السابع من أكتوبر أعاد الحياة لفلسطين/الدكتور محمد ولد الراظي
بعد أن بلغت العالمية في الستينات والسبعينات تراجعت القضية الفلسطينية تراجعا مخيفا في العشريات الماضية ولم تعد تهم أحدا غير أهل فلسطين، فقد أدار لها النظام الرسمي العربي ظهره ففقدت ما كان لها من سند تستحصل به الدعم من دول العالم ولم تعد شأنا عربيا حتى على المستوى الشعبي، فالوجع الفلسطيني لم يعد يستفز شاعرية الشعراء ولم يعد يستهوي سادة الغناء وأساطينه؛ فالجمهور المتلقي للشعر الملتزم والموسيقى الثائرة المقاومة قد مات ولم تعد محنة بيت المقدس تستنفر الفتيا ولم يعد تدنيسه يثير الروح الجهادي ، فقد ضل الجميع طريق الحق أو تركوه وانشغل البعض بالبعض، كل يفتي ويخطب من أجل قتل أخيه وشيطنته وتفسيقه وتكفيره والعدو يلهو وأصبح الرأي العام العربي والإسلامي بيد الحاكم وحاكم هذا الزمان مفعول به في كل البلدان ، مأمور مطواع……
يعود الفضل في هذه العالمية التي وصلتها الفلسطينية لأنظمة الحكم العربية عموما والثورية على وجه الخصوص في مصر والعراق وسوريا وليبيا و الجزائر واليمن و مشيخات عربية كان بها نفس عروبي إسلامي قوي وبها نخوة وحمية حين كان الشيخ زايد في الإمارات وحين كان فيصل في السعودية….
كانت هذه الأنظمة تشترط إدراج الموضوع الفلسطيني في سجل علاقاتها مع دول العالم فانتزعت “تعاطف” غالبية الدول الكبرى مقابل منافع اقتصادية وتجارية وسياسية وسهل اتساع هذا التعاطف أن العلاقات الدولية تحكمها ضوابط “ثنائية قطبية” يتنافس طرفاها على استرضاء وكسب ود الدول العربية ذات التأثير القوي في سوق الطاقة العالمي.
لكن هذه العالمية “الحكومية” ليس لها سند شعبي يحميها داخل المجتمعات الغربية ويضمن استمرارها حين تتغير بوصلة اهتمامات الدول العربية ذات التأثير الكبير ، فقد عجزت هذه الدول وعجز الفلسطينيون معها عن اختراق الحواضن المجتمعية للصهيونية في الغرب وظل القبول العالمي الرسمي بهذا الحق مرهونا بالمواقف العربية الضاغطة وحين تبدلت الأرض العربية غير الأرض تراجعت غالبية دول العالم المؤثرة عن دعم الحق الفلسطيني بل إن دولا كثيرة لها وزن عالمي كبير غيرت موقفها أو عبرت عنه باستحياء كبير لا يحدث أي أثر مراعاة لمصالحها التجارية والاقتصادية مع بلدان عربية كانت مشاركة من قبلُ في كسر شوكة الأنظمة الممانعة في المنطقة وترغب اليوم في كسر شوكة المقاومة الفلسطينية والعربية عموما والغزاوية على وجه الخصوص لحسابات داخلية وإقليمية بالنسبة للبعض و لتذليل الصعاب أمام “دين ابراهيم” بالنسبة للبعض الآخر و”الدين الابراهيمي” يحتاج ابتداء تصفية القضية الفلسطينية…..فما الذي كان سيحول دون هذه التصفية غير عمل مزلزل للداخل الصهيوني لا يتوقع توقيته ولا يتخيل قوته ؟ وهل كان من بديل متاح غير أن يبري “الغزيون” سكاكينهم في وجه الاستيطان الصهيوني ؟ وهل من شعب واحد من بين شعوب الأرض كلها نال حريته من دون تضحيات ؟
حروب التحرير ليست حروب مواقع يتواجه فيها جيشان بل مواجهة بين قدرة المحتل على الصبر في تحمل الأذى وقدرة المقاومة على تحمل التضحيات…..
خسرت غزة الكثير وعاشت نكبة لسنتين متواصلتين لكن هذا الطوفان حرك كل شيء في المنطقة والعالم وأصاب إسرائيل بوجع كبير وخلق ذعرا مروعا لدى الجميع إن هو أعقبه طوفان مماثل في الضفة الغربية ضعف القطاع خمسة عشر مرة من حيث المساحة بحدود مائية وبرية طويلة مع الأردن حيث نصف السكان من الفلسطينيين والعرش من أقل العروش الملكية شرعية تاريخية……. أعاد السابع من اكتوبر القضية الفلسطينية للعالمية من جديد لكنها عالمية نشطة يسندها الرأي العام لا عالمية الحكومات ؛ فقد وقع في ظرف تاريخي مختلف تماما عن سبعينات وثمانينات القرن الماضي وتسعيناته ، فوسائل التواصل وإمكانات النقل الحي للأحداث عبر العالم لم تعد حصرا بيد إسرائيل ورعاتها فتراجعت قدرتها على حجب بشاعات أفعالها وتراجعت قدرتها على تلميع صورتها بين الناس….
