الفضيلة الملعونة…/ الدكتور الخضير المرشدي ،

تَعلَّمنا من موروثنا الشعبي ومن تراثنا العربي أن الشك سمٌ قاتل!!
وإن الشكّاك في النار، حيث إنه متمرّد حاقد أعمى، يُتّهم بتهم الضلال والكفر، كأنه عدو يُهدّد أسس الوجود ذاتها، فنراه يُطارد باللعنات والإقصاء، وربما اكثر من ذلك.
لمجرّد أن توجّه بسؤال يستوضح فيه عن (يقين راسخ) وكأنه قد تسبّب في انهيار كامل للعالم، إستناداً إلى أن الشك كما يقول فقهاء الفساد (خصلة ملعونة) ..
لكنهم تناسوا ان فضيلة الشك هي واحدة من بين أهم الفضائل التي أنعم الله بها البشر كي يتمردوا على الظلم والاستبداد والفساد والرذيلة أينما كانت ومهما كان نوعها.

إنه الشك (الخلّاق) المبني على صفاء النفس والعقل الرصين والحب النظيف، الذي يزيل دنس النفوس وعفن العقول ورذيلة الجسد..

وحتماً انه ليس الشك (المَرضي) الذي يركب العقول الساذجة والنفوس الهزيلة..
بقدر ما انه اللحظة الصادمة التي يلتقطها اصحاب الفكر الحر والعقل النيّر، والإرادة الساكنة والشرف الرفيع، التي تقلب الأشياء رأساً على عقب، ذلك أن: الشك عندما يكون خلاّقاً، فهو ليس تدميراً .. بقدر ما هو اللبنة الأولى لإكتشاف المدّنس وبداية لوعي الذات الباحثة عن التغيير .

الشك الخلّاق هو القوة التي تفجّر اليقين الكاذب وتكشف الحقيقة العارية.. وهو ليس خصماً للإيمان .. إنه الحارس الامين الذي يحمي الإيمان من التحوّل إلى صنم، والى يقين حجري، يعيق التطور والتفكير الحر.

الشك ليس خيانة للجماعة، أنه أعلى درجات الولاء، حين يكشف زيف الحقيقة ويُشخّص أمراضاً خفية ويفرض علاجها قبل فوات الأوان.

من يخشى الشك، يخشى نفسه، لأنه يعيش في قفص من الأوهام المريحة..

من يحارب الشك، يدافع عن سُلطة الفساد والجهل التي تُبقي الناس أسيرة في سجن فسادها وجهلها.. ومن يحاول أن يُسْكت الشك، فإنه يخنق الروح، ويحكم على الناس بالركود الأبدي..

ان تاريخ البشرية .. يصرخ ..
أن كل نهضة ولدت من رحم الشك، ومن اهتزاز المُسلّمات واختلال اليقينيّات التي أُعطيت صفة القداسة المطلقة!!!

شكّت أوروبا في سلطة الكنيسة وقداستها المطلقة، فبدأ الإصلاح الديني وانفجرت الثورة العلمية.

وشكّ العرب والمسلمون في أطواق التقيّد بأقوال الأوّلين، فكان التعايش المشترك في بغداد وقرطبة الذي انتج نهضة علمية وحضارية فريدة.

وشكّت الشعوب في الظلم والاستبداد، فأنجبت الثورات التي غيّرت وجه العالم.

وعندما شكّت العقول في المسلّمات العلمية، اكتشفت النظرية النسبية وفيزياء لكم، وعصر الفضاء والذكاء الاصطناعي.
في عالمنا العربي اليوم، نعاني الظلم والقسوة والحرمان، لأننا نخاف الشك، نخاف الطعن، نخاف هدر الدم، ونخاف الإقصاء، وان نُتهم بالضلال…
لكننا نتعفّن من الداخل بسبب يقين جامد يرفض الشك الخلّاق ويحوّله إلى تهمة تلاحقنا بعار التمرّد ..!!!
والذي هو مُحرِّك الثورة، وبوابة التغيير.