ما الهوية الثقافية ؟/ الاستاذ محمد الكوري العربي،،،

ما كان ينبغي أن تكون هوية الدولة الموريتانية ، أحرى هوية مكونات مجتمعها محل جدل و نقاش، لولا استعجال جيل المؤسسين لمشروع الدولة لإقامة كيان سياسي مستقل؛ لا شيء يدعم قيامه إلا إرادة سياسية تشبع بها الرئيس الأسبق ، المختار ولد داداه رحمه الله و أنصاره، مسنودة بعناد رجال الصحراء … هذه العجلة لدى المؤسسين بقدرما أثارت من الإعجاب بحويتهم المتحدية لأقسى الظروف و أكثرها عدائية لمشروعهم ” المجنون” ، فإنهم قد أسسوا هشاشة مستجمعة لكل عناصر الضعف و القلق و التفسخ التلقائي!
إن من أخطر عناصر الهشاشة أن مشروع الدولة قد بني على أساسات العاطفة الدينية ، التي لا يمكن لأحد في ذلك التاريخ أن يبدي حيالها أي تحفظ ، فأحرى الاعتراض عليها، برغم ما تنطوي عليه من تهافت. فالعاطفة الدينية لا تفصل على نحو مطلق في هوية الدولة و الشعوب : فالدين عقيدة تعبدية قد تشترك في الإيمان بها شعوب و أمم في جغرافيات متباعدة في أطراف العالم ، و في ذات الوقت لا يجمع بينها أي مشترك هوياتي، فمثلا، المسلمون في أنحاء العالم يشتركون في العقيدة الدينية و لكنهم يختلفون في ما يعني المحددات القومية : فما الذي يجمع ، بمعنى الهوية الثقافية، بين المسلمين الإغور ، في الصين، و المسلمين في دولة السينغال، أو بين المسلمين في أندنوسيا و المسلمين في موريتانيا؟ لا شيء رغم أنهم يشتركون في العقيدة الدينية ، فيعبدون إلها واحدا و يؤدون ذات الطقوس و الشعائر ؛ بل إن تأدية الشعائر التعبدية قد تنطبع بالطابع الثقافي لكل شعب! فالموريتانيون يعرفون أن الطريقة التي يؤدي بها الباكستانيون أو الأندنوسيون منسك الطواف بالكعبة المشرفة تختلف عن طريقة الموريتانيين… و هكذا بالنسبة لجميع الشعوب، تبعا لاختلاف الهويات الثقافية.
فما الهوية الثقافية في علم الأنتروبولوجيا، الذي يعنى بدراسة هذا الحقل المعرفي؟

تشترك ثلاثة حقول علمية في دراسة الهوية الثقافية: حقل الآنتروبولوجيا و حقل السوسيولوجيا و حقل علم النفس، غير أن الأنتروبولوجيا هي علم دراسة الإنسان من جميع جوانبه في أبسط مستوياتها : البيولوجية و أنساقه الاجتماعية و الثقافية و اللغوية عبر الزمن و المكان ، بمعنى أنه الحقل الذي يستهدف فهم تطور الإنسان و كيف تعيش المجتمعات المختلفة في العادات و التقاليد و القيم ، و أدوات التعبير عن المشاعر و الأفراح و الأحزان… و قد أجمع الآنتروبولوجيون على أن الهوية الثقافية بناء ثقافي و اجتماعي و نفسي تشكل عبر التفاعل الاجتماعي خلال تطور مجتمع معين ،و ضمن نسق وعيه الجماعي المؤسس لنسبج العلاقات بين أفراده، و المحدد لجوانب الحياة المتشابكة داخله، كأنماط السلوك و العادات و التقاليد و طرق العيش…
و مع أن الهوية الثقافية مفهوم دينامي ، يتطور مع الحركة العامة للمجتمع، إلا أن ثمة مشتركات ثابتة في الهوية الثقافية لا يعتريها التبدل مثل اللغة و التراث الثقافي و العادات و التقاليد و الفلكلور و الألعاب و أنماط التعبير عن الفرح و الحزن ، و المأكل و الزي ، و الأخلاق و القيم… و كل هذه العناصر تسمى بمحددات الانتماء المشترك . يقول الأنتروبولوجي الكندي لويس جاك دورى(
( Luis -Jaques-Dorais : ” الهوية هي السيرورة التي تتشارك فيها مجموعة من الأفكار بطريقة معينة و محددة لفهم الكون و الأفكار و أشكال السلوك”. أما الآنتروبولوجي جان لوب آمسل( Jean -Loup-Amselle) فيشير إلى أن الهوية هي السيرورة التي تتأسس من مميزات على أساس اللغة و العلاقة بالفضاء و التقاليد و الأسماء… “؛ بينما يعرف الآنتروبولوجي اسحاق شيفا (Isac Chiva) الهوية الثقافية بأنها تتأسس على الذاكرة الجماعية ؛ إذ لا توجد هوية ثقافية من دون ذاكرة جمعية ، و لا يمكن الفصل بين الذاكرة و الهوية. لهذا، فإن الهوية الثقافية للمجتمعات البشرية هي مجموعة العادات التي تطبع أي مجتمع في نمط حياته و رؤيته للعالم و أخلاق أفراده و تقاليدهم و تأملاتهم التي تتشكل في سياق صيرورة تاريخية معينة.
