ترف المثقف وقضايا الأمة/أحمد الشيخ
انشغل بعض كتّاب المقالات والمثقفين العرب بالحديث عن تأثير ما ينتهجه الرئيس الأميركي من سياسات اقتصادية وتوجّهات سياسية تمسّ بالنظام العالمي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتهدد بدخول العالم في ركود اقتصادي مدمر ومؤلم.
حذر أولئك من أن ما يحدث وما يقوم به الرئيس الأميركي ترامب يهدد بليبرالية متوحشة، كما قالوا، تحل محل الليبرالية الرأسمالية المعتدلة الديمقراطية، التي سادت منذ عقود عديدة، لصالح المليارديرات من الأغنياء وأصحاب شركات التكنولوجيا والخدمات الرقمية الذين يمتلك الواحد منهم ثروة تفوق ثروة أمم بكاملها. ومنهم من ذهب للخوض في تأثير هذه السياسات على العالم العربي.
ليس لديّ ما يحرّم على أي كان أن يكتب عما يريد، لكنْ، ثمة شجون يثيرها الخوض المتزايد لأولئك المثقفين، عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في مثل هذه القضايا تحليلًا ووصفًا تاريخيًا وفلسفيًا، وكأنها أصبحت قضايا محورية، تهمّ المواطن العربي من عامة الناس أكثر من أي قضية أخرى من قضاياه الشائكة، التي تكاد تخنقه كلما طلع عليه نهار.
لا أريد أن أدخل في معمعة التمييز بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية كنهج رأسمالي ظل سائدًا منذ أن وضع “آدم سميث” سياسته الاقتصادية الشهيرة بقوله “دعه يمر دعه يعمل”، إلى أن جاء “جون مينارد كينز” بعد الكساد العظيم في بداية ثلاثينيات القرن الماضي وطرح نظريات اقتصادية جديدة.
لا أريد أن أخوض في عواقب نهج الحماية الاقتصادية الذي أقدم عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بأسلوب زعماء المافيا، كما قالت مجلة الإيكونوميست البريطانية، عندما أعلن عن فرض تعريفات جمركية على 185 دولة.
ما أريد قوله هو: فليحدث لليبرالية، يا سادة، ما يحدث، نتيجة ما قام به ترامب، ولتتحول إلى ليبرالية متوحشة، وإن كنت أعتقد أنها توحشت قبل اليوم، كما تحولت الرأسمالية الغربية إلى رأسمالية متوحشة منذ زمن طويل.
ثم لماذا ينبغي للمواطن العربي أن يقلق من مصير الليبرالية سواء بمفهومها السياسي القيمي المتصل بالحرية كقيمة عليا، أو بمفهومها الاقتصادي المتصل بحرية العمل، والتداول، والإنتاج والسوق؟ وهي ليست، كما يزعم الكاتب، من مفردات واقعه في الحاضر، ولم تكن كذلك خلال قرنين من القهر والذل عاشهما؛ ذل على يد الإمبريالية الاستعمارية، وآخر على يد كيانات نُصّبت على شعوبنا لتحكمه بالحديد والنار.
إذن أين هي “الحرية” التي ينبغي للعربي أن يخشى أن يفقدها، وهي غير موجودة؟ وأين هي الاقتصادات العربية الإنتاجية المتطورة ذات القدر المعقول من الاستقلال والكفاية؟ أوَ لا تزال أقوى اقتصادات دولنا اقتصادات ريعية تعتمد على ما يستخرج من باطن الأرض، مع أننا نحمد الله على ما أفاء به على أصحابها، ومن استفادوا منها من نِعَم؟
أو ليست بقية اقتصاداتنا العربية هشّة لا هي ريعية ولا هي إنتاجية؟ أو لم تتحول معظم الدول العربية إلى دول متسولة مدينة لا تملك قرارها ولا تتحكم بمصيرها؟ ثم هناك من يخشى من تحول الليبرالية السياسية إلى فاشية قادمة، على حساب الديمقراطية الحقيقية من حيث هي الأداة الأفضل لتداول السلطة والمشاركة الشعبية في تقرير المصير. فمنذ متى حُكمت بلداننا بنهج ديمقراطي حقيقي يقترب، ولو بمقدار ضئيل، من النهج الديمقراطي الغربي من حيث تداول السلطة؟
أو لا يتجاوز الواقع السياسي وواقع الحريات في بعض بلداننا أسوأ فصول الفاشية؟ وإذا كان هناك من يخشى أن تتحول الرأسمالية الليبرالية إلى رأسمالية قاسية متوحشة فليراجع تاريخ حركة ما اتفق على تسميته بالنهضة الأوروبية الغربية.
صحيح أنّ بعض فصول تلك النهضة الفكرية والثقافية والعلمية انبثقت من عقول عبقرية لا يستطيع أحد أن ينكر دورها وفعلها، ولكن ألم تصاحبها حركة إمبريالية استعمارية شرقًا وغربًا تواطأت معها بعض العقول الثقافية والفكرية المبدعة في أوروبا؟
ها هي أفريقيا تعاني حتى اليوم بعد أن استعبدت شعوبها وبيع الملايين منهم في سوق النخاسة ونهبت خيراتها. وكذلك شعوب كثيرة في آسيا شرقها وغربها، ولعل الدور الذي لعبته شركة الهند الشرقية خير دليل على ذلك. وأما العالم الجديد بقارتيه الشمالية والجنوبية، وبقارة أستراليا فقد ارتكبت فيه الثقافة الرأسمالية الغربية أفظع جرائم الإبادة الجماعية التي أفنت أكثر من مئة مليون من السكان الأصليين.
أما في وطننا العربي فما زالت الإمبريالية الغربية تفعل بنا الأفاعيل وهي تحمي إسرائيل أداتها الكولونيالية الإحلالية، وإن كانت تخلت عن الاستعمار المباشر في أماكن أخرى من العالم فإنها ما تزال تمارسه عندنا.
إذن فلماذا يخشى كاتب مثقف عربي من عواقب سياسات الرئيس الأميركي على الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية المعتدلة في الوطن العربي؟! لماذا ينبغي لي أن أخاف مما هو غير موجود؟ فلتتوحش الليبرالية ولتتوحش الرأسمالية الليبرالية منها وغيرها، فليس الحديث عنها ولا مطالعتها من أولويات مواطن عربي (فلسطيني يُقتل أهله كل دقيقة).
وإني لأعجب لمن يرى أهوال غزة وفلسطين ثم يسحب يراعه ليتحفنا بتحليل عن مآلات ومستقبل الليبرالية والديمقراطية. أوَ ليس من الأجدى أن يكرس الكاتب فكره لطرح القضايا التي تقضّ مضاجعنا، يا سادة، وما أكثرها وما أوجعها. قولوا لنا كيف يمكن لأمة استبيحت كرامتها أن تستعيد حريتها المستباحة في داخل أوطانها. قولوا لنا لماذا آلت ثورات الربيع العربي إلى ما آلت إليه، ولماذا قتل الألوف في الساحات والميادين وتربع القاتل آمنًا فوق أشلاء المواطن والوطن.
قولوا لنا لماذا أصبحت الغلبة للثورة المضادة وعساكرها يلاحقون أنفاس الناس وأحلامهم وأرزاقهم.
قولوا لنا لماذا نفشل في الحرب وفي السلم وفي التنمية وفي التعليم ونتخلف وراء الدنيا بأسرها منذ دهور.
قولوا لنا كيف يمكن لنا مثل بقية الأمم الحرة أن نشفى من داء الاستبداد المزمن على كراسي الحكم في ديارنا، وأن نصبح أحرارًا من دون أن ندمر السلم الأهلي ونسفك الدماء.
قولوا لنا كيف نحيي في قلوبنا وعقولنا الشعور والإدراك بأننا أمة واحدة قطب حتى نستعيد هويتنا المغيبة. ليس هذا والله أيها السادة زمن الترف الفكري، بل هو زمن البحث الجاد عن الحقيقة وعن الدواء.