الشعبوية سرطان الدول / د. محمدعالي الهاشمي

تُلقِي السّياسة بظلالها الكثيفة على حياة المجتمع الموريتاني اليوم. ومن نَزعَاتها المؤثّرة في السّلوك الاجتماعيّ العام الشّعبــويّة. وهــي كلمة كثيرة التّـــداول في الفضـاء السّيــاسيّ- الاتّصاليّ، غالبًا ما تضيع دلالاتها السّياسيّة والسّوسيولوجيّة باختزالها كـأداة وَصـــمٍ (Stigmatisation) بيـــن الخصوم السّياسيين في نـزاعهم اليــوميّ الصّاخب؛ فاليسار شعبـــويٌّ بالنّسبة لليمين والعكس بالعكس. وهـــذا ما يَحُـــول دون التّمعّن في آثارها الاجتماعيّة والسّياسيّة.

الشّعبويّة ،إجمالاً، نزعة سياسيّة تقوم على احتكار الانتماء إلى الشّعب والانحياز إلى قضاياه، والدّفـــاع عن حقوقـــه والذّود عنـــه ضــد كلِّ القوى «المتربّصة به»، واعتباره المرجع الوحيد والسّلطة المطلقة. وهي تعتبر نفسها «المُمثل الشّرعي والوحيد» للشّعب و«النّاطق الرسميّ» باسمه، وما سِواها عَدُوٌّ، وفي أحسن الحالات خَصيمٌ.

ظهرت الشّعبـــويّة تـــاريخيًا في نهاية القرن التّاســـع عشـر بالتّوازي في روسيــا وفي أمريكا. وكان ذلك من خلال حـــركات اجتماعيّة نشأت في صفوف الفئات الضّعيفة من العـمّال وصغار المزارعين والتّجار والحرفيين في الأرياف والقُرى. واشتركت هذه الحركات في معاداتها للرأسماليّة والمراكز الحضريّة الكبرى والنّخب العُليا. ولدت الشّعبـــويّة طوبـــاويّة في انتصارها للشّعب. وترعرعت على هُدَى مقولة الرّئيس الأمريكيّ الرّاحـــل (ابراهام لينكولن) «حكم الشّعب بالشّعب للشّعب». ولكنّها أنتجت تيّاراتٍ فوضويّة وعدميّة وعنصريّة، منها الفاشيّة والنازيّة والاخونجيه ….والفوضويّة النقابيّة وصولا إلى «الماكارتيّة» التي قامت على مُعَاداة الشيوعيّة وملاحقة أتباعها ونشــر ما عُــرف بـ «الخوف الأحمر». من وجهة نظر سوسيولوجيّة، تنتعش الشّعبويّة في ظلّ الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تَنُوء تحت أعبائها الفئات الضّعيفة. فتستثمر في المعاناة المعيشيّة وتعمل على أن تكون الطّبقات الشعبيّة في حالة استنفار و غضب دائم. وهي بذلك تُذكِي نزعات الصّراع الطّبقيّ والتّباغض الاجتماعيّ. كمـا تثير الشّعبويّة النّعرات العرقيّة والعنصريّة. وتستحثّ نوازع الانغلاق على الذّات وكُـره الأجنبيّ واعتباره مصدر تهديـد وجـوديّ وثقافيّ واقتصاديّ، وهذا ما نشهـده في بلدنا اليوم للاسف.

الشّعبــويّة تُسبِغ على الشّعــب صفاتٍ أسطوريّة. وهي كمـا اعتبرها بعض المفكّرين «ميتافيـــزيقا» تعكس «نظرة أنتروبومورفيّة بمفردات جديدة». فهي ترفعه إلى السّماء كبالون منفوخ بالهيدروجين، وتخرّ به في نفس الآن كحجرٍ في مكان سحيق. وتتقابل الأضداد في وصفه، فهو البطل وهو المستضعـــف، وهـــو صاحـــب الثّروة وهو المُعدَم.. إنّه أسلــوب الحاوي المُخادِع (Illusionniste)  يطمس الحدود بين الأشياء ويخلط الأوراق (Tour de passe passe) الشّعبويّة تستمدّ مضامينها وأسلـوب أدائها من السّجل«الشّعبيّ». وهــي تستثــمر في «الشّعب الشّعبيّ» Le peuple Populaire  على حــدّ تعبــــير عــــالم الاجتـــمـــاع (Gérard Mauger). ينتقي الشّعبويّ ألفاظه ولهجته فيجعلهـــا قـريبــة مـــن «الشّعبيّ». ولكنّه غالبًا ما ينغمس في مستنقع المجاري بما ترسّب فيه قَرَفٍ لفظيّ. فلا عجب إذًا من تدهور مستوى التّعامل الاجتماعيّ بين النّخب وبين العوام إلى الحضيض وانحطاط خطاب المجتمع إلى أسفل سافلين. تستهدف الشّعبويّة النّخبة وتحطّ من شأنها. وتعتبرها مجموعه تعيش في برجٍ عاجيٍّ، وتنعم بالخيــرات على حســـاب «الشّعب الجائع». وهــي بالتّـــالي تَستصـغِـــر الجهد الفكريّ والنظريّ والتّنظيميّ. الشّعب يَعلُــو ولا يُعلى عليـــه. وما تفــعـله الشّعبـويّة هو تَســويةٌ نحـــو الأســـفـل (Nivellement par le bas) أي بعبارة أخرى تعميم «الشّعبيّ والعاميّ».

الشّعبويّة ظاهرة خطابيّة تقوم على تجييش العامّة وحشدها بعد شحنها بطاقة انفعاليّة ذات ضغط عـــالٍ. والرابـــط بين الشّعبويّ وأنصاره «عاطفيٌّ» وليـــس سياسيًّا. هو يُقدِّم تشخيصًا صاخبًا متشنّجًا لواقع مُعقّد يقتضي التّدبير العقلانيّ. ينتهج التّعبير عن الغضب، ويُصَعِّدُه إلى درجة الحقد، مستندًا إلى سجِلٍّ من الألفاظ العنيفة المُحقِّرة من الخصم والمُمعِنة في إذلالِه عَلَنًا خصوصا إذا كان يُمثّل السّلطة. وهـــذا الخطاب بإفراطه ومبـــالغته يفقد كل معنى وكما قيــل:

Tout ce qui est excessif est insignifiant.

الشّعبويّة تُلحِـــق بالغ الأذى بالاستقـــرار الاجتماعيّ والسّلوك الدّيمقراطيّ. فهي تُبرّر العنف إذا مارسته جماعاتٌ باسم الشّعب، وتعتبره احتجاجًا شرعيًا و«خطًّا أحمر»، وتُجَرِّم كل تنديد به. وترى في الاعتداء الذي تمارسه فئة مُعيَّنة على المجتمع بأسره حقًا من حقوق الإنسان. ولا يضيرها تعطيل حياة البشر، وكسر شوكة القانون، وتمزيق أوصال الدّولة، وتحقير الرموز، والاعتداء على التّاريخ، وبث الفتنة، ما دام ذلك يُرتَكب باسم الشّعب. وهي بذلك تُغذِّي المطلبيّة المتشدّدة (كلّ شيء الآن وليس غدا و لا تراجع) حتّى وإن كان ذلك على حساب أمثالهم من أبناء «الشّعب العظيم». وبهذا تُعَرِّشُ الأنانيّة والفئويّة العرقيه  والقبليّة وتوظيف الدين  و يتمّ تبديد الثّروة الجماعيّة. كما أنّها تدوس على الديمقراطية فلا وزن للأغلبيّة أمام الأقليّة مادامت الأقليّة تملك «تفويضًا حصريًا» مـــن «كائـــن هُلاَميّ» اسمه الشّعــب. وهي بذلك تتسبّب في عَاهَةٍ سياسيّة اسمهــا «استبداد الأقليّة». الشعبويّة لا تُقدِّم برنامجًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا. ولاتكترث بالتّخطيط ولا تعبأ بالموازنات. تقف على الرّبوة وتصرخ وتُقذِع القَولَ، وترمي بالحجــارة وتختفي وراء ظهر الشّعب.  ومع ذلك فهي لم تنشــأ مــن فراغ. فهي تولد وتترع في محيــط اجتماعيّ مستعدّ لاستقبالها وتَبَنِّيها والتأثّر بها، وواقع يتّسِم بضعــف التّنظيمــــات السّياسيّة والثّقـــافيّة وتقهقر روح المواطنة وارتفاع منسوب الجهل، زيادةً على جنــوح بعض وســـائل الإعلام إلى اعتماد «الشّعبيّ» أصلاً تجاريًا.

الشّعبوي مُحَرِّضٌ، بالمعنى الذي بيّنه علماء نفس الجماهير. وهو لا ينتــمي إلى رجال الفكر بل هو خطيــب يتقن دغدغة الغرائز. وهو بالتّالي يبتذل الشّعب حيـــن يتعامل معه كحَشدٍ فاقدٍ لكلّ وعــي أو كقطيــــع يُسَاق بالصِّياح. وهو يُلحِق به بالغ الأذى حين يبيعه الأوهام ويجرّه إلى ممارسة التّخريب. والحال أنّ مسؤولية السياسيّ تثقيف الجماهير وتنظيمها. هل أخطأ (أنطونيو غرامشي) حين كتب من غياهب سجنه عــن دور الأحزاب في تكـــوين قادة المجتمع المدنيّ والسّياسيّ، وأنّه دون ذلك يكون فسادُ الحياة السّياسيّة والبرلمانيّة…وبالتّالي «فساد الحيـاة الثّقافيّة والنّقص الرّهيب في الثّقافة الرّفيعة. فبَدَلاً من التّاريخ السّياسيّ نجد معرفةً واسعةً خاليةً من الحياة، وبَدَلاً من الدِّينِ التحريض ، وبدلاً من الكُتبِ والمجلاّتِ العظيمة الصُّحفَ اليوميّة، وبَــدَلاً مــن السّياسةِ الجادَّة المشاحنات والنقاشات والمعارك الشخصيّة»؟!

أليس هذا واقعنا اليوم؟.

اذا فلنبتعد عن الشعبوية لكي نحافظ على توازننا ولحمتنا وتماسكنا الاجتماعي