أي سلام يريده العرب؟ وأي سلام يفهمه العرب؟ : أنيس الهمامي – تونس
تعرضت مظلمة فلسطين هذا العام إلى ثلاث طعنات عربية موجعة غادرة اتسمت بطابع المفاجأة والمباغتة على شاكلة تكتيكات الجيوش المتناحرة حتى يخيل للمواطن العربي أن فلسطين عدو لدود لمن طعنها أو أنها ارتكبت جرما فظيعا لا يغتفر استوجب العقاب والقصاص.
إنه وإذا ما أجري استبيان أو مسابقة لاختيار أفضل العناوين لعام 2020، فإنه سيكون ملائما إلى حد بعيد الاتفاق على “عام الجريمة العربية الجماعية” أو “عام الخضوع العربي” أو “عام النكبة الثانية”، وقد تتفتق قرائح أخرى عن توصيفات أخرى أشد ملائمة وأدق توصيفا كأن يقال مثلا “عام هرولة الخليجيين لبيت الطاعة الصهيوني” أو “عام الانهيار الذاتي أو الطوعي” وغير ذلك.
وفي الحقيقة، فإن ما ميز هذا العام الذي كان ثقيلا وطويلا جدا لم يكن مطلقا وباء الكورونا، بل إنه حتما هرولة الأنظمة الخليجية لبيت الطاعة الصهيوني وتسابقها على ضرب فلسطين وشعب الجبارين في مقتل.
بدأ مسلسل التهاوي المخزي لأنظمة الخليج مبكرا هذا العام، وانطلقت أحداثه متشابكة متسارعة متداخلة كما وتميز بطابع شمولي، حيث ضم التسابق المحموم على البيت الصهيوني من قبل الخليجيين في تجلياته المخزية أبعادا متعددة، فكان البدء بالمجال الرياضي بأن استقبلت دول خليجية عدة وفودا رياضية صهيونية على أراضيها وسمح لها مسؤولوها بالمشاركة في مسابقات رفعت فيها خرقة العصابات الصهيونية وعزف فيها نشيد الدم والقتل والإرهاب والعنصرية، ثم جاء دور الفضاء الفني لتعرض كبريات القنوات الخليجية أعمالا ملوثة خالية من كل ذوق وابتكار وحرفية عملت على تبييض الوجه القبيح المسخ للكيان السرطاني المغروس بواقع القوة والجبروت في قلب فلسطين ريحانة أرض العرب، وعمدت هذه الأعمال المبتذلة لشيطنة مظلمة فلسطين والاستهزاء بمعاناة شعب الجبارين التاريخية، وبلغت دناءة أصحاب تلك الفعلة لحد الزعم العلني والصريح بأن فلسطين باتت تشكل عبئا لا يحتمل على العرب (وهم يقصدون الأنظمة التي كانت تستعد للارتماء المعين في أحضان قردة هودا وخنازير السامرة)، وكانت هذه الحلقات المستفزة مقدمة وتهيئة وتمهيدا وإعدادا نفسيا للمرور للسرعة القصوى المطلوبة ألا وهي الانفتاح السياسي والانتقال لما يسمى بتطبيع الأنظمة الخليجية مع الكيان الصهيوني، وكان أن غدا الصعيد السياسي مفتوحا أمام الصهاينة على مصرعيه، فتتالت حلقات التخابر والتعامل المفضوح مع مجرمي الكيان الصهيوني الغاصب فجاءت زيارة الإرهابي نتنياهو الكارثة لسلطنة عمان، ثم أعلنت الإمارات سيرها على خطى مصر السادات والأردن ومن ثمة إقامة علاقات كاملة مع مجاميع الغصب الصهيونية، لتحذو حذوها بعيد أقل من أسبوعين دولة البحرين.
إنه لا يخفى على عربي أصيل حر وشريف أن الانفتاح على سلطات الكيان الصهيوني من قبل الأنظمة العربية الرجعية وإن كان غير مستغرب ولا مستبعد ذلك أنها في سوادها الأعظم فاقدة لجميع مقومات الأصالة القومية ومفتقرة لروح المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية ناهيك عن انعدام العمق الشعبي والجماهيري لها، يبقى دليلا ساطعا على خيانة النظام الرسمي العربي في مجمله لفلسطين ولغير فلسطين.
لكن الصادم حقا والمثير للدهشة فعلا هو اتفاق كل رؤوس الأنظمة العربية المتهاوية والساقطة في أحضان الصهيونية المسمومة، والتقاؤها على تبرير خيانتها الفاضحة وجرمها الشنيع بالحرص على تحقيق السلام، والأغرب أن هذا السلام المزعوم بقي دوما عائما معوما فضفاضا، حيث دأبت تلك الأنظمة على عدم تعريف أطراف سلامها المخزي.
فأي سلام يفهمه العرب؟ وأي سلام يريده العرب؟
إننا حين نتحدث عن السلام، فإن المنطق يفرض أننا نتحدث عن طرفي نزاع مسلح دامي ومتواصل، ويفرض كذلك أن السلام رغبة وحاجة لذينك الطرفين، وهو ما يستوجب سجالات ونقاشات ومفاوضات وشروطا وتنازلات من هذا الجانب والآخر.
