بلاغ لرئيس الجمهورية….. السيد الرئيس : إن الملأ يأتمرون بهذا الوطن…فانقذوه/الدكتور محمد الراظي،

تعتزمون تنظيم حوار وطني يقال إنه قد يشمل الكثير من العناوين ومن ضمنها أمور حسمت بإرادة شعبية لا قِبل لأحد بعينه أن يتداول فيها خارج سياقات القانون المحدد لإقرارها ومساطر مراجعتها وسيحضر هذا الحوار كثير من الذين يهتمون بالسياسة وكثير ممن يهتم بغيرها وسيحضره كثير ممن لا تعني له الدولة شيئا كبيرا وبعض هؤلاء لا يخفي رغبته أن تنال مخرجاته صفة الشيء المقضي به !!!!!

لن أكون يقينا من ضمن حاضريه لأسباب عديدة ، أولها أن لبلادنا من الأولويات ما يشغلنا عن حديث يقول به هذا وعن ردود تأتي من ذاك وصور تذكارية تجمع عناصر لا يربط بينها غير البحث عن فرصة للإنتجاع على حساب الدولة ووجودها.
ثم إنني لا أفهم ما الذي استوجب هذا الحوار ولا أفهم كيف يكون حوار يتجاوز مؤسسات تنفيذية وتشريعية قائمة هي التي تعبر في المرحلة الحاضرة عن الإرادة الجمعية للناس ولا أفهم كيف يحضره من كان قد تقدم للناخبين يستطلع موقفهم منه فأشاروا عليه أن لا رغبة لهم فيه ولا أفهم كيف تتاح الفرصة لأي حامل وصل حزبي أو ناشط جمعوي أو غيرهم من حملة العناوين السهلة أن يشارك في رسم مستقبل شعب له مؤسسات قائمة لم يشكك أحد في شرعيتها ولم يطعن أحد في نتائج الاستحقاقات التي أنتجتها…..ثم إن الغالبية الساحقة من المدعوين والمشاركين لا تعني لهم الدولة شيئا ولم ينادي أحد منهم بإصلاح يعود بالنفع على الناس في عيشهم ولا في صحتهم ولا في أمنهم الاجتماعي ولكنهم يتنادون مصبحين وممسين لأول فرصة قد تتيح الحصول على منصب أو جاه !!!! فمثل هكذا حوار مضيعة للوقت ومفسدة مضمونة ، يفرغ المؤسسات من روحها ويفرغ العملية الانتخابية من كل معنى ويطعن في شرعية القائمين على الشأن العام وقبل هذا وذاك فيه تتفيه للعملية السياسية برمتها….

لا يهمني من السياسة غير وحدة هذا الشعب وسلمه الأهلي واستقراره وتماسك بنيانه وانشغلت كثيرا وما أزال في المشاركة في تبيان مواطن الخلل التي تهدد سكينة المجتمع سواء ما كان منها اختلالات داخلية وسواء ما ارتبط منها بأجندات الغير ومنذ عقود أكتب عن مواجع مجتمعنا عموما وتعرضت كثيرا لوجعه الأعظم الذي تنطق به آثار العبودية المنتشرة في البلاد ، مدنها وقراها وأريافها، وكان يحدوني دوما أمل أن يؤدي تنامي منسوب التمدرس لمزيد من الوعي بالدولة ومؤسساتها وأن تنتج حرية التعبير والتحزب ثقافة القبول بالرأي المخالف وأن تخلق مناخا يساعد الجميع في تلمس مسالك جامعة تؤدي لتطور هادئ وواثق …..لكن الأمور أخذت معارج في الاتجاه الخاطئ وبخطى متسارعة نحو الأسوإ فسيئ الأسوأ، فتعاظمت مخاوفي ومخاوف الكثيرين غيري من أن هذه الحرية المنفلتة من عقالها والمنقولة للآماد البعيدة عبر ثورة الاتصال والتواصل الرقمي، لا رقيب لها ولا كابح ، أضحت تضيف للوجع مواجع جديدة تزيد المخاطر خطورة وتنزع من الأمل كل أمل، فلا ضوابط لفعل ولا ضوابط لردة فعل…..لقد وقع الجميع في كمين محكم مفصل بعناية في خطة لحركة انفصالية معروفة، إن تعذر هدفها الأول في الانفصال تستل خطتها (ب) فتشرع في دق إسفين الكراهية والبغضاء بين مكونات هذا المجتمع الحساني يتنابزون بالألقاب وسوء القول وفاحشه ، لا خشية من قانون رادع ، فتتجافى القلوب وتختل وجهة البوصلة ويلهو البعض في نهش البعض وينسى الجميع جوهر المشكلة الوطنية فيضيع كل شيء ويكون الفشل……..

إن أي تعطيل للقانون وأية انتقائية في تفعيله إشارات تبعث للجميع برسائل غاية في السلبية ، فأهل الثقافة والوعي يعلمون أن القانون فوق الجميع لكنهم يعلمون أيضا أن تفعيله بيد السلطة و السلطة حين تسعى لاسترضاء الناس تتراجع قدرتها في مواجهة أصحاب النفوذ فيواصل صاحب الحظوة والجاه تجاوزاته إن هو نهب أو هو تحايل أو هو ألحق أذى بأخيه أو تجاوز في حق بلده و أما الذي لا يفقه في السياسة ولم يؤت نصيبا من الثقافة فينظر للحاكم أنه هو القانون وأن السلطة لا ترغب مواجهة أصحاب النزق والضجيج فيشعرون أنهم فوق القانون لا تمكن مساءلتهم ولا مقاضاتهم عن منكر قالوا به أو فعلوه، فالقضاء لا يقدر أن يواجه من يأتي فواحش القول والفعل….!!!!!

رجائي وأملي أن لا يقع حوار وأن يواصل كل طرف القيام بما هو أهل له ومنتدب لأجله ، سلطة تحكم ومعارضة تراقب وصحافة مسؤولة تتحسس مواضع الخلل وتخبر عنها ونيابة عامة لها من الاستقلالية ما يمكنها من فتح التحقيق في كل أمر ملتبس وقضاء جالس مستقل عن كل السلط….

وسواء حصل حوار أو لم يحصل فلن أملَّ من مخاطبتكم عند كل جديد وجديد اليوم أن الأعداء لم يعودوا يتدثرون في كيدهم لنا وباتوا على الأبواب تخبر أفعالهم وأقوالهم عن نواياهم الكيدية ويعملون في الداخل ومن الخارج …فانتبهوا للخطر الداهم أعانكم الله

السيد الرئيس

تواجه البلاد مخاطر جمة بعضها يحبو بهدوء منذ عقود يتمدد وتتطور أساليبه وتتشعب وبعضها الآخر يغزو بخشونة وتحت حماية قوى أجنبية لها حضور تاريخي في المشهد الوطني والاقليمي ولها أذرع محلية راسخة تتمدد هي الأخرى وتتعزز….

فأما الأول من هذه المخاطر فمن الداخل ، سوسة القبلية والعشائرية والشرائحية والاتنية وكل عناوين الهويات الفرعية منذ ابتليت البلاد بهذه الديمقراطية المشوهة العرجاء ، لا تنخر جسم الأمة وكيانها الجامع فحسب بل أيضا تقضي على كريات مناعته فتزيح كل سياج يحميه فتنهشه وتقضي عليه…… !!!!

أما ثاني هذه المخاطر فمن وراء الحدود ، له في الداخل من يسنده ويعضده، وله من الخارج دول و منظمات ترعاه ، نشأة ومسارات ومآلات…..الحكومات الراعية لهذا الملف تخشى على بلدانها من الهجرة وتخشى وصول المهاجرين بنفَس عنصري لا تخفيه واحتقار معلن تخبر عنه يوميات تعاملها مع من تسلل فوقع في شباكها تنهال عليه سياط أمنها فتذيقه مر العذاب ثم تبعده عنها بعيدا لا تراعي فيه إلا ولا ذمة…..أما حين تتحصل لهم على مستقرات ومواطن في الطريق وتطمئن أن قد زال منهم كل خطر تبدأ رحلة في اتجاه آخر عنوانها المعلن الرحمة والرأفة وحب الخير للمساكين وعابري السبيل والغاية الحقيقية منها استغلال ملف هجرة هؤلاء ومهاجرهم من أجل أن تستعيد هذه الدول نفوذا ضاع منها داخل القارة الافريقية عموما وفي منكبها الغربي على وجه الخصوص ولها وسائل كثيرة وأسباب من مال وجاه و لواقط محلية تستنصرها في ملف إقامة المهاجرين وتنصرها فكلاهما له أهداف تخصه يحتاجان فيها للتعاضد والتناصر….

إن تنامي الحس القبلي واستحضار الأمجاد المميزة للقبيلة وتغلغل الانتماء العشائري وسطوته في توجيه سلوك الأفراد وأقوالهم وسردياتهم والشعور المتنامي بين الناس أن القبيلة هي من يحمي وأنها المأمن وأنها المنقذ وأنها الملاذ حين تدْلَهمٌ الخطوب كلها أمور تؤسس ل”كيانات” داخل الدولة غير معلنة لكن وجودها المحسوس لا تخطئه عين…..ولا يعرف أحد إلى أين قد يصل

القبلية حس بدائي بررته في السابق حاجة المرء لفضاء يحميه وساعد في ترسيخه غياب بديل عنه وضحالة الوعي المدني والسياسي لكن المفارقة الكبيرة أن التمدرس لما عمٌَ هذه الأوساط وانتشرت الثقافة والوعي السياسي والمدني فيها لم يزدهم ذلك الا تشبثا بالقبلية وتماهيا معها فقد ترافق هذا التطور الكبير مع تراجع مخيف للدولة عن دورها كمؤسسة ناظمة جامعة ومحايدة لا تعطي لشخص ولا تهب لمجموعة ولا تمنع عن شخص ولا تمنع عن مجموعة.

لقد غيرت ديمقراطية الحشود كل شيء فتحولت القبيلة لسلعة تباع وتشترى وتحول العقد الاجتماعي من رابطة بين الدولة والمواطن إلى عقد بين الدولة ومجموعات قبلية تنتخب الحاكم تلقاء نصيب معلوم بقدر وزن كل قبيلة ودورها في صناعة الفوز.

الخطاب الشرائحي بدوره يتنامى بخشونة لفظية غير مسبوقة في وقت لم يعد من وجود لأية ممارسات استعبادية في المجتمع الحساني، فقد تم تسييس “الشريحة” كما تم تسييس “القبيلة” وراح الجميع يتسابق في رحلة انتجاع منفعي، كل طرف يسترعي الانتباه لنفسه لا تهمه دولة ولا يهمه وطن !!!! ولا يختلف الخطاب الشرائحي عن الخطاب القَبَلي من حيث خطورته بل قد يزيد عليه في مواطن كثيرة ؛ فالتنافس القَبلي يكون بين مجموعات على نصيب من الموارد الوطنية بنفَس استحقاقي على الحاكم الفائز وليس على البلد وهذا التنافس يكون بدافع مادي غالبا وقد يكون به أيضا شحن من مرارات الزمن الغابر لكنها مرارات عاشها الكل من الكل في الزمن والجغرافيا تارة تكون الغلبة لهذه القبيلة وتارة تكون لتلك فلا تكون الجراح عميقة ولا تدوم في اتجاه واحد…..

الخطاب الشرائحي اليوم هو أيضا تنافس على المنافع وتسابق كما هو حال الخطاب القَبَلي لكنه يختلف عنه أنه يدفع بمظلمة تاريخية حقيقية ما تزال آثارها المميزة في كثير من الجوانب ناطقة تخبر عن نفسها في انتشار الجهل والمرض والتخلف وقلة الحيلة؛ وهو أكثر شمولية من الخطاب القبلي فالشريحة جزء من القبيلة في واقع الحال ومتمايزة عنها عند الحاجة وهي عابرة للقبائل في الوقت نفسه وللخطاب الشرائحي قوة قَبول كبيرة تدفع بها مرارة استحضار مظلمة تاريخية مقيتة لحقت بمجموعة بعينها على يد مجموعة بعينها فيصبح تسويقه أسهل من غيره وأقوى اتساقا مع المشروع العبثي لتأسيس الهويات الفرعية……

وفرت ثورة الاتصال والتواصل فرصة ذهبية لكل الذين يريدون توسيع الهوة داخل المجتمع الحساني وساعد في ذلك أمران أساسيان أولهما أن القبيلة لا تدفع في غالب الأحوال إلا بسادتها لتصدر المشهد والثاني أن الخطاب الشرائحي يدفع باتجاه التنصل من أية علاقة بالقبيلة والحالات التي لم يحصل فيها هذا الأمر تبوأ فيها المنحدرون من “الشريحة” مواقع متقدمة داخل “القبيلة” وداخل الخريطة السياسية العامة للمنطقة والجماعة.

إن التآمر لا تخفى فصوله على أحد فالبعض ممن يرفعون شعار محاربة العبودية في المجتمع الحساني يتحالفون مع قوم هم أشد خلق الله استعبادية وأكثر خلق الله احتقارا للأرقاء وغيرهم من “دونية المجتمع” وما يزالون إلى اليوم لا يقبلون لهم إمامة ولا يجلسون معهم على حصير ولا يقبلون لمن مات منهم أن يجمعه باطن الأرض مع أشرافهم وسادتهم ؛ فهل يعقل أن يكون من هذه حاله نصيرا لمن يحارب حقا الاسترقاق في مجتمع آخر !!!! لكن هذه الجماعة لها أذرع خارجية لا يمكن تدويل موضوع العبودية في المجتمع العربي دونها والتدويل مصلحة لأفراد بعينهم فتحالف الجمعان…..

الجماعات الانفصالية هي الأخرى تستجمع كل الأسباب للدفع بعنصرية ما تسميه بدولة “البيظان” حتى لو كان في ذلك إضرار كبير بالكثير من أبناء المجتمع فتطالب بمقاطعة اللغة العربية ثم تشكو فشل الذين لم يتعلموها حين تخرج نتائج الامتحانات الوطنية أو الاكتتابات الوظيفية فقد ضحت بمستقبل هؤلاء من أجل ما تراه أجل وأسمى أن تستحصل عن عمد وسبق إصرار دليلا يضر بسمعة البلد ثم يكون دافعا لتجييش وثوير يساعد في الانفصال……

السيد الرئيس

إن أول دولة مركزية نقيمها في هذه البلاد بعد دولة المرابطين العتيدة هي دولتنا الوطنية هذه، نشأت في ظروف صعبة، بعض ولايات الوطن كانت لعهد قريب جزءا من مالي والشعور الوطني الجامع لم يتبلور في أذهان الناس إلا حين أقر دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة أن تصبح موريتانيا إقليما من أقاليم ما وراء البحار فاستحقت نائبا عنها في البرلمان الفرنسي وممثلا لها في الإتحاد الفرنسي ولم تمض أشهر قليلة على إقرار هذا الدستور حتى كانت انتخابات 1946 فاستنطقت إرادة الجميع لاختيار من ينوب عن الجميع….

ورغم أن الانتماء القبلي والعشائري والجهوي ذي الشحنة الأميرية انتماء قوي لكن الدولة الوطنية الحديثة تعاملت مع هذا الواقع الصعب بكياسة وحس سياسي رفيع.

حافظت للأمراء الذين أدركوا الإستقلال على مكانتهم الأميرية داخل الدولة وأخبرتهم أن الإمارة بعدهم تذوب في الدولة وعنْونَت الولايات بأرقام لا تحيل لمرجعية قبلية ولا أميرية وحين اجتمع أعيان من قبائل وازنة ليشهدوا صلحا بين اثنتين منها وكان ذلك يوم عطلة ، توصل كل موظف عمومي شارك في ذاك اللقاء ببلاغ إقالته في أول أيام الدوام الرسمي في الأسبوع الموالي…..ف”الدولة” و”القبيلة” نقيضان.

لم يكن من المنتظر أن يعود لهذه الهويات الفرعية من وجود في القرن الواحد والعشرين بعد أن كادت تتلاشى في سبعينيات القرن العشرين لكن عوامل خارجية عالمية قلبت موازين دولية كبرى أجهضت مشروع الإصلاح الداخلي في مجتمعنا فرجعنا القهقرى بتسارع مخيف…..

سقط المعسكر الشيوعي فأمنت الدول الاستعمارية مخاطر الثورات اليسارية والانقلابات المدعومة من الشرق وخلصت أن حكم العسكر لن يعود سلعة مقبولة عند الناس بعد كل الذي شاهدوه من “ثورة” الشارع في شرق أوروبا وتفرد الغرب بقيادة النظام العالمي فكانت وصفة “لابول” “الديمقراطية” فتبدلت الأرض غير الأرض وأصبحت “القبيلة” هي من يصنع الحكم ويأتي بالحاكم وانتشرت قبلية تفاخرية سوقية ما كانت تخطر على بال عاقل ، هذا يطالب باستعادة السلطة الأميرية وآخر يطالب بانفصال ولايات بعينها وبين الفينة والأخرى حفل مهيب لتنصيب أمير لجماعة هنا وأخرى هناك تتقاطر عليه كل عناوين الوجاهة المجتمعية ، الجميع شريك في ترسيخه، مَن تغافل عنه ومن سمح بتنظيمه ومن حضره وزاده وجاهة وقبولا ومن نقله من الإعلاميين والمدونين ومن سكت عنه من السياسيين……وفي المقابل انتشرت شرائحية تدعو لمعالجة الغبن الشرائحي بشرائحية معاكسة ، تدفع بمرارات حقيقية في الماضي لانتاج مرارات حاضرة في اتجاه معاكس ثم تلوذ تستنصر بجماعات ماتزال العبودية قائمة فيها بشكل مقيت يفوق قدرة العقل على التخيل !!!!!!

بدأت هذه الشرائحية ذات الشحنة اللفظية العنيفة داخل المجتمع الحساني عندما دخل هذا الطرف الثالث على موضوع العبودية في المجتمع العربي وتحالف سياسيا مع بعض من يرفعون شعار محاربة الاسترقاق وكلما تعززت هذه الشراكة السياسية وتعاظمت بفعل السند الأجنبي الراعي لها والساهر على استمرار حيويتها ، دخلت لغة التنابز مصطلحات من الخشونة لا يمكن تصورها من شخص سوي وازدادت هذه الخشونة خشونة كلما تراءت ميوعة الدولة في تفعيل القوانين ومساءلة من أساء فانفلتت جموع من الناس تغرس بذور الفتنة داخل هذا المجتمع وانتشر هذا العنف اللفظي غير المسبوق وغير المفهوم فأنتج عنفا لفظيا مماثلا في رحلة سوء عبثي ستؤدي حتما ، إن لم تتدارك، لما هو أسوأ فلا عنف مهما يكن إلا وقد سبقه عنف لفظي يمهد له….

السيد الرئيس

إن ما نشهده اليوم من خبال أمر في غاية الخطورة والتغافل عنه قد يتسبب في ما هو أخطر إحداث خلل بنيوي يطيح بالمجتمع والدولة في المستقبل ……
فابن القبيلة وابن الشريحة الذي تترسخ لديه قناعة، من خلال الممارسة الحياتية أن حاضنته الفرعية هي التي تحميه وهي التي تطعمه وتكسوه، سيتحول ولاؤه لها وسيحتفظ بهذا الإحساس حين يصبح المعلم والأستاذ والشرطي والحرسي والجندي في القوات المسلحة و الإداري الذي يتولى شؤون العامة والعمدة والنائب والقاضي والوزير و الصحفي والمدون وحين يكون إماما يتقدم المصلين وفقيها يعلم الناس أمور دينهم ……

إن ترك الحبل على الغارب للكرنفالات القبلية والعشائرية وترك الحبل على الغارب للترويج للشرائحية والتبشير بالخطابات اللونية سيعزز من شعور وكلاء الدولة بواجب خدمة انتماءاتهم الفرعية على حساب الهوية الجامعة فيتلاشى مفهوم الدولة من أذهان القائمين على إدارتها ويتنامى الوعي لدى القبليبن والشرائحيين أن القبيلة والشريحة أهم من الدولة وأن الدولة دونهما مجرد وهم وستتكفل وسائل التواصل الرقمي بمهمة التنسيق بين هؤلاء والتبليغ والتبشير !!!!

ستتحول الدولة لقاطرة بعجلات مثقوبة، قبلية وشرائحية فتتعطل وتتعاورها الأيادي ويذهب كل منها بنصيب و حينها سيدرك الجميع لكن بعد فوات الأوان أن الدولة مهما كانت علاتها لا يحل محلها سوى الخراب وأن ألف يوم من سلطان جائر خير من يوم واحد من دون سلطان وأن ما توفره الدولة من أسباب الحياة لا يقدر غيرها على توفير نزر يسير منه مهما كان حاله ومهما تكن الوسائل لديه والداعمون له من وراء الحدود…..مأساة دارفور في السودان بدأت شرارتها الحالية بخصومة على ملكية بعير !!!

السيد الرئيس

اسمحوا لي أن أتبادل معكم على وجه الاستعجال بعض التصورات والرؤى علها تساعد في تلمس خطوات سريعة للوقوف أمام هذه المخاطر الوجودية الكبيرة….

إن وجود دولة قوية بقوانينها وقوية مؤسساتها ، لا تهادن ولا تداهن ولا تسترضي ولا تراعي غير القانون ، راعية لمصالح الجميع رشيدة في نفقاتها وعادلة في توجيه صرفها هو السبيل الوحيد لجعل المواطن يدين لها ويتحرر من أن يصبح مدينا لغيرها….هذه نقطة البداية ولها أرداف كثر تبدأ بحصر التعيينات في الوظائف الفنية عبر مسابقات أو فرز ملفات من قبل محلفين، فالموظف بحاجة أن يشعر أنه مدين لنظام حكامة وليس لشيخ عشيرة ولا قبيلة ولا لصراخ من هنا أو هناك ، فكما كان توجيه الطلاب عبر منصة رقمية نموذجا لقوة الدولة وحيادها فلم يشكو طالب من غبن لحق به ينبغي أن لا يتبدد هذا المكسب الكبير حين ينهي دراسته فيعود ويمد يده للوظيفة….

أرجو أن تأمروا بتحريم وتجريم الاجتماعات القبلية مهما كانت عناوينها وتحريم وتجريم كل خطاب شرائحي أو لوني أو قبلي أو أميري أو جهوي ومساءلة كل من يتعدى على المساطر القانونية ذات الصلة وإعفاء كل مسؤول عمومي من وظيفته إن هو شارك في نشاط قبلي أو جهوي أو فئوي وأن تمنعوا بقرارات ملزمة كل مظاهر البذخ الفاحش في المناسبات والحفلات فهذا أمر مخالف لشرع الله ومستفز لمئات الآلاف من الناس الذين يعيشون ظروفا حياتية صعبة…ومستفز هذا الفعل أيضا من حيث دلالته ، فمن كد وجد وتصبب عرقا في تحصيل ثروته لن يبذرها بل المبذرون عادة ما يكونون أولئك الذين يكسبون بسهولة والكسب السهل مظنته الأولى سلاسل نهب المال العام والشركاء فيه…..

أن تتجاوز الدولة كل المنظومات الحزبية وتلامس أحوال الناس مباشرة ولا تتخذ بينها معهم وسيطا…..فتشييد طريق معبد وفك عزلة عن منطقة زراعية أو رعوية وبناء سدود واستصلاح أراضي زراعية وبناء مدارس مجانية داخل آدوابه والقرى القصية الفقيرة وتزويدها بكفالات مدرسية توفر المسكن والمأكل والمشرب والملبس والكتاب المدرسي بالمجان والقرطاسية وتجريم عمل الأطفال ومنح علاوات تشجيعية لكل أب فقير أرسل ولده للمدرسة الجمهورية، وتعميم التأمين الصحي ومد يد العون للفقراء والمساكين كل هذه الأمور وغيرها لا تحتاج من يشرحها ولا من يزكيها ولا من يتحدث عنها فهي ناطقة بذاتها يعيشها من يستفيد منها ومن هو في حاجة إليها وستحصن هذه الإجراءات وغيرها ضد أي خطاب فئوي وستترسخ في أذهان الناس أن الدولة خير للجميع وخير من كل سمسار….

إن تجاوز المنظومة الحزبية يعني أيضا تنقية المشهد الحزبي وترشيد العمل السياسي وابعاده عن التفاهة والميوعة، فليس من المعقول أن تكون دول عظمى بمئات الملايين من السكان ولها عهد بالديمقراطية التمثيلية مضت عليه قرون يتناوب على حكمها حزبان أو ثلاثة في حين يتجاوز عدد الأحزاب المائة في دولة عمرها بين العقد السادس و السابع وتغلب فيها الأمية الأبجدية والأمية السياسية وعهدها بالديمقراطية ثلاثة عقود !!!!!

ينبغي تشكيل لجنة مختصة للنظر في البرامج السياسية للأحزاب وكل الأحزاب التي تتطابق برامجها يطلب منها أن تندمج في كيان حزبي واحد أو جبهة تكون عنوانا جامعا لها وإلا يتم حلها وتمنح هذه الأحزاب فرصة سنة أو اثنتين للامتثال لهذه الإجراءات ……ستتقلص الأحزاب لثلاثة أو أربعة فتتضح معالم العمل الحزبي وتتحرر الخزينة العامة من أعباء مالية ضخمة في تنظيم الحملات وعمليات الاقتراع والفرز وتصبح الأحزاب السياسية مشاريع مجتمعية لا عناوين بيد أشخاص……

سيتعين على الدولة أن تجعل من المدرسة الجمهورية عنوان سيادتها الثقافية وسفارتها وعنوانها المميز ، الدراسة فيها بلغة الجمهورية ومناهجها تعكس حاجة البلاد وسوق العمل فيها وتكون هذه المدرسة في خدمة وحدة الأمة وانسجامها وهويتها الجامعة….

سيساعد قرار الزامية دراسة اللغة العربية والتعلم بها في المدرسة الجمهورية أن لا تعيق اللغة الرسمية أيا من أبناء البلد أن ينجح في مسابقة اكتتاب وظيفي أو مسابقة ولوج لمدارس متخصصة……

في النصف الأول من القرن السادس عشر تحركت وحدة بحرية فرنسية نحو أحد موانئ البلاد فلما نزل الطاقم لم يتمكن من التواصل مع الناس بسبب أن السكان لا يفهمون الفرنسية فأبرق قائد الوحدة بالخبر فقرر افرانسو الأول أن يبني “كوليج د فرانس” ليتعلم الجميع اللغة الفرنسية ويتوحد الفرنسيون حول لغة جامعة ملزمة لهم كلهم رغم وجود أقوام كثر ناطقين بلغات مكتوبة حية وحيوية داخل الدولة…….

السيد الرئيس

أمران يستوجبان عناية كبيرة في هذه اللحظة التاريخية بالذات ، التربية المدنية في المدارس والزامية الخدمة العسكرية.

التربية عموما مهمة البيت والمدرسة والتربية الإسلامية والمدنية و الأخلاقية مقرر مدرسي قديم لكنه لم يكن يهم الكثيرين بسبب ضاربه الضعيف فكان لذلك بالغ الأثر على التنشئة المدنية للأجيال……

التربية الدينية مهمة يقوم بها البيت الموريتاني تلقائيا فلا يوجد بيت لا يعلم أبناءه أساسيات الدين منذ الولادة ولا يوجد بيت موريتاني لا يعلم أبناءه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير صحابته وتاريخ دولة الإسلام.

لكن هذا البيت لا يكتفي ففط بتقصيره أن يعلم أبناءه علاقتهم بالعلَم وبالمواطن الآخر وعلاقتهم بالدولة وبقوانينها وبمؤسساتها وما يجوز وما لا يجوز في حقها بل إنه يتعمد تربية منزلية قبَلية تعلم الولدان أنهم خير من أقرانهم وأن آباءهم الأولين خير من كل الآباء وأن العشيرة سيدة العشائر وخزامتها فيصبح الطفل ضحية لشحن فئوي قَبلي وشرائحي و غياب تربية مدنية صالحة فينشأ ابن قبيلة وابن عشيرة وابن شريحة….

لم يعد تدريس مادة التربية المدنية ضرورة فحسب بل أصبح واجبا ملحا لا يقبل التأخير من أجل خلق ثقل مضاد لهذه التربية المنزلية المخلة وأن يكون لهذه المادة ضارب كبير خاصة في المستويات الابتدائية….فأهم مخرجات العملية التربوية أن تنتج مواطنا صالحا يعرف وطنه ويعرف واجبه اتجاهه وحقه عليه….

يتوجب العودة سريعا للخدمة العسكرية الالزامية لكل تلاميذ الفصل الأخير من الثانوية سواء من حصل على الشهادة أو من لم يحصل عليها، فالخدمة العسكرية تربية قبل أن تكون مشروعا عسكريا ، يختلط البعض بالبعض لهدف واحد هو حماية وطن جامع فتزداد الروابط قوة ويزداد التلاحم وتنشأ حمية مشتركة جامعة.

ثم إن هذه الخدمة العسكرية الالزامية تخلق فرص عمل للشباب وتخلق قوة احتياط لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها البلاد وخاصة حدودنا الساخنة مع مالي وطوفان الهجرة الحالي وهي رسالة قوية للجيران والأبعدين أن الدولة تتهيأ لكل طارئ وأن التعرض لها ليس فكرة مأمونة.

أطالبكم سيادة الرئيس أن تبعدوا الجيش والأمن عن المشاركة في أية انتخابات فهؤلاء لا مرشح لهم ولا خواص لهم فهم للجميع ودرع الجميع…..وأن ترصدوا مخصصات كافية لدعم عتاده وعدته وتحسين ظروف الضباط وضباط الصف والجنود وجعل الجندية قبلة لمن يريد حياة كريمة ومعاشا مأمونا حين التقاعد….

في موضوع الهجرة قامت الدولة بخطوات كبيرة تداركت مخاطر جمة لكن التحديات القائمة تستوجب مضاعفة الجهود والشد على أيادي الأجهزة المعنية بهذا الملف الخطير وتمكينها من كل أسباب القوة والحزم والانتصار فيه وفي غيره..

إن السرعة المذهلة التي تجاوبت بها الأمم المتحدة مع البيان الكيدي لجماعة “هيومان رايتس ووتش” في ابتعاث مقررها المعني بحقوق الإنسان في ملف الهجرة لأَمْر مخيف ونخشى أن يكون فاتحة لقرارات لاحقة تسعى لإلزامنا بتوطين هؤلاء ومنحهم حقوق المواطنة فتزداد الأعباء الخدمية على الدولة وتزداد مضايقة أبنائنا في أرزاقهم وتختل تركيبتنا السكانية الثقافية والدينية ويصبح بيننا طابور خامس في يد من يتبرص بنا الدوائر….

إن التنسيق مع دول الجوار وتمتين الروابط معها وتبادل التجارب والخبرات والمعلومات أمر من الضرورة أن نأخذ به على وجه الاستعجال في مواجهة هذا الطوفان وتبعاته.

ثم إن هذا الموضوع ينبغي أن تعالجه الدولة الموريتانية مع دول المهاجرين وفق مساطر تراعي نسبة المهاجرين منا وإلينا وأن لا نقبل بأي وجه أن يكون هذا الموضوع ملفا من ملفات الأمم المتحدة……فهذه المنظمة تحتضر لكنها ما تزال ببد الصهائنة وما تزال قادرة على الحاق الأذى بمن يغضبون عليه من الشعوب والأمم.

سيادة الرئيس

إن ماتبقى من مأموريتكم الأخيرة يكفي لإحداث تغييرات جوهرية تؤسس لمستقبل مأمون لشعبنا وبلدنا…لا نريد شهادة حسن سيرة وسلوك من أي كان ولا نريد استرضاء أحد فأي بلد يرضى عنه عدوه عليه أن يبحث في داخله عن مواطن الخلل….

أعانكم الله ووفقكم لما فيه خير البلاد والعباد
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته