كيف نتجه إلى حوار ناجع وناجح؟ بقلم: عبد الله ولد بونا

15 يونيو 2025

في علم السياسة الحديث، يُنظر إلى الحوار الوطني باعتباره أداة مركزية لإدارة التوازنات الداخلية في الدول، وتحقيق الشرعية السياسية، وتكوين التوافقات الكبرى. فكما يعرّفه العالِم الأميركي ويليام زارتمن: “الحوار هو نقطة الالتقاء بين الرغبة في التغيير والخوف من الفوضى”، وهو بهذا المعنى ليس مجرد أداة لحل النزاعات، بل وسيلة لإعادة بناء المشهد السياسي برمته.

أما المفكر الفرنسي بيير بورديو، فيصف الحوار السياسي بأنه “فضاء للصراع الرمزي والمصلحي”، تتقاطع فيه القوى الفاعلة، وتتنازع على النفوذ داخل الهياكل والتمثيل. من جهته، يؤكد الباحث جون ر. هيرمان أن الحوار يجب أن يُدار باحتراف ومهنية، وأن سوء إدارته قد يُحوّله من وسيلة تهدئة إلى مصدر توتر مضاعف.

هذه الرؤى تُسعفنا في فهم اللحظة السياسية الراهنة في موريتانيا، حيث أعلن رسميًا عن قرب انطلاق حوار سياسي جديد، وسط سياق محلي يتميز باستقرار نسبي، لكن بعمق تراكمي لأزمات تتطلب من الجميع مسؤولية وطنية وواقعية سياسية متوازنة.

*الواقع السياسي: مأمورية أخيرة وسيناريوهان محتملان*

يدخل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مأموريته الثانية والأخيرة، وفق مقتضيات الدستور الحالي. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة الوضع السياسي من زاويتين:

الأول: التمهيد لتعديل دستوري يفتح المأموريات.
احتمال ضعيف (لا يتجاوز 5%) نظرًا لتكلفته السياسية العالية، وما قد يثيره من احتقان داخلي، في لحظة تحتاج فيها موريتانيا إلى تثبيت المكاسب التنموية، لا المجازفات السياسية.

الثاني: التخطيط لانتقال سلس وآمن للسلطة في 2029.
وهو الاحتمال المرجّح، ويتطلب تمهيدًا سياسيًا مبكرًا لخفض منسوب الاحتقان، وبناء الثقة بين الفاعلين، وتوسيع دائرة المشاركة في صياغة المستقبل الوطني.

وفي الحالتين، يُصبح الحوار أداة ضرورية: إما لتقليل المخاطر في حال الخيار الأول، أو لضمان انتقال هادئ ومنظم في حال الثاني.

*تجارب الحوارات السياسية في موريتانيا: دروس وعِبر*

عرفت موريتانيا منذ ما قبل الاستقلال عدة محطات حوارية، اختلفت أهدافها ومخرجاتها باختلاف السياقات:

حوار ألاك (قبل الاستقلال عام 1958م): أسّس لبنية الدولة الوطنية الوليدة، وكان نقطة انطلاق رمزية مهمة.

حوار الستينات 1963م: أفضى إلى إنشاء حزب الشعب، وساهم في ترتيب المشهد السياسي الأحادي ومخرجات لم تنفذ غالبا.

حوار السبعينات: الأطول زمنيًا 1972 و1973، وناقش ملفات السيادة الاقتصادية، والعلاقات مع فرنسا، نفذ بعضه وبقي بعض حبيس الأدراج حتى انقلاب 1978.

الحوارات بعد الانقلابات: لم تكن عميقة أو جامعة، بل أقرب إلى مناوشات تكتيكية، ساهمت أحيانًا في ترسيخ الأزمة بدل حلها.

اليوم، وفي ظل التحولات الجديدة، تبدو الحاجة ملحة إلى حوار مختلف، حوار جامع، لا تديره الطبقة السياسية القديمة وحدها ولا يتقصى منه ولا يقصى عنه الشباب فقد كان لهم حضور مؤثر في كل حوار خاصة حوار 72_73وهم أغلب قوة موريتانيا البشرية ؛ ولا المرأة فهي تمثل أكثر من نسبة 51% من الكتلة الديموغرافية الوطنية ، ولا يختزل في طموحات نخبوية ضيقة حالمة غير قابلة للتطبيق ، بل يُبنى على رؤية استراتيجية إصلاحية واقعية تُعيد تأسيس العقد الوطني بعيدا عن الشعارات العاطفية الغوغائية وخطابات الكراهية .

*المشهد الحواري الراهن: هل نحن مستعدون؟*

مع الإعلان عن قرب انطلاق الحوار، تُطرح تساؤلات جوهرية حول مدى جدية التحضيرات ومصداقية التمثيل. فالنخب السياسية التقليدية، التي شكّلت أطراف الحوارات السابقة، لا تزال تعاني من التشرذم، والانفصال عن المجتمع.

الكتل اليسارية والليبرالية مشرذمة.

الإسلاميون منقسمون.

الحركات القومية والعرقية تتنازع التمثيل.

حتى الأحزاب البرلمانية الكبرى، بما فيها حزب الإنصاف، لا تزال تواجه تحديات في تماسك خطابها وشمول تمثيلها وتكاثر أجنحتها المتصارعة!

ولم تتبلور بعد وثيقة جامعة أو مسودة أولويات وطنية متفق عليها، بل تحوّل الخطاب الحواري إلى تجميع مطالب فئوية وشرائحية، وهو ما يُهدد بتفريغ الحوار من مضمونه الوطني.

*خارطة طريق لحوار وطني ناجح*

في ضوء ما سبق، يقترح مركز دعم صناعة القرار الوطني ونخبة موريتانيا المستقلة إطارًا عمليًا لحوار ناجع وناجح، يرتكز على المبادئ التالية:

1. توسيع دائرة المشاركة

عدم الاكتفاء بالأحزاب السياسية، بل إشراك ممثلين عن:

المجتمع المدني الحقيقي.

النقابات المهنية.

الشباب الوطني الواعي.

العلماء والمفكرين غير المرتبطين وظيفيًا بالسلطة أو المعارضة.

2. الانتقال من المطالب الفئوية إلى الأولويات الوطنية

لا بد أن تكون ورقة الحوار جامعة، تطرح قضايا إصلاح الدولة وبناء المواطنة، بعيدًا عن أي خطاب تقسيمي أو تحريض شرائحي أو عرقي.

3. محاور الحوار المقترحة

1. إصلاحات سياسية: تعزيز الدولة المؤسسية الوطنية الحديثة ، استقلال المؤسسات، التعددية الواقعية.

2. إصلاحات اقتصادية: حماية السيادة على الثروات، ترشيد الاتفاقيات، بناء عدالة اقتصادية شفافة وجعل ذلك مواد دستورية حاكمة

3. إصلاح إداري ومؤسسي
العدالة المجالية بحيث لا تظل جهات وأرياف في الوطن حبيسة التهميش لصالح تنمية جهات وأرياف أخرى و الشفافية، محاربة الفساد، توطين الوظيفة العمومية.

4. تعزيز الحوكمة: استقلال القضاء، إصلاح المجلس الدستوري، إعادة تفعيل الهيئات الرقابية.

5. السيادة والدفاع: تقوية الجيش، فرض التجنيد الإجباري، بناء احتياط وطني استراتيجي.

6. التخطيط الميزانوي والخدمي: إصلاح التعليم والصحة، ربط الميزانية بالنتائج، مضاعفة مخصصات التأطير والتكوين.

7. إصلاح دستوري وقانوني شامل: يتضمن كل ما سبق ضمن توافق زمني وتمويلي واقعي.

8. آلية متابعة تنفيذ مخرجات الحوار: لجنة وطنية مستقلة، ذات صلاحيات إشراف ومساءلة وتقييم.

الفرصة الأخيرة لتجديد العقد الوطني

الحوار الوطني اليوم ليس مجرد استحقاق سياسي ظرفي، بل فرصة نادرة لإعادة بناء مشروع الدولة الموريتانية الحديثة، على أسس الشراكة، والمساواة، والشفافية، والوطنية الجامعة.

وإذا أُحسن تصميمه وتمثيله وإدارته، فقد يتحول إلى اللحظة التأسيسية الثانية لموريتانيا بعد الاستقلال. أما إذا أُهمل، أو أُفرغ من مضمونه، فستضيع على البلاد فرصة تاريخية لتجديد شرعيتها السياسية، وترميم علاقتها الاجتماعية، وإطلاق نهضتها التنموية.

فهل نرتقي جميعًا إلى مستوى اللحظة؟

دمتم بخير