وعليه، فإن سؤالا ملحا يطل برأسه في قضية الحال: أي من دول الخليج صارعت وحاربت وتصارع وتحارب الكيان الفلسطيني بأي شكل كان ثقافيا أم اقتصاديا أم إعلاميا أم قانونيا أم دبلوماسيا؟ أما لو خشوا في الصعيد المسلح فستعترينا موجة من الضحك المرير حد البكاء ولا ريب! فعن أي سلام يتحدث قادة الخليج؟
هل من دولة خليجية واحدة مدت شعب الجبارين ومقاوميه يوما بالسلاح والعتاد والخبرات والرجال؟ فباستثناء الملك السعودي الراحل فيصل، فإننا لن نعثر على ما يشفي الغليل. هذا وإن من سيتحجج ههنا بالدعم المالي، فإن الأمر سيكون أكثر مدعاة للسخرية منه لأثر شيء سواه، ذلك أن ما ترصده دول الخليج لشعبنا الصابر المجاهد في فلسطين لن يزيد عن كلفة أبسط حفل صغير يقيمه أمير أو رجل أعمال خليجي في إحدى عواصم الغرب.
أي سلام يفهمه العرب؟ وأي سلام يريده العرب؟
اصلا، إنه لا معنى لسلام يعقد مع مغتصب أرضك ومشرد جزء من أمتك في انتظار تشريد ما تبقى منها وإبادته.
وإنه لا سلام يتحقق منطقا مع أعداء السلام والإنسان معا.
فمتى كان الصهاينة دعاة سلام؟ أنسي حكامنا الجرائم الإرهابية المروعة و المجازر الوحشية التي ارتكبتها عصابات الأرغون والهانتاغا في دير ياسين و الخليل والقدس والجليل وغيرها؟ أم تراهم لم يتابعوا مسلسل الإبادة العرقية التي تنفذها عصابات الصهيونية في فلسطين منذ 1948 إلى يوم الناس هذا، وكذا جرائمها في لبنان ومصر وسورية والأردن والعراق وغيرها؟
أيجهل حكام الخليج والعرب عموما أن الكيان الصهيوني قام على عقيدة أساسها التدليس و الأكاذيب والتزوير، وانبنى على أقذر العقائد العنصرية الإقصائية والنزعات الإرهابية في التاريخ البشري؟
ألا يعلم حكام العرب أن الصهيونية تعتبر العربي هدفا مشروعا في كل زمان ومكان؟ ألم يقرؤوا شيئا عن تعاليم الصهاينة القاضية بضرورة التلذذ بإبادة العرب شيوخا ونساء وأطفالا وأجنة.؟
أي سلام يفهمه العرب؟ وأي سلام يريده العرب؟
صدع حكامنا العرب الخانعون الخاضعون وبطانتهم الفاسدة وحواشيهم المتملقة رؤوسنا بتبريراتهم السخيفة وبذرائعهم الواهية حول نهجهم الاستسلامي الخياني، فقصفونا دهورا بحجة السلام.
فأي سلام هذا؟
ومن كذب على حكامنا العرب فأقنعهم أننا نريد سلاما مع الصهاينة؟
ألا يعلم حكامنا العرب أننا لا نفكر في السلام مع مغتصبي أرضنا ومنتهكي عرضنا وقاتلي إخوتنا وأهلنا وأخلائنا وأحبتنا وآبائنا وأجدادنا؟
ألا يعلم حكامنا العرب أننا ما اعترفنا يوما ولن نعترف بكيان الغصب الصهيوني المسخ.؟ ألا يعرفون أننا نتوارث ونورث الحقد المتأجج على الصهيونية جيلا فجيلا؟
ثم أيعتقد حكامنا حقا أن من بين الصهاينة من يبحث أو من يريد أو من يفكر فيما يسمونه (حكامنا) سلاما.؟ ألا يعرفون أن قطعان المغتصبين في فلسطين إنما هم وحوش آدمية لا علاقة لها بالإنسانية أصلا؟ أم تراهم (حكامنا) يجهلون أن كل صهيوني هو حامل للسلاح وعضو احتياط في جيش الغصب الصهيوني، كان له نصيب في دمنا العربي المهريق أنهارا؟
فأي سلام يفهمه حكامنا العرب وأي سلام يريدون.؟
كفوا عن الإفك وأقلعوا عن الاستخفاف بعقول جماهير الأمة، فما عادت حيلكم بمنطلية على أصغر شبل من أشبالنا..
قولوها صراحة إن السلام الذي تقصدون هو تأمين عروشكم المتآكلة، وديمومة مناصبكم ومصالحكم الشخصية الفئوية الضيقة!
جربوا أن تكونوا صرحاء يوما، وجربوا أن تكونوا شجعانا ولو لبرهة!
أما فلسطين، وقضايا أمتنا الأخرى العادلة، فطريق خلاصها معلوم لنا بكل جلاء..
ولتعلموا أن سلامكم الموهوم، خارج حساباتنا نحن أحرار الأمة العربية..
عاشت فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر.
الخزي والعار لكل مستسلم مرتد خوان.