و يمكن أن نلخص الهوية الثقافية، آنتروبولوجيا، بأنها التفاعل بين مجموعة بشرية عبر سيرورة و صيرورة الزمن و المكان ، و بأنها الذاكرة المشتركة بما فيها من إيجابيات و سلبيات.
فأين يختلف المكون العربي، بفصيليه، البيظان و لحراطين في موريتانيا، فيما يتعلق بالتعريف العلمي الآتروبولوجي للهوية الثقافية ؟

يتضح من التعريفات الآنتروبولوجية السابقة أن الهوية الثقافية لا تتضمن الاختلاف في الدخل و المستوى المعيشي للمجموعات أو أفرادها، و لا تمت بصل للون البشرة. و إذا كانت الهوية الثقافية تتعلق بالعادات و التقاليد و القيم و أنماط السلوك و طرق العيش و الزي … فإن هذا هو ما يجمع المكون العربي ، في موريتانيا، بحراطينه( العرب السمر) و بيظانه ( العرب الطينيين)، بحكم اشتراكهم في اللغة و التراث المادي و اللامادي و الذاكرة الجمعية بما تختزنه و تحفظه من إيجابيات الحياة و سلبياتها. قد يقول قائل إن لحراطين لديهم ما يميزهم، فنقول إنما يميزهم عن البيظان ليس الهوية و إنما مظالم التاريخ و استمرار مخلفاتها المادية و المعنوية و النفسية في الحاضر … لكن لحراطين، أنفسهم، كمكون اجتماعي متفاوتون في هذه المظالم. فثمة بعض الحراطين الذين لم يعرفوا الاستعباد أبدا في تاريخهم، جدا عن جد، و لم يتعرضوا للمهانة الاجتماعية … و من الحراطين من نال أجداده الحرية منذ قرون ، و منهم من عاش في وسط استعبادي أخف وطأة من وسط آخر. كما أن الحراطين لا يرتبطون بنسب واحد موحد ، شأنهم في ذلك شأن بقية الشرائح الاجتماعية كالزوايا و لمعلمين و إيكاون و آزناكّه.
و لحراطين لا يحتكرون لونا عن بقية مكونات المجتمع الموريتاني، ففيهم الأسود و الأبيض، و في أسياد الماضي الأبيض و الأسود، كما في شرائح البيظان الأخرى. و هذا التفاوت في درجة الحرية في الماضي ، في أوساط الحراطين، أورثهم تفاوتا في المستوى الاقتصادي و في المكانة الاجتماعية. فكما نشهد بعض البيظان يمتنع عن تزويج بناته لبيظان بيض بالنظر للمكانة الاجتماعية أو لحجم التباين الاقتصادي بينهم، فكذلك هناك حراطين لا يقبلون بتزويج بناتهم لحراطين، لذات الأسباب. و كما في منظومة مجتمع البيظان ” نبلاء- خيام اكبرات” ، هناك في منظومة لحراطين” نبلاء- خيام اكبرات”. و كل هذا التفاوت الهرمي يحيل إلى الاشتراك ، بين لحراطين و البيظان ، في ذات الهوية الثقافية للمجتمع العربي في موريتانيا.
■ الهوية الثقافية.. و المظلومية التاريخية.
