تجدد العدوان على غزة… مجازر تعظم مأساة الأهالي المنكوبين

يفاقم تجدد العدوان الإسرائيلي الدموي مأساة أهالي قطاع غزة ويعمق جراحهم، بينما الغالبية العظمى منهم يعيشون أوضاعاً كارثية نتيجة إغلاق المعابر ومنع دخول الغذاء والدواء والوقود.

على أصوات الأحزمة النارية والانفجارات المتتالية المتزامنة، عاشت مدن قطاع غزة، فجر الثلاثاء، كسر الاحتلال الإسرائيلي اتفاق وقف إطلاق النار القائم منذ 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، ليبدأ مسلسلاً دموياً جديداً من الاستهدافات والمجازر التي خلفت مئات الشهداء والمصابين في مناطق مختلفة من القطاع.

امتلأت مستشفيات غزة بالمصابين الذين افترش بعضهم الممرات، وتراصت جثامين الشهداء وتكدست بثلاجات الموتى، وغالبيتهم من النساء والأطفال، وإلى جانبها جلس الناجون بدموعهم وحسراتهم، لتعود مشاهد وداع وتشييع الجثامين إلى ساحات المستشفيات.

استقبلت المستشفيات مئات المصابين الذين يتوافدون على مدار الساعة، كما تستقبل الشهداء الذين فاق عددهم 412 شهيداً، فيما العدد مرشح للزيادة خلال الساعات القادمة نتيجة الإمكانيات الضعيفة وغياب المستلزمات الطبية وندرة غرف العناية المكثفة التي لا يزيد عددها عن أربع غرف في كل مستشفيات مدينة غزة وشمالي القطاع.

ورغم حالة التوتر التي سادت خلال الأسبوعين الأخيرين مع استمرار خرق الاحتلال المتكرر لاتفاق وقف إطلاق النار، كانت آمال أهالي غزة منصبة على أن تحمل المفاوضات أخباراً جيدة تثبّت الاتفاق، قبل أن يبدد القصف الدموي تلك الآمال، ويعيد غزة إلى مشاهد الأيام الأولى من الحرب، مع أوامر إخلاء نشرها الاحتلال لبلدة بيت حانون (شمال)، والبلدات الشرقية لمحافظة خانيونس (جنوب).

تعرضت مدرسة التابعين بمدينة غزة لاستهداف مباشر طاول الطابق الرابع، وخلف قرابة 27 شهيداً، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وهم غالبية النازحين إلى المدرسة التي تعرضت لمجزرة سابقة في العاشر من أغسطس/ آب 2024، راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد أثناء صلاة الفجر.

خلّف القصف دماراً واسعاً في المدرسة التي ملأ الركام ساحتها، وفي إحدى زواياها تظهر أشلاء ودماء على الجدار، وبقايا ملابس شهداء داخل الفصول الدراسية. في الطابق المستهدف، صور شاب فلسطيني مقاطع فيديو أثناء إسعاف مصابين وانتشال شهداء من تحت الركام، وتظهر فيها أشلاء ممزقة، وشبان يقومون بانتشال أطفال ونساء، وصراخ ينبعث من الفصول، وغبار كثيف ناتج عن القصف.

ويروي الشاب لـ”العربي الجديد”: “استيقظنا في الساعة الثانية فجراً على أصوات القصف، ففتحنا النوافذ لرؤية الانفجارات، وفجأة شاهدنا كتلة لهب كبيرة بعد الانفجار الضخم الذي هز المكان، وبعد دقائق شاهدت الجثامين ملقاة على الأرض، وكانت أربعة فصول مفتوحة بعضها على بعض نتيجة القصف وضغط الانفجار، واستشهد البعض بعد القفز إلى الساحة هرباً من القصف، وأحد الشهداء طار جسده وسقط في ساحة المدرسة”.

يتابع: “سقط أحد الصواريخ على فصل بالطابق الثالث، ما أدى لاستشهاد ثمانية أفراد من عائلة الجندي، وواجهنا صعوبات في انتشالهم نتيجة تراكم الردم على مدخل الفصل، كما استشهدت عائلات بالكامل، من بينها عائلة قوتة (أربعة أفراد)، وعائلة الغفري (3 أفراد)، وعائلة الجندي. سادت بعد القصف حالة من الخوف والبكاء والصراخ، وكان الجميع يحاولون النجاة، وقرر البعض مغادرة المدرسة خشية تكرار القصف، وعملت مع مجموعة من الشبان على انتشال جثامين شهداء وأعداد من المصابين، وضعناهم أمام بوابة المدرسة بانتظار وصول الإسعاف وطواقم الدفاع المدني التي تأخرت نتيجة عدم وجود سيارات أو عدم توفر الوقود”.

في فصل مجاور، تتناثر ملابس أطفال مزقها القصف، ومقتنيات شهداء، وبعض المعلبات، وأكياس تمر مكتوب عليها “صدقة جارية عن روح الشهيدين أحمد رجب شعبان قوتة، ومحمد نعيم مزين شعبان”، وكانت عائلة الشهيدين تجهز تلك الأكياس الصغيرة التي تضم حبات من التمر لإفطار الصائمين.

ونتيجة القصف، استشهد محمد شعبان قوتة (سنة)، وشقيقته ميرنا (11 سنة)، ووالدتهما نورا (35 سنة)، كما استشهدت شقيقتهم فرح (19 سنة)، والتي استشهد زوجها محمد نعيم شعبان برفقة والدها أحمد قوتة. في المكان، كان ابن عمهم محمد قوتة يبحث عن بعض الأغراض والمقتنيات المهمة للعائلة كالهواتف، ويقول لـ”العربي الجديد”: “كانت العائلة مستيقظة قبل القصف لأنها كانت تستعد لوجبة السحور، وكنت أرى الأطفال سعداء، ويلعبون كرة القدم. رامز (16 سنة)، هو الناجي الوحيد، ونقلناه مصاباً بكسور عديدة، وهو يستعد لإجراء عملية جراحية”.

