفرس اهتموا بالتفوق في مجالات الأدب والشعر والتفسير والفكر، وذلك ضمن لهم التفوق في المجال السياسي والفكري، فأصبح الخلفاء يعترفون بفضلهم، وأصبح منهم العديد من الوزراء والأدباء والسفراء والمفسرين والمؤرخين.
وبدأوا بحاضرهم وماضيهم يَعّدُون أنفسهم أسمى من العرب، وهذا هو المعنى الذي آل إليه معنى الشعوبية، فأصبح للشعوبية معنى مزدوج هو الحطُّ من الجنس العربي، والنيل من الدين الإسلامي، ووسيلتها لذلك التعصب لرفع شأن غير العرب وبخاصة الفرس والتفاخر بأمجادهم، ورقي حضارتهم، وما يتبع ذلك من تصغير شأن العرب والهجوم عليهم، ووصفهم بأحقر الأوصاف.
ويصور الجاحظ حركة الشعوبية وأهدافها بقوله: إن عامة من ارتاب في الإسلام كانت الشعوبية أساس ارتيابهم فلا تزال الشعوبية تنتقل بأهلها من وضع إلى وضع حتى ينسلخوا من الإسلام لأنه نزل على نبي عربي، وكان العرب حملة لوائه عندما نزل.
انتشار الشعوبية
في بداية الأمر انتشرت الشعوبية بين المسلمين الفرس لأنهم أول من دخل الإسلام من غير العرب ثم ظهر شعوبيون هنود ثم أتراك ثم مولدي الأندلس (الإسبان المستعربون).
وكانت النزعة الشعوبية واسعة وقوية بين الفرس لعدة أسباب منها: أنه في عصر الفتوحات الإسلامية، كان الفرس أكثر تحضراً من العرب، وأكثر مدنية، فنمى لديهم شعور بالاستعلاء يعمق نزعة التعصب لديهم بعد أن قام المسلمون ممثلون بالعرب بالسيطرة على بلادهم بعد معركة القادسية الأولى التي كانت أحد أهم معارك الفتح الإسلامي لفارس الساسانية (وقعت في 13 شعبان 15 هـ/16-19 نوفمبر/تشرين الثاني 636)، بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص والإمبراطورية الفارسية بقيادة رستم فرخزاد، انتهت بانتصار المسلمين ومقتل رستم. وشهدت المعركة تحالف للإمبراطور الساساني يزدجرد الثالث مع الإمبراطور البيزنطي هرقل الذي زوج حفيدة مانيانغ إلى يزدجرد كرمز للتحالف، كما أن الفرس قد دخلوا الإسلام بأعداد هائلة فتشكلت منهم أكثرية عددية بين الموالي الذين اضطهدهم الأمويون.
يقول الباحث الفارسي ناصر بوربيرار: “كل الحركة الشعوبية هي من صنع اليهود. وقد صنعتها بقايا الساسانيين الذين هربوا إلى خراسان بعد هزيمتهم أمام جيوش المسلمين. فالشعوبية لم تظهر من كل انحاء إيران بل من منطقة واحدة هي خراسان، وهو المكان الذي يظهر فيه بني العباس لمحاربة بني أمية”. حيث يشير إلى أن “للمستوطنات اليهودية في تلك المنطقة نفوذاً قوياً، حيث كان لليهود دوراً كبيراً في تحريض الفرس ضد العرب عن طريق الشعوبية. ولذلك اختار العباسيون منقطة خراسان الكبرى لتكون بداية ثورتهم (بقيادة أبي مسلم الخراساني) رغم أن هناك مسافة أكثر من ألفين كيلومتر تفصل خراسان من الشام.”
مظاهر الشعوبية
الشعوبية في الأدب والشعر
اتخذت الحركة الشعوبية من الآداب وسيلة لزرع بذور العنصرية والكراهية في نفوس أبناء أمتها تجاه العرب خاصة، والإسلام عامة، وكان الشعر أحد أهم فروع الآداب المستخدمة في هذا الإطار، لكونه الأكثر التصاقاً في عقول القراء والمستمعين، والأسهل حفظاً في الذاكرة. فالنزعة المعادية للعرب في بعض الأوساط بإيران لم تقف عند حد، حيث انتقلت إلى الأدب والثقافة الفارسية، ومن أعمدة الأدب الشعوبي، الفردوسي والخيام وأبو مسلم الخراساني وأبا بكر الخرمي والرودكي ومحمود الغزنوي.
وقد قام محمود الغزنوي في القرن الثالث الهجري بتكليف الشاعر الشعوبي أبو القاسم الفردوسي بكتابة قصائد شعرية يمجد فيها تاريخ فارس وحضارتها ويشتم فيها العرب وحضارتهم الإسلامية ويحط من شأنهم، وقد تعهد له بأن يعطيه وزن ما يكتبه ذهباً، وعلى هذا الأساس وضع الفردوسي ملحمته وأسماها “الشاه نامه”، ووضع جلها في شتم العرب وتحقيرهم، وتمجيد الفرس وملوكهم. ومما يقوله الفردوسي في “الشاه نامه”: “من شرب لبن الإبل وأكل الضب؟ بلغ العرب مبلغاً أن يطمحوا في تاج الملك؟ فتباً لك أيها الزمان وسحقا”.
التصفية والاغتيالات والدسائس
بعض المؤرخين يعتبرون أولى أعمال الشعوبية هو اغتيال أبو لؤلؤة الفيروزي للخليفة عمر بن الخطاب انتقاماً للدولة الفارسية الساسانية التي قهرت في عهده. كما تدخلوا في الصراع بين الأخوين الأمين والمأمون في بغداد، حين استعان بهم المأمون ضد أخيه الأمين، وجعل منهم قادة الجيش. وقد أدى تولي الأمين الخلافة إلى إثارة الفتنة بينه وبين أخيه المأمون، ومما زكّى نار هذه الفتنة وقوع التنافس بين رجلين قويين كان أحدهما الوزير “الفضل بين الربيع”، الذي يسيطر على الأمين، والآخر هو “الفضل بن سهل” (فارسي الأصل) الذي يسيطر على المأمون، بالإضافة إلى اتخاذ العنصر العربي والفارسي من ابني هارون الرشيد رمزاً للصراع بين العرب والعجم، وقد ألقى جيش المأمون القبض على الأمين وتم وضعه في السجن، وفي ليلة 25 أيلول/سبتمبر 813 دخل عليه جماعة من الفرس في محبسه، فقتلوه ومثّلوا بجثته. كما جاء في الروايات التاريخية عن حقبة خلافة الأمين والمأمون. وكان للشعوبية دوراً في إنشاء الفرق الباطنية كالقرامطة وغيرهم.