بعد أن كشفنا انفصال الهوية الثقافية و الانتماء القومي عن متغيرات الوضع الاقتصادي و لون البشرة ، فإن أحدا لا يجادل في الوضعية الخاصة للحراطين، عموما، و في حجم المظالم التاريخية التي تعرضوا لها ؛ خاصة جريمة الاستعباد و ما ترتب عليها من مخلفات اجتماعية و اقتصادية و تربوية و نفسية و معنوية، ضاعفت قسوتها موجات الجفاف و سوء الحكامات المتتالية و رداءة الحكام المتوالدين ، بعضهم من بعض ، و فشل المنظومات المتتالية للتعليم و التربية. لكن مع ذلك، يجب فصل أمرين لا يشتركان في أي رابط: أمر الحقوق و سبل تداركها ، و أمر الهوية الثقافية و الانتماء القومي العربي. فالهوية الثقافية تفاعل سوسيو- ثقافي- نفسي لم يقم بقرار تواضعي بين أجداد البيظان و أجداد لحراطين؛، بينما المظالم و مخلفاتها نتجت عن ظلم اجتماعي جراء معطيات سياق تاريخي و قيمه و انتاجه و أدوات و علاقات الانتاج … و سلاسل توزيع السلطة و القوة فيه. الأمر الأول لا نملك تبديله إلا إذا اجتمع جميع لحراطين، رجالا و نساء و أطفالا في صعيد واحد ،و في جلسة واحدة فقط، لتستمر ألف عام، بهدف تغيير شبكة العلاقات و القيم و اللغة و التقاليد و العادات و أدوات التعبير المادي و المعنوي… التي تربطهم بمكونة البيظان! و أما المظالم التاريخية و ما انجر عنها من مخلفات فإنه لا يقف في وجه حلها إلا إرادة سياسية وطنية جدية تفرض معالجتها بإقامة دولة المؤسسات و إيقاف مفعول دولة القبائل و المكانات الاجتماعية بالوراثة، و بوضع برامج و مشاريع اقتصادية و معايير تطبيق القانون دون انحياز، و بنهج الكفاءة الفردية و التوزيع العادل للثروة …
إن علاج مخلفات حقبة الاستعباد يمكن أن تتحقق بالتدريج عبر :
1- وضع برامج استيراتيجية اقتصادية و اجتماعية و تربوية مع مشاريع مندمجة للتنمية القاعدية و التأهيلية في مختلف مناطق الهشاشة في البلاد، و لا حاجة لذكر ( مناطق لحراطين) و لكن لحراطين بالنتيجة سيكونون الأكثر استفادة من تلك البنى.
2- وضع خطة متكاملة لمحو الأمية في مناطق الهشاشة التربوية و التعليمية، و فرض إلزامية تمدرس الأطفال.
3- برمجة علاوة تشجيعية مغرية على ميزانية الدولة لعمال و موظفي الدولة ( المعلمين، الأساتذة، الممرضين، الأطباء، المرشدين الزراعيين و البيطريين…) في مناطق الهشاشة، الذين يعملون بأداء جيد و بإخلاص في خدمة هذه المجموعات.
4- إعادة العمل بالكفالات المدرسية.
5- تشبيك مناطق الهشاشة بالطرقةالمعبدة و السالكة.
6- إصلاح عقاري صارم على قاعدة : الأرض لمن استغلها.
■ و على مستوى معالجة الغبن الانتخابي. تمكن المعالجة ب:
1- التركيز على الكفاءة الانتخابية في الأشخاص المحليين و المحبوبين في مناطق الهشاشة.
2- اعتماد النزاهة في الانتخابات و القبول بخيار الناخبين المحليين في مناطق الهشاشة.
3- منع ترحيل الأشخاص إلى مناطق الهشاشة أثناء الانتخابات بغرض التأثير على خيار المجموعات المحلية في مناطق الهشاشة.
■، و على مستوى معالجة الغبن الوظيفي ، تمكن المعالجة ب:
1- حصر التوظيف على أساس المسابقات الوطنية النزيهة.
2- حصر الترقية الوظيفية في مبدأ الكفاءة و النزاهة بصرف النظر كليا عن الانتماء القبلي و الفئوي و الإثني.
3- تحريم و معاقبة منح مؤسسات و خدمات و مرافق الدولة على أساس معيار “الشعبية” القبلية أو الفئوية أو الإثنية.
فبأي الأمرين يجب مواجهة مخلفات الغبن التاريخي، بمختلف تعبيراته، الذي يشكو منه لحراطين: أبوحدة المجتمع، أم بتدميره بخطاب الكراهية ؟
( يتواصل).