انكشفت حقيقة الصهيونية أمام أجيال غربية فانقلب المزاج رأسا على عقب وتحولت الشعوب الغربية من حواضن رافدة للدعوة الصهيونية ومدافعة عن إسرائيل إلى بؤر تغص بملايين الشباب الثائر يغلي حنقا عليها و على المنظومة القانونية والسياسية التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية لحمايتها……
المتغير الآخر أن طوفان الأقصى حصل في فترة تحول كبير في العلاقات الدولية وموازين القوى الاقتصادية والمالية والعسكرية…..فالصين عام 45 محتلة والصين اليوم أكبر اقتصاد في العالم باحتساب “تعادل القدرة الشرائية” وأمريكا وحدها من يملك قنبلة نووية عام 45 واليوم تملك روسيا أكبر قوة نووية في العالم وتملك دول كثيرة هذا السلاح الذي كان حصرا بيد أمريكا حين فصلت نظام “بروتين وودس” والهند عام 45 محتلة واليوم رابع اقتصاد عالمي من حيث “تعادل القدرة الشرائية ” والدولار عام 45 سيد التبادلات ومخزونات القيمة في العالم واليوم عملة أمريكا…..
انتهت الحرب فاجتمع ممثلون عن فصائل الطوفان بممثلين عن سلطة الاحتلال وجها لوجه يتدبرون صيغة يتفقون عليها من دون أي وجود لسلطة رام الله ولا لغيرهم من الفلسطينيين، فالحاجة لوقف العمليات القتالية تبدو غاية مشتركة ويبدو أن الطرف الفلسطيني الحمساوي فرض نفسه على من ينكر عليه تمثيل القطاع من الدول العربية والغربية ومن سلطة رام الله وفرض نفسه على من كان يسعى لاستئصال شأفته ويعد بها من بين قادة اسرائيل وحلفائها ….
لم تهزم حماس فالمهزوم في الحروب لا يشترك في ترتيب ما يكون بعدها فقد انعقد اجتماع “يالطا” بحضور روسيا وأمريكا وابريطانيا ولم يحضر من يمثل ألمانيا….
وعدت إسرائيل بتهجير سكان غزة فلم يخرجوا منها وسيعودون لمناطقهم بموجب الاتفاق ووعدت بإعادة احتلال القطاع فتقرر أن تخرج منه وتعيد انتشارها خارجه….
فلم تنتصر اسرائيل في أي مما وعدت به وانتصرت في القتل والتدمير وكلما قتلت تخسر تعاطف حلفائها وتتسع خسارتها للرأي العام العالمي….
صحيح أن سكان غزة سيعودون لأماكن مدمرة كانت بها مساكنهم قائمة قبل السابع من أكتوبر وصحيح أن بعض الذين سيعودون من الأسرى لم يكونوا في قبضة المحتلين قبل السابع من أكتوبر وصحيح أن غزة دمرت بعد الطوفان وصحيح أن القطاع فقد عُشر سكانه بعد الطوفان لكن المتغير الكبير أن قضية فلسطين برمتها كانت في الرفوف لا يذكرها أحد والجميع يمكر بها لتموت……فأعاد لها الطوفان الحياة وهل كان لمثل هذا الأمر أن يكون من دون تضحيات !!!!!
فاز “الغزيون” في هذه الجولة فوزا لا مراء فيه ، صمدوا فانسد الأفق في وجه الصهائنة فازداد بطشهم وبشاعات فعلهم ، فازداد حنق الرأي العام العالمي عليهم وازدادت الضغوط على أمريكا من الداخل ومن الخارج فخافت على الكيان المهترئ فضغطت عليه من أجله فأوقفت الحرب……
أعاد “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية لعالميتها الأولى مدعومة هذه المرة بمزاج عالمي مختلف تماما حانق على إسرائيل نشط بقوة بفعل وسائل التواصل الاجتماعي وستحمل نتائج هذا الطوفان الحكومات العربية على مراجعة مواقفها فتعود لطريقها الصحيح على وقع المزاج العالمي المتغير فتجمع القضية بين عالمية حكومية وعالمية شعبية تحت عنوان جامع أن الصهيونية أبشع بكثير من النازية…..
رحم الله شهداء الأمتين العربية والإسلامية.