على أحد أدراج المدرسة، يجلس الطفل محمد مهاني (13 سنة)، بملابس مغبرة، وعلى وجهه ملامح الصدمة بينما يراقب الدمار الذي لحق بالمبنى. قبل القصف، كان محمد يستعد للمشاركة في دوري كرة القدم بساحة المدرسة، ولم يكن يدري أن والده نقل إلى المستشفى بحالة خطرة.

يقول الطفل مهاني لـ”العربي الجديد”: “عندما حدث الانفجار قال لي والدي: شكلها الحرب رجعت، وبعدها تعرضنا للاستهداف. طرت إلى منطقة أخرى وارتطمت بالجدار، ثم خرجت إلى الممر أصرخ على الجيران طالباً المساعدة. كانت هناك حالة هدوء قبل الاستهداف، ونمت عند الساعة العاشرة، إذ كنت أستعد للمشاركة في دوري كرة القدم بساحة المدرسة، لكن كل شيء تغير تماماً”.

في الطابق الثالث، وإلى جانب الفصل الذي استشهدت فيه عائلة الجندي، تقف أم هاني أبو عصر مع أربع نساء، وكلهن فقدن أزواجهن في المجزرة الأولى، تقول لـ”العربي الجديد”: “ماذا يريدون منا؟ قتلوا أزواجنا، وأصبح أكثر سكان المدرسة من الأرامل والأيتام. استشهد زوجي عاهد أبو عصر مع ابني حسن (12 سنة)، وهؤلاء النسوة أيضاً فقدن أزواجهن، كنا نريد استكمال الحياة رغم الفقد والوجع، لا أن يضاف إلينا وجع جديد وهموم أخرى”.

وتضيف أبو عصر: “استيقظنا على صوت الانفجار، فوجدنا النار مشتعلة في الفصل المجاور، وعائلات كاملة استشهدت، من بينها عائلة أبو طلال الجندي، ولم ينجُ منهم سوى فتاة اسمها غزل”. في الشارع المقابل لأحد مخازن وكالة “أونروا” في مدينة غزة، والذي كان خلال الأيام الماضية يسلم الأهالي أكياس دقيق، يبحث عادل شعبان (60 سنة)، عن بعض الدقيق وعدد من علب الجبنة، لكنه لا يجد شيئاً نتيجة نفادها مع إقبال الأهالي الكبير على شرائها.

ويقول لـ”العربي الجديد”: “في يوم واحد انقلبت الدنيا، فالبصل ارتفع سعر الكيلوغرام منه من عشرة شواقل إلى 40 شيقلاً، وهذا الحال ينطبق على العديد من الأصناف، واختفت معلبات الجبنة من الأسواق. كنت أريد شراء بعض السلع اللازمة للصيام في حال تفاقمت الأزمة، لكني لم أجد شيئاً. لا يوجد لدينا طحين، وكنت أشتري ربطة خبز يومياً من المخابز، وكنا ننتظر أن تصل الأمور إلى حل بسبب المفاوضات الجارية، ولم نتوقع أن نعيش هجوماً دامياً. نتخوف من القادم، فالصورة أصبحت سوداء أمامنا، وأصبحنا نخشى من التهجير الذي كان يروج له الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبعدما كنا نعتقد أن المجاعة هي وسيلة الضغط الوحيدة علينا، يبدو أن عودة الحرب والمجازر والقتل ستكون الوسيلة الأهم”.

في بيت حانون، شمالاً، كان الأهالي يحاولون إصلاح أجزاء من بيوتهم المدمرة، أو نصب خيام على أنقاضها، أو إنشاء مخيمات إيواء، قبل أن تتلقى البلدة مع المناطق الشرقية من مدينة خانيونس في الجنوب أوامر إخلاء، ليبدأ السكان مسلسلاً جديداً من النزوح والتشرد.

قبل أسبوعين فقط، عاد عرفات حمد وإخوته إلى بيت حانون من رحلة نزوح طويلة في منطقة المواصي (جنوب)، ووجد الأشقاء الخمسة طابقين من المنزل لم يطاولهما الدمار، فسكن كل واحد منهم مع عائلته في غرفة واحدة، وانهمكوا في إصلاح النوافذ والأبواب، وإنشاء دورات مياه، ثم فوجئ الجميع بالقصف الدامي الذي تبعته أوامر إخلاء.

يقول حمد لـ”العربي الجديد”: “الأمر صادم، والأطفال عاشوا لحظات مرعبة خلال القصف. تخيل أنك دفعت مبلغاً كبيراً للعودة إلى منزلك في شمالي القطاع، والاجتماع مع الأهل على أنقاض البيت المدمر، والعيش في ما تبقى منه من شقق، ليعيدك الاحتلال إلى المربع الأول، وكأننا نعيش الحرب في يومها الأول”.

خلال رحلة نزوحه، تنقل حمد بين عدد من مناطق جنوبي القطاع، وبدأت هواجس تلك الرحلة القاسية تلاحق أفكاره مجدداً. يضيف: “لا نعرف ماذا نفعل، ولا إلى أين نذهب، كما نخشى أن نبقى هنا ونتعرض لاجتياح بري أو حصار، وقد رأينا سابقاً كيف كان الاحتلال يجرد الشبان من ملابسهم قبل اعتقالهم، أو يعدمهم ميدانياً”.