جدار جابوتنسكي يتشقق… وغزة تكتب المعادلة/ بقلم ميشيل شحادة

ميشيل شحادة

منذ نشأته، لم يقم المشروع الصهيوني على التعايش أو التسوية، بل على الاقتلاع والإحلال. وقد تبنّى حزب العمل الصهيوني، بقيادة دافيد بن غوريون، منذ البداية استراتيجية “إدارة الصراع” مع الفلسطينيين، والتي تقوم في جوهرها على احتوائهم، وتفكيك قضيّتهم، وإبقائهم في حالة ضعف دائم، بالتوازي مع استكمال مشروع السيطرة والتهويد.

إلا أن هذه المعادلة بدأت تتصدع مع احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، بعد بروز العامل الديمغرافي: إذ بدأت أعداد الفلسطينيين تتجاوز أعداد اليهود في فلسطين التاريخية، ما وضع المشروع الصهيوني أمام معضلة وجودية خطيرة: كيف يمكن لدولة أن تُعرّف نفسها بأنها يهودية وديمقراطية في آنٍ معاً، إذا كان أصحاب الأرض الأصليون يشكّلون الأغلبية؟

وكان الردّ الصهيوني بتحصين المشروع من الداخل، عبر بناء منظومة فصل عنصري (أبارتهايد) تضمن التفوّق اليهودي الكامل، من خلال عزل الفلسطينيين في جيوب جغرافية فقيرة الموارد، مسلوبة الإرادة، تُسمّى “حكماً ذاتياً” لا يمتلك من السيادة شيئاً. واستُكملت الخطة بسيطرة إسرائيلية تامة على الاقتصاد والمعابر والمياه والحدود، ليُترك الفلسطيني محاصراً في وطنه، محروماً من حقوقه، ومجرداً من أدوات التأثير على مصيره.

كل ذلك لم يكن كافياً لليمين الصهيوني الديني المتطرّف، الذي صعد إلى السلطة محمولاً على توجهات أكثر فاشية وتطرفاً. ففي عام 2017، قدّم بتسلئيل سموتريتش ما أسماه “خطة الحسم”، التي تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية بشكل نهائي: لا حلول، لا شراكة، بل ضمّ كامل، وسيطرة تامة، وتهجير واسع. وقد بدأت الخطة تدخل حيّز التنفيذ ميدانياً مع نقل صلاحيات “الإدارة المدنية” في الضفة الغربية إلى سموتريتش، ثم جرى تبنّيها رسمياً من قبل الحكومة الإسرائيلية بين ديسمبر 2022 وفبراير 2023، لتتحول من طرح أيديولوجي إلى سياسة دولة معلنة.

بعد عملية طوفان الأقصى الأسطورية، ظن نتنياهو أن لحظة “الحسم” قد حانت، مستغلاً تعاطفاً غربياً مصطنعاً غذّته دعاية صهيوغربية متقنة، اعتمدت على الكذب وشيطنة المقاومة الفلسطينية باتهامات سرعان ما كشفت التحقيقات الدولية زيفها. وبالتوازي، حُشدت حاملات الطائرات والبوارج واستُنفرت جيوش “الناتو،” في مشهد لم يُخفِ أن ما يجري يتجاوز غزة، ليكون معركة إقليمية تهدف إلى فرض معادلات جديدة بالقوة.

شنّت “إسرائيل” قصفًا شاملًا على غزة يفوق في وحشيته حدود الإجرام، لم يُبقِ حجراً على حجر، وألقت عشرات الآلاف من المتفجرات، يعادل مجموعها بضع قنابل هيروشيما، مستهدفة البنية التحتية والمستشفيات والمدارس. لكنها، رغم ذلك، لم تحقق هدفها المركزي: كسر إرادة الشعب الفلسطيني أو دفعه إلى الهجرة. بل حدث العكس تماماً؛ إذ لم تنحنِ غزة، بل وقفت شامخة، وتحولت إلى نموذج تلاحم بين المقاومة الشعبية والعسكرية، في نمط جديد من الاعتماد على الذات. فقد صنعت المقاومة سلاحها من ركام البيوت ومن بقايا القنابل التي لم تنفجر، وأصبحت أسماء مثل قذيفة “الياسين”، وبندقية “الغول”، ومتفجرة “الشواظ” رموزاً للإبداع الميداني والانبعاث من تحت الدمار.

