موريتانيا والتوترات الجيوسياسية في منطقة الساحل: التحدي والفرصة/ د.محمدعالي الهاشمي
في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الساحل الإفريقي، وما تشهده من تحولات أمنية وسياسية متسارعة، يُطرح سؤال ملحّ: كيف يمكن لموريتانيا أن تحافظ على توازنها الاستراتيجي وسط الإعصار؟
لقد أضاء الأستاذ إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا، في مداخلته العميقة ضمن صالون المدونين، جانبًا بالغ الأهمية من هذه الإشكالية، مقدّمًا تحليلًا ناضجًا يتجاوز الوصف إلى التشخيص، وينتقل من المعطيات إلى الاستراتيجيات. فقد لفت النظر إلى طبيعة التهديد المركّب في منطقة الساحل، مميزًا بين الصراع الإرهابي، والصراع القبلي، والصراع السياسي داخل دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ومؤكدًا على أن موريتانيا ليست في منأى من هذه الديناميكيات.
لقد قدّم الأستاذ إسماعيل تصورًا عميقًا حول تحديات الدولة الوطنية الهشة، وفشل النموذج الأمني التقليدي، والفراغ الجيوسياسي الذي تملأه الجماعات المتطرفة. وإنّ ما يلفت الانتباه في تحليله هو التوازن بين الواقعية الجيوسياسية، والوعي التاريخي، وبين التحذير من التهديد، والدعوة إلى استغلاله لبناء دور موريتاني أكثر فاعلية في المنطقة.
انطلاقًا من هذا الإطار، تسعى هذه المقالة إلى تقديم قراءة تحليلية تستعرض خريطة التوتر في منطقة الساحل، وتُفكّك بنية الصراع القائم، وتحلل دوافع الحركات الإرهابية وعلى رأسها جبهة ماسينا، ثم تطرح تساؤلات جوهرية عن الدور الممكن لموريتانيا:
هل يمكنها أن تكون وسيطًا للحوار المالي–المالي؟
وهل نقاشات الرئيس المالي عصيمي غويتا مع نظيره الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني تفتح أفقًا لحلحلة الأزمة؟
وما هي محددات السياسة الموريتانية في محيط تتقلص فيه المساحات بين التهديد والمبادرة؟
أولًا: خريطة التوتر في الساحل.. من الدولة إلى اللادولة
تعيش منطقة الساحل الإفريقي حالة تحلل متسارع للدولة الوطنية، ترافقه ظواهر ثلاثة مترابطة:
1. ضعف شرعية الأنظمة السياسية بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أطاحت بأنظمة منتخبة (مالي، بوركينا فاسو، النيجر).
2. انسحاب القوة الفرنسية (بارخان) وموجة عداء شعبي تجاه التواجد الغربي، فتُرك فراغ أمني استراتيجي استغلته الجماعات المتطرفة.
3. تدويل الصراع بفعل دخول روسيا (عبر فاغنر) وتزايد الرهانات التركية والقطرية والإماراتية، ما خلق مشهدًا معقدًا من التنافس الإقليمي.
وهنا يبرز ما نبّه إليه الأستاذ إسماعيل بدقة: أن الصراع ليس فقط بين الجيوش والجماعات المتطرفة، بل هو صراع على الشرعية، وعلى هوية الدولة، وعلى من يحتكر العنف المشروع.
ثانيًا: جبهة ماسينا… التمرد العرقي في ثوب عقائدي
تُعد “جبهة ماسينا” نموذجًا للتداخل بين الهوية العرقية والدافع الأيديولوجي.
فهي امتداد عرقي–سياسي للطوارق والفلان، تغذيها مظلومية تاريخية، لكنها تتغلف بلغة الجهاد.
وهنا يكمن الخطر:
الجبهة لا تسعى فقط إلى ضرب الدولة المالية، بل تُروّج لرواية بديلة للشرعية، عبر إعادة إنتاج “إمبراطورية الفولان” التي ترى نفسها ضحية التهميش في المنظومة الحاكمة.
جبهة ماسينا تقاتل بوعي جغرافي يشمل مالي، والنيجر، وبوركينا، وشمال بنين، وجنوب موريتانيا.
وما يحصّن موريتانيا حتى الآن ليس غياب التهديد، بل يقظة المؤسسة الأمنية، وصلابة النسيج القبلي، ورصانة القيادة السياسية، وخاصة في عهد الرئيس غزواني، الذي حافظ على الحياد الإيجابي وأدار الملف بكثير من النضج.
ثالثًا: موريتانيا… الاستثناء الحذر في خضم الإعصار
موريتانيا اليوم تُقدّم نموذجًا فريدًا من الاستقرار في وسط مضطرب.
لكن هذا الاستقرار ليس دائمًا إن لم يُعاد تموضعه استراتيجيًا.
كيف؟
1. يجب الانتقال من سياسة رد الفعل إلى مبادرة استباقية.
2. الاستثمار في العلاقات الثنائية مع الدول المجاورة لتكون نواكشوط مركز توازن إقليمي، لا مجرد منطقة عازلة.
3. تعزيز “الردع الاجتماعي” عبر دعم الوسطاء التقليديين (العلماء، الزوايا، الوجهاء) لمنع تسرب الