موريتانيا بعد انقلابين : العاشر يوليو والثامن من يونيو/الدكتور محمد الراظي
في ذكرى المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي وقعت في الثامن يونيو 2003 يتجدد الحديث حول الأسباب التي دفعت لها وهل كانت هذه الأسباب كافية لتبرير فعل كاد يعصف بالبلد برمته وراح ضحيته الكثير من الضباط وضباط الصف والجنود من قواتنا المسلحة تغمدهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته…….فهل كانت هذه الذكرى ستكون مناسبة للحديث عن مشروعية الفعل و ما ألحقته المحاولة من أذى بالبلد والناس لو كانت جماعة “فرسان التغيير” نجحت في الإستيلاء على السلطة !!!! أم أن الذكرى كانت ستكون فرصة لتنافس محموم بين الشعراء والكتاب والسياسيين أيهم أحسن قولا وأيهم أكثر ولاء للقادة الجدد………وهل يمكن تلمس علاقة غير مباشرة بين انقلاب العاشر يوليو والمحاولة الفاشلة في الثامن من يونيو ؟
لا يكون الإنقلاب جرما من الناحية المؤسسية والقانونية والسياسية إلا حين يفشل وحين ينجح المنقلِبون في الإستيلاء على السلطة يصبح الإنقلاب “ضرورة تأخرت ” ويصبح قادته “مُنقذين” و “مخَلِّصين” و مصدر الشرعية و مَلْهم المشروعية….وكل منقلِب يأتي بشعار يخبر عن أسباب فعله و لا تكون تلك الأسباب بمعزل عن المشاكل التي تشغل بال المواطنين ساعة حصول الإنقلاب كي لا يقول الناس إن الوافد الجديد إنما دفعه حب السلطة لأن ينقلب على سلفه وفي بعض الحالات يكون خلق وضع مأزوم جزءا من عملية التحضير للإنقلاب…
أما بالنسبة للعامة فلا تهُمُّهم كثيرا شرعية الإنقلاب على المؤسسات ولا الوصول للسلطة بالقوة وإنما يرون الإنقلاب فاشلا حين يكون وضع الناس بعده أسوأ مما كان عليه قبله والعكس بالعكس….فهل كانت الإنقلابات عندنا تحمل مشاريع سياسية بديلة ؟ أم أن المنقلِبين إنما جمعهم تلمس مصالح شخصية قد يحصلون عليها حين يستولون على السلطة ؟ وكيف لعناصر لا يجمعهم تنظيم إيديولوجي واحد ومصير مشترك أن يثق بعضهم ببعض حدَّ المخاطرة بتخطيط وتنفيذ عمل كبير غير مضمون ؟ وأين كان انقلاب العاشر يوليو من مشاغل الناس في موضوع التنمية السياسية والإقتصادية والإجتماعية وأين كان انقلاب الثامن يونيو من هذه المشاغل ؟ وما الخيط الناظم بين انقلاب يوليو ومحاولة يونيو الفاشلة ؟
في بلادنا كما هو حال سائر البلدان العربية والإفريقية تشكل العلاقات القبلية والجهوية العنوان الأول لتحسس مظان اكتتاب المتعاطفين مع فكرة أي انقلاب وهي أيضا الوجهة الأكثر أمانا للتبشير به وفرز العناصر الأكثر موثوقية للمشاركة فيه ولم يسلم انقلاب من أن تضم نواته الصلبة جماعة تربط بينها أواصر اجتماعية قوية خاصة وفي بعض الإنقلابات ربما تلتقي الحسابات الشخصية بالحسابات السياسية فيكون الإنقلاب حاجة شخصية لأفراد معينين ومطلبا سياسيا لآخرين في نفس الوقت…
بدأ عهد موريتانيا بالإنقلابات العسكرية في العاشر يوليو عام 1978 ، انقلب الجيش على الحكم المدني ، تغير كل شيء وانقلب كل شيء ، الرئيس وطاقمه في السجون والدستور توقف العمل به والحزب لم يعد له من وجود ومؤسسات الدولة المدنية كلها تعطلت والإنقلابيون يبشرون بفجر جديد، زعموا أن همَّهم الوحيد أن “يخلصوا البلاد والعباد من نظام “الفساد والتبعية” ووعدوا بتسليم السلطة لحكم مدني يكون “صاحب الشرعية” وينسون أنهم ذكروا في نفس الوقت أن التغيير إنما هو ” استعادة الجيش لشرعية هو أصلا صاحبها” !!!! ….فكيف سارت الأمور من بعد ذلك ؟ وهل حقا كان دافع القوم أن ينقذوا البلد مما قالوا إنه خطر كبير يقترب ؟ وما الذي حققه هذا الإنقلاب من نتائج تعود بالنفع على حاضر البلد ومستقبله ؟ وماذا لو أن هذا الإنقلاب لم يحصل أصلا ؟
الإنقلاب العسكري الذي أودى بتجربة الحكم المدني في موريتانيا عام 1978 كان طبعةً موريتانية لظاهرة عمت القارة الإفريقية في تلك الحقبة ولم يكن في راجح الإحتمالات قرارا وطنيا مدروسا ولم يكن للقائمين عليه من تصور واضح لما بعد “البيان الأول” غير أن يستلموا السلطة ، حالهم حال قادة الجيوش حينها في عموم القارة…..حركية كبيرة وعبثية مطلقة في غياب تام لأي برنامج سياسي وتزاحم بين الجميع كل واحد حين يقدر على صاحبه لا يتوانى لحظة أن ينقلب عليه ؛ فتوالد الحكم من الحكم واللجنة من اللجنة والهياكل من اللجان والأحزاب من الهياكل…….
يحسب لقادة العاشر يوليو أنهم انتزعوا السلطة من دون إراقة للدماء ومن دون أن يعرضوا البلد لمخاطر تهدد كيانه وهذه محمدة كبيرة قد تكون مجموعة من العوامل هي التي جعلتها ممكنة ، فقادة الإنقلاب يتحكمون في مفاصل الجيش وقياداته ووحداته في الداخل والسلطة المنقلَب عليها لم تشأ المواجهة أو لم تقدر عليها أو هما معا…..فقد كانت على علم بما يدبر ضدها.
قالوا في بيانهم الأول إن دافعهم كان بسبب حرب الصحراء أنها “كادت تفتك بالبلاد وتهدد وجودها” وقالوا إنهم سيوقفون هذه الحرب ويلتزمون الحياد في موضوعها وأن لا رغبة لهم في السلطة وأنهم سيسلمون الحكم لسلطة مدنية منتخبة في أقرب الآجال….
العقل المدبر لإنقلاب العاشر يوليو عناصر قلة من كبار ضباط الجيش تربطهم علاقات قربى قوية وعلاقات جيرة عشيرية وزمالة والكثير من عناوين التشابك المجتمعي……كان الإنقلاب في ظاهره انقلابا عسكريا طبيعيا كسائر الإنقلابات التي عمت القارة ولم تكن له ذراع سياسية رغم انطباع سائد بين الناس أن البعثيين كان لهم دور كبير في التخطيط له وتنفيذه….فهل كانت المشاركة البعثية قرارا رسميا على مستوى الحزب أم قرارا فرديا لا يلزم غير أصحابه ؟
قد يكون قرار مشاركة هؤلاء البعثيين النشطة جاء نتيجة لتواصل وتشاور ضمن دائرة العلاقات الإجتماعية بين كبار الضباط المشاركين في الإنقلاب وقد تكون لهذه المشاركة أسباب سياسية تلبي رغبة لتيار بعثي قوي مؤيد للبوليساريو ومعارض لاتفاقيات مدريد ولا يكن ودا كبيرا للملكة المغربية…..فهل كان هؤلاء الضباط ضمن هذا التيار فأرادوا أن يزيحوا حكم المرحوم المختار ولد داداه لتخرج موريتانيا من الحرب فتملأ جبهة البوليساريو الفراغ وتعلن إقامة الجمهورية الصحراوية في منطقة وادي الذهب !!!! سؤال تصعب الإجابة عليه بالإيجاب واحتمال يصعب استبعاده …..
قال المنقلبون في العاشر يوليو إن قساوة الحرب وصلت مستوى غير مسبوق ولم يعودوا قادرين على مواصلة العمليات القتالية ولم يلمسوا مؤشرات توحي باحتمال حصول انفراج وأن هذه الأسباب من أهم ما دفعهم للإنقلاب على الحكم المدني…. لا يبدو هذا المبرر مقنعا بما فيه الكفاية، فقد كانت سنة 78 أقل سنوات الحرب سخونة وكانت وحدات قتالية مغربية موجودة في الشمال تدعم المجهود الحربي ولم يكن يتهدد البلاد خطر وجودي كما قالوا بل لا يتراءى مثل هذا الخطر مطلقا بحكم تشابك مصلحة موريتانيا بتوازنات إقليمية ودولية لا يمكن معها تخيل مثل هذا التهديد …..
توقفت حرب كانت في حالة جمود وخرجت موريتانيا من “وادي الذهب” باتفاق مكتوب مع البوليساريا فانطلقت مسيرة مغربية نحو الإقليم حتى قبل خروج إدارتنا من مدينة “الداخلة” وانقطعت صلاتنا بالوادي وأهلنا فيه ولم يساعد خروجنا في تهدئة التوتر في الإقليم ولم يساعد في حصول جبهة البوليساريو على أرض تقيم فيها جمهورية الصحراء…….فمن هو أكبر خاسر في هذا الموضوع غير موريتانيا ومن هو أكبر رابح فيه غير المملكة المغربية ؟
أما في موضوع الوعد بإقامة مؤسسات ديمقراطية فقد انتكس كل شيء وتلاشى الحس المدني وغاب مفهوم الدولة من أذهان الناس و الوعي بها طارت به عنقاء مغرب وكلما تراجع الشعور بالإنتماء الوطني تنهار روح المواطنة فتعود رابطة العشيرة والقبيلة بقوة ويتحول الولاء للوطن إلى ولاء للأهل والحمى وكل يعتقد أن له نصيبا “بالمولد” من موارد البلد لا يسكت عنه ولا يتنازل………
أسس هذا الإنقلاب لثقافة سياسية تترسخ يوما بعد يوم أن السلطة من نصيب الجيش وأن أي ضابط يقدر أن يزيح صاحبه لن يتأخر ، فأصبح الإنخراط في الجيش قِبلة لكل من ينال شهادة البكالوريا فيحجز مكانا له في الطابور واتجهت الحركات السياسية أيضا للدفع بمنتسبيها نحو الإنخراط في الجيش، فقد أيقن الجميع أن الحكم محصور في العسكر وأن الجاه مرهون بالولاء للجيش وأن القوة الموصلة للسلطة ليست خطابا سياسيا ولا فلسفة حكم مقنعة وإنما من يتغلب على غيره داخل قيادة الأركان يصبح رئيسا ، تارة ببزات ونياشين وتارة ببدلات وربطات عنق تناسب “مدنية” الحاكم الجديد حين يفوز في انتخابات مفصلة بمقدار معلوم ؛ فلم يخسر عسكري واحد انتخابات رئاسية نظمها وشارك فيها وفي كل استحقاق بعد آخر تزداد القبلية تغولا ويزداد الشعور بالإنتماء الوطني تراجعا فقد ماتت دولة المواطنة و عاشت دولة القبائل…..فماذا لو لم يحصل انقلاب العاشر يوليو ؟
لو لم يحصل انقلاب العاشر يوليو كانت موريتانيا ستكون في وضع مشابه لما عليه السنغال ، حكومة مدنية لها محامد ومزالق ومعارضة مدنية نشطة ومؤسسة عسكرية تحمي الأوطان وتبتعد عن السياسة……وكان إقليم واد الذهب مايزال جزءا من ترابها الوطني فيمنحها قوة بشرية واقتصادية وجيوسياسية مضافة ويعطيها ذلك دورا أكبر في البحث عن حل جاد للنزاع ….
ما كانت موريتانيا لتحتاج وصفة “لابول” القادمة من بعيد بل كانت تجربتها السياسية ستكون بلغت من النضج ما يجعل منها نموذجا للتشارك والتناوب…..
لقد خسرنا تجربة سياسية وخسرنا منظومة حكامة ونظام حكم عفَّ رئيسه عن المال العام وعفَّت عنه طواقم حكمه وعفُّوا جميعا عن مناقص المروءة، فانقلاب العاشر يوليو انقلاب على حلم ومشروع مجتمعي لم يكتمل لكنه كان قد أخذ طريقه ولو لم يكن هذا الإنقلاب ما كان انقلاب الثامن من يونيو 2003…..
الثامن من يونيو ثاني محاولة إنقلابية دموية تفشل في الوصول للسلطة، فقد سبقتها محاولة السادس عشر مارس والسبب الأبرز في فشل هتين المحاولتين ودمويتهما أنهما كانتا إلى حد كبير مرتجلتين وافتقدتا الكثير من أسباب النجاح واستحصلتا الكثير من أسباب الفشل…..
لا يجمع خيط فكري ناظم بين المشاركين في محاولة الثامن يونيو وليس من بينهم قادة وحدات قتالية وليس من بينهم قادة في الأركان ولم يكن لهم برنامج سياسي محدد رغم أن من بينهم كفاءات لا شك في أهليتها الثقافية والسياسية وفطنتها وذكائها لكنها جميعها ليست في مراكز قيادية كبيرة تقدر أن تحرك وحدات قتالية من مختلف صنوف الجيش……فما الذي دفع بهؤلاء لمحاولة الإنقلاب على النظام ؟ وما الذي جمع بين عناصر لها خلفية ناصريه وعناصر لها خلفية إخوانية ليشتركوا في عمل عسكري مسلح غير مدروس ؟ وأي برنامج سياسي قد يتخيله المرء من خلطة ناصريه-إخوانية !!! وأي احتقان كبير قد يكون دفع بهؤلاء للمخاطرة في محاولة غير مأمونة ؟
جاءت المحاولة بعد ما يزيد عن عقد على بدء مسلسل ديمقراطي، غير مقنع يقينا ، ولكنه باعث للأمل ويتحسن وكل تغيير له بالقوة يعني عودة للوراء البعيد…
لا يحمل “فرسان التغيير” مشروعا سياسيا غير سعيهم لتغيير النظام وبعضهم ناقم على شخص الرئيس ، له معه حساب يود أن يصفيه والبعض الآخر ضباط من رتب رائد لنقيب لملازم فكيف يمكن لهؤلاء تغيير حكم يرسخ أركانه منذ عشرين عاما وهل حسب الإنقلابيون حسابا لاحتمالات الفشل ؟
حين فشلت المحاولة وتبين غياب جناح سياسي لها وتبين انخراط قوي لمجموعات قبلية بعينها انفجر الشحن القبلي واستشاط النظام غضبا على تلك المجموعات وقام بتصفية ممنهجه للكثير من أطرها العسكرية والمدنية فعادت القبلية في أبشع صورها وعادت الدولة لمربع كان الحكم المدني قد انتشلها منه منذ عقود !!!!
فشل انقلاب الثامن من يونيو ولكن فشله كان هو السبب في نجاح المحاولة الموالية التي أطاحت بحكم الرئيس معاوية فلم يكن الذين أنقذوا حكمه بدافع حبهم له وإنما بدافع الخوف من المجهول القادم ولم يمض وقت طويل حتى دبروا أمرهم فانقضوا عليه….
أحيت هذه المحاولة ثقافة تغيير النظام بالقوة المسلحة- كانت آخر محاولة دموية لقلب النظام وقعت عام 81 – وأعادت موريتانيا لعصر الإنقلابات بعد أن شهدت استقرارا مؤسسيا دام ما يقارب عقدين من الزمن فتفتحت شهية العسكر للوصول للسلطة وكان انقلاب 2005 ثم تجربة ديمقراطية قصيرة تلاها انقلاب عسكري على حلم آخر تبدد ولما يبلغ سن الفطام….
الرئيس معاوية و المرحوم سيدي الشيخ عبد الله رجلا دولة ولم يكن الإنقلاب عليهما حاجة وطنية ملحة فقد كان بالإمكان أن يكون كلاهما جزءا من تناوب سلس على السلطة يرعاه بنفسه ، فقد استجاب معاوية للكثير من مطالب المعارضة في موضوع الحالة المدنية واللوائح الإنتخابية وما كان المرحوم سيدي الشيخ عبد الله ليقف أمام إصلاحات مؤسسية تنهض بدولة هو أحد قادة حكم التأسيس فيها…..
لقد عطل انقلاب العاشر يوليو مشروع تأسيس نظام حكامة في خدمة الناس وعطلت محاولة الثامن من يونيو مشروع إبعاد الجيش عن السلطة وفي الحالتين فالبلد هو الضحية، فأي تغيير مستقر هادئ ولو بطيء خير من أية محاولة عُنفية مهما كانت نتائجها…..والجيش موقعه الثكنات والحدود وهو أسمى من أن يدخل في شغب البيت الداخلي وخير وصف له ما ذهبت إليه الجمهورية الفرنسية الثالثة أنه “الصامت الكبير” لا يدخل في صراعات الناس ويحمي كل الناس…