وفي المقابل، يتآكل الكيان الصهيوني من الداخل؛ فقد فرّ أكثر من مليون ونصف صهيوني من فلسطين المحتلة بعد “طوفان الأقصى”، رغم محاولات المنع الرسمية. انهارت وعود الأمان ودولة الرفاه، وتراجع أداء الجيش رغم تفوّقه التقني والدعم الأميركي المفتوح، فعجز عن استعادة أسراه أو كسر المقاومة. وفي الوقت نفسه، تعمّقت أزمة التجنيد، مع استمرار رفض الحريديم أداء الخدمة العسكرية، وتهديدهم بالهجرة إن فُرضت عليهم، ما حوّل القضية إلى قنبلة سياسية موقوتة قد تنفجر في وجه نتنياهو وتسقط حكومته.

ومع فشل “إسرائيل” المتكرر في تحقيق أهدافها العسكرية، بدأ الحديث عن “هدنة”، لكن هذه الهدنة ليست سوى غلاف جديد لنية قديمة: التقاط الأنفاس تمهيداً لجولة أخرى من التطهير العرقي والتهجير، لأن الهدف النهائي لم يتغير يوماً؛ وهو بناء “إسرائيل الثانية” على أنقاض فلسطين كاملة، وجعلها محور مشروع “الشرق الأوسط الجديد” بقيادة الولايات المتحدة. ولا يمكن فهم هذا المخطط إلا ضمن المشهد الأوسع، فـ “إسرائيل” ليست مجرد كيان استعماري، بل رأس حربة في منظومة مصالح غربية تسعى لإبقاء المنطقة تحت السيطرة. وما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد معركة محلية، بل صراع مفتوح على مصير المنطقة بأكملها.

في هذا السياق، لا يُمكن فصل مشاريع التطبيع العربي، والخطط الإبراهيمية، وبناء تحالفات اقليمية عن محاولة تطويق صمود الفلسطينيين وتفكيك قضيتهم. غير أن المقاومة قلبت المعادلة؛ فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى التهدئة، تتفجر ميادين العالم بالغضب والتأييد لفلسطين. حتى المشهد الغربي بدأ يتصدع: منظمات طلابية، نقابات، وأصوات أكاديمية وإعلامية باتت تجاهر بإدانة جرائم الاحتلال. السردية الصهيونية التي احتكرت المشهد الإعلامي الغربي تتهاوى، لكنها لا تزال بحاجة إلى جهد فلسطيني وعربي منظم لتحويل التعاطف العالمي إلى ضغط فعلي: عبر المقاطعة، والمحاسبة القانونية، والعزل السياسي. الرواية الصهيونية تسقط، لكن الحقيقة تحتاج من يرفعها بثبات وإصرار، وهذا واجب كل فرد منا.

على الأرض، طورت المقاومة بنيتها واستبدلت قادتها الميدانيين بدماء شابة مدرَّبة، فشهدنا كمائن وهجمات نوعية قرب الحدود وخلف خطوط العدو، في تحدٍ مباشر لأوهام التفوق الصهيوني. وهذا يضعنا أمام ضرورة وطنية ملحة لتشكيل جبهة مقاومة وطنية موحدة ببرنامج تحرري واضح، يُنهي هيمنة زمرة أوسلو المتماهية مع الاحتلال، ويعيد توحيد الساحة الفلسطينية على قاعدة مقاومة حقيقية سياسية وميدانية، لأن المعركة ليست فقط على الأرض بل على التاريخ والهوية، ففلسطين ليست جغرافيا محتلة فحسب، بل مشروع تحرر حضاري وحق لا يسقط.

الكيان الصهيوني، في نسخته الحالية، لا يعاني فقط من فشل عسكري أو إخفاق سياسي، بل من مأزق بنيوي عميق؛ فـ”إسرائيل الثانية” لم تُبنَ فقط على أنقاض الأرض الفلسطينية بل على أنقاض القانون الإنساني، كمشروع هيمنة إقليمية تديره واشنطن وتنفذه تل أبيب عبر التفوق الأمني والتقني مقابل السيطرة على القرار السياسي لدول الجوار. وهذا يتقاطع مع التآكل الداخلي للكيان، حيث تنهار وعود الأمن والرفاه، ويعيش المستوطنون في دوامة خوف وارتباك. العقد الاجتماعي الصهيوني ذاته يتفكك، وسط إعلام ينقل جنازات قتلى الجيش، ويُظهر حجم الانهيار النفسي بين جنوده، فيما يتشقق جدار جابوتنسكي الفولاذي الذي طالما بشّر به تلاميذه وعلى رأسهم نتنياهو.

في المقابل، يواصل الشعب الفلسطيني تعميق مفاهيم النضال والتضحية والوعي، حيث باتت المقاومة في غزة نموذجاً شاملاً لمجتمع مقاوم أسطوري. وحتى الضفة الغربية التي خُطط لها أن تكون نهجا للتهجين والخنوع، استعادت روح المواجهة، فتصدّر شبابها المشهد بعمليات نوعية ومخيمات تعيد إنتاج ثقافة الكفاح رغم القبضة الأمنية والضغط السياسي والمعيشي. وفي القدس، لا تزال جذوة النضال مشتعلة رغم التهويد واقتحامات المسجد الاقصى، حيث تصر المدينة على رفض الذوبان في المشروع الصهيوني وتؤكد في كل لحظة انتماءها العميق الوطني والقومي.

ومن الشتات، يتجدد الحضور الفلسطيني عالمياً. من ساحات الجامعات في أميركا وأوروبا، إلى حملات المقاطعة والاحتجاجات الجماهيرية، يبدو أن الفلسطينيين قد كسروا حاجز التغييب القسري، وبدأوا في استعادة زمام السردية العالمية. فبعد عقود من التهميش، بات الصوت الفلسطيني مسموعاً، والمؤسسات الحقوقية الدولية باتت مضطرة لتوثيق جرائم الاحتلال، ولو تحت ضغط الواقع.

وما يعزز هذا التحول هو وعي جديد لدى الأجيال الصاعدة، عربياً وعالمياً، بأن فلسطين ليست فقط قضية شعب، بل رمزاً للعدالة، ومحوراً لفهم التناقض بين الاستعمار والحرية. لذلك، فإن معركة التحرير لا تُخاض بالبندقية فقط، بل أيضاً بالفكرة، والكلمة، والمقاطعة، والعمل السياسي والإعلامي والمجتمعي.

وإذا كانت “إسرائيل” قد بنت مشروعها على تشويه الفلسطيني وإنكار وجوده كضحية، فإن ما نشهده اليوم هو استعادة حقيقية للوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية، وإدراك متنامٍ بأن الاحتلال لا يمكن تجميله ولا تبريره، مهما غُلِّف بشعارات الديمقراطية أو “حق الدفاع عن النفس”. لقد خسر الكيان الصهيوني صورته الأخلاقية عالمياً، ولم يعد قادراً حتى على إقناع حلفائه بصحة ما يفعل، فيما تنتشر صور جرائمه وتُعريه أمام الضمير الإنساني.

في ظل هذا الانكشاف، يغدو الحديث عن “سلام” مع الاحتلال محض وهم؛ فـ”إسرائيل” لا تسعى إلى سلام، بل إلى فرض الاستسلام، ولا تقبل بحلول عادلة، بل تفرض إملاءات قسرية. أما المقاومة، بجميع أشكالها وتجلياتها، فإنها ترفض هذا المنطق، وتعيد صياغة مفهوم الكرامة، لتجعل من كل لحظة مواجهة فعلاً حيًا لاسترداد الحق، ومن كل صمود مشروعَ تحرر لا يُقهر. والسؤال لم يعد: هل ستسقط إسرائيل؟ بل: متى، وكيف؟ وهي أسئلة تتحول من حلم إلى واقع، مع كل يوم صمود، وكل شهيد، وكل طفل ينتزع الحياة من بين الركام.

وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئاً، فهو أن الشعوب لا تُهزم، وأن إرادة التحرر تنتصر دائماً، ولو بعد حين. وما نراه اليوم في فلسطين هو برهان حي على أن الحق لا يموت، وأن الأمة حين تنهض، لا يستطيع أحد أن يوقفها.