ازدواجية التمييز الإعلامي والسياسي بين الضحايا (الجزء السادس من الورقة الكاشفة)/ الاستاذ محمد الامين الفاظل

لا خلاف على أن هناك بقايا عنصرية تقليدية تُمارس في بلادنا، إن جاز استخدام هذه العبارة، وهي عنصرية في تراجع كبير ولله الحمد، وتجد دائما من يتحدث عنها إعلاميا وسياسيا وحقوقيا، بل إنها تجد دائما من يبالغ كثيرا، بل يُغالط، عند الحديث عنها، وهو ما أوضحته هذه الورقة الكاشفة. لكن في المقابل، هناك عنصرية أخرى وتمييز بين الضحايا من نوع آخر مسكوتٌ عنه، ولا يجد من يدينه، بل لا يجد من يتحدث عنه أصلا.
نعم هناك تمييز سياسي وإعلامي وحقوقي بين الضحايا مسكوتٌ عنه، ولا أحد يتجرأ للحديث عنه، فهناك ضحايا يجدون تضامنا إعلاميا وسياسيا وحقوقيا كبيرا، بل إن واجب التضامن معهم يجيز للبعض استخدام كل وسائل التلفيق والتضليل، وهناك ـ في المقايل ـ ضحايا آخرون لا يجدون الحد الأدنى من التضامن الإعلامي أو السياسي أو الحقوقي.
ولفهم ما أريد قوله تحت هذا العنوان الفرعي من الورقة الكاشفة، فسأقدم لكم بعض الحالات المحددة كأمثلة عن التمييز الإعلامي والسياسي والحقوقي بين الضحايا، مع العلم أن بعض هذه الحالات كنتُ قد استعرضته في وقت سابق.
في يوم 16 مارس 2019 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني في وفاة شيخ طاعن في السن (80 عاما)، وكان ذلك في مقاطعة أنبيكت لحواش شرق البلاد.
بعد أقل من خمسة عشر شهرا من تلك الحادثة، وتحديدا في يوم 28 مايو 2020، تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني آخر في وفاة شاب موريتاني (35عاما)، وكان ذلك في مقاطعة أمبان جنوب البلاد.
دعونا نجري مقارنة سريعة بين هاتين الحادثتين الأليمتين:
من حيث التوقيت: حادثة أمبان وقعت ليلا (الساعة التاسعة)، وفي فترة حظر تجوال شامل بسبب جائحة كورونا، أما حادثة انبيكت لحواش فقد وقعت ضُحًى، وفي فترة لا يوجد فيها أي حظر تجوال من أي نوع.
في حادثة أمبان كان الأمر يتعلق بمطاردة مجموعة من المهربين، وفي حادثة انبيكت لحواش كان الأمر يتعلق بشيخ أعزل يبحث عن قطيع سائم، وإن شئتم قطيع سائب.
وبخصوص الأجواء السياسية، فإن حادثة أنبيكت لحواش وقعت في فترة تجاذب وصدام قوي بين المعارضة والنظام، وهو ما يفترض أن المعارضة لن تترك فرصة يمكن أن تنتقد فيها السلطة، وتدين فعلا من أفعالها، إلا واستغلتها. أما حادثة أمبان فقد وقعت في ظل تهدئة سياسية غير مسبوقة بين المعارضة والنظام، لم يعرف البلد مثيلا لها منذ عقود، وهو ما يفترض أن المعارضة ستتغاضى عن أخطاء السلطة وتتجاهلها، كلما كان ذلك ممكنا.
ومع ذلك، فقد حدث العكس تماما، فالتغطية الإعلامية لحادثة أنبيكت لحواش كانت شبه معدومة تماما، ولم يصدر على الإطلاق ـ وأكررـ لم يصدر على الإطلاق أي بيان من أي حزب سياسي معارض أو غير معارض يندد بالحادثة، ولم تتحدث عنها أي منظمة مجتمع مدني، حتى ولو كانت من منظمات الحقائب، ولذا فقد فمرت تلك الحادثة وكأن شيئا لم يكن، ولولا ذوي الضحية لما علمنا بها أصلا. أما في حادثة أمبان فكانت التغطية الإعلامية واسعة، وتسابقت الأحزاب السياسية إلى إصدار بيانات تنديد قوية، وكان من بين الأحزاب التي أصدرت بيانات تنديد بعد ساعات قليلة من وقوع الحادثة : تواصل ـ اتحاد قوى التقدم ـ التكتل ـ إيناد..إلخ
ولم يتوقف الأمر على الأحزاب السياسية، بل إن بعض الشخصيات الوطنية التي لم تكن تنتمي إلى أحزاب في ذلك الوقت، أصدرت هي الأخرى بيانات تنديد بأسمائها الشخصية، فأصدر الراحل محمد المصطفى بدر الدين رحمه الله تعالى بيان تنديد باسمه، وأصدر المثقف الموريتاني الكبير بدي ولد أبنو المرابطي بيانا مطولا باسمه، وعبر كثيرون عن تنديدهم القوي بالحادثة من خلال آلاف المنشورات في الفيسبوك.
لم يقتصر التنديد بتلك الحادثة، التي صُنفت وبشكل تلقائي، على أنها من ضمن جرائم الجيش الكثيرة التي يرتكبها ضد الموريتانيين السود، لم يقتصر على الداخل الموريتاني، بل إنه تجاوز الحدود، وسمعنا خطابات تنتقد موريتانيا بقوة بسبب تلك الحادثة، وتتهمها بممارسة أبشع أشكال العنصرية والتصفية العرقية ضد السود، سمعنا ذلك من منابر حقوقية في العاصمة السويسرية جنيف، وسمعناه من عواصم دول غربية أخرى.
ولكم أن تسألوا بأي منطق تتم إدانة إطلاق جندي للرصاص ليلا على شاب موريتاني كان يمارس التهريب في فترة حظر تجوال شاملة، ولا تتم إدانة إطلاق جندي آخر للرصاص على شيخ موريتاني في وضح النهار، كان يبحث عن قطيع سائم؟!!
وهذا مثال آخر: في الحادي عشر من يوليو من العام 2020 تعرض منزل “صمبا تام” لمحاولة عملية سرقة فاشلة، تركت آثارا عادية جدا في الجزء الخارجي من المنزل، وكانت أضرارها شبه معدومة، حسب الصور التي نشرت عن الحادثة. جاءت محاولة السرقة الفاشلة هذه، بعد عمليات سرقة ناجحة كان ضحاياها سياسيون آخرون من بينهم النائب المعارض محمد الأمين سيدي مولود، ولم يفكر أي واحد من هؤلاء في إخراج عملية السرقة عن إطارها العادي لإعطائها بُعدا سياسيا.
أحدثت عملية السرقة الفاشلة التي تعرض لها منزل صمبا تام حالة استنفار إعلامي وسياسي وحقوقي في بعض الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية، وتم إعطاؤها بُعدا عنصريا، وصُنُّفت في بعض بيانات التضامن على أنها عمل مدبر من أجل “تخويف وتهديد” السيد صمبا تام.
بعد الحادثة بيومين، وتحديدا في يوم الاثنين الموافق 13 يوليو 2020 أصدر
“التحالف من أجل إعادة تأسيس الدولة الموريتانية” بيانا شديد اللهجة دعا فيه إلى تسريع البحث عن المعتدين على منزل السيد صمبا تام، وحذَّر فيه من تداعيات هذا الحادث “على السلام والتماسك الاجتماعي في بلد يُعاني من صدمات الماضي ومن تهور في الحاضر”. تضامنت بعض جالياتنا في الخارج مع السيد صمبا تام، وبدا واضحا أن هناك محاولة جادة لتسييس عملية السرقة الفاشلة هذه، وتصنيفها في إطار أعمال العنصرية والاضطهاد التي تمارس ضد بعض الموريتانيين، لتُضاف بعد ذلك إلى كم كبير من المغالطات التي تحاول أن تلصق تهمة العنصرية والاضطهاد بالجمهورية الإسلامية الموريتانية (حكومة وشعبا).
وهذا مثالٌ ثالثٌ وأخير عن ازدواجية التمييز بين الضحايا سأكتفي به، رغم وجود أمثلة عديدة أخرى.
الدكتورة آمنة بوبكر جوب، والدكتورة مروة محمد الأمين سيف، طبيبتان موريتانيتان، شاركتا في مسابقة نظمتها وزارة الصحة، جمعت 60 طبيبا، وظهرت نتائجها النهائية في الأسبوع الثاني من شهر يناير من العام 2023.
لم ينجح من تخصص الطبيبتين أي متسابق، وقد حصلت كل واحدة منهما على نتيجة جيدة في مادة التخصص، ونتيجة متدنية جدا في مادة الثقافة العامة، والتي كانت أسئلتها بسيطة جدا، ولكنها طُرحت بغير لغة التخصص، فبالنسبة لآمنة فكانت أسئلة الثقافة العامة باللغة العربية، وبالنسبة لمروة فكانت أسئلة الثقافة العامة باللغة الفرنسية.
حصلت مروة على معدل 13.4، وتفوقت قليلا على أمنة التي حصلت على معدل 13.2. أما بخصوص التضامن فقد حظيت الطبيبة آمنة بوبكر جوب بحملة تضامن واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك من تضامن معها على أساس أنها من مكونة وطنية تتعرض للعنصرية والإقصاء، وهناك من تضامن معها لأن لديه مشكلة ما مع اللغة العربية التي تسببت في إقصائها، لقد كتب أخصائي الأعصاب الشهير أحمد سالم أكليب متضامنا مع الدكتورة آمنة: “العربية جديدة في امتحان الوظيفة العمومية، وسيأتي زمان يكون معها حفظ القرآن، وهذا كله من أجل إقصاء بعص الشرائح”!!!
كانت حملة التضامن مع الدكتورة آمنة واسعة جدا، وربما غير مسبوقة، حتى الحساب الذي يحمل اسم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، تضامن معها، وقد نُشِر فيه باسم الرئيس السابق: “أدين بشدة إقصاء الدكتورة آمنة بوبكر جوب بهذه الطريقة المشينة، كما أدين واشجب عجز السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية، وتهاونها بالحفاظ على اللحمة الوطنية، وعدم السهر على تساوي الفرص بين ابنائنا خصوصًا أنهم لا تقع عليهم مسؤولية ذلك”.
وفي المقابل، فلم يذكر ذاكر حالة الدكتورة مروة، ولم تجد هذه الدكتورة أي تضامن من أي نوع، على الرغم من تطابق حالتها مع حالة الدكتورة آمنة، وإن كانت هناك من فوارق في الحالتين، فهي لصالح مروة، ذلك أنها تفوقت قليلا في المسابقة على أمنة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن اللغة التي أقصتها هي لغة أجنبية، أما اللغة التي أقصت الدكتورة آمنة فلم تكن لغة أجنبية، وإنما كانت اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
كانت مشكلة الدكتورة مروة الأولى هي أنها تنحدر من مكونة وطنية تعاني اليوم من تمييز سلبي في مجال التضامن مع ضحاياها. أما مشكلتها الثانية فهي أن اللغة التي أقصتها هي لغة أجنبية تجد هي الأخرى تمييزا إيجابيا لصالحها على حساب اللغة الرسمية للبلد، وهو تمييز لا يمكن أن نجد له أي تفسير منطقي.
المهم أنه، وفي ظل استمرار حملة التضامن الواسعة مع الدكتورة آمنة، وبعد أن أصبح الجميع على قناعة بأن الدافع لإقصائها كان دافعا عنصريا بحتا، تفضل أحدهم مشكورا، ممن يغرد خارج السرب، بأن كشف لنا في منشور على الفيسبوك عن حالة الدكتورة مروة، والتي تتطابق تماما مع حالة الدكتورة آمنة، وإن كان هناك من فوارق بسيطة، فهي ـ وكما قلتُ سابقا ـ لصالح الدكتورة مروة.
لستُ بحاجة لأن أقول لكم بأن كل ما نُشِر عن “الإقصاء العنصري” للدكتورة آمنة، مازال موجودا على الانترنت، ولا أحد ممن قالوا بذلك الإقصاء العنصري اعتذروا عن قولهم ذاك، أو صححوه بعد ظهور حالة الدكتورة مروة، ومما لا شك فيه أن هذا “الأقصاء العنصري” القائم على مغالطة بَيِّنة، سينضاف إلى ما سبقه، وإلى ما سيأتي بعده من مغالطات يتم توثيقها على الانترنت على أنها حقائق مؤكدة، وهي مغالطات تسعى في مجملها إلى إلصاق تهم العنصرية والإقصاء والاضطهاد ببلدنا الصامد حتى الآن أمام هذا السيل العارم من المغالطات.
ويبقى السؤال: لماذا هذا التمييز الكبير والواضح والبيِّن في التضامن بين طبيبتين موريتانيتين تعرضتا للإقصاء من نفس المسابقة ولنفس الأسباب؟
لن أجيب على هذا السؤال، وسأترك لكم الحق في أن تختاروا الجواب الذي يناسبكم، ولكن أودُّ فقط أن أشير إلى أن ما يحصل من تمييز في التضامن، قد يحصل شيء مشابه له في مجال التنديد، فهناك أيضا تمييز سلبي في التنديد، ولذا فإن أعمال العنف المشينة التي تكررت مؤخرا في الجامعة، والتي تقف وراءها نقابة طلابية محددة، لم تجد ما تستحق من تنديد، خوفا من أن يُتهم المندد بالعنصرية، ولأني لا أخاف من تلك التهمة (وما فِيَّ لعظام منها)، فإني أشهدكم بأني أندد بشدة بأعمال العنف تلك، سواء منها ما صاحب الانتخابات الطلابية، أو ما كان بعد إفطار الرئيس في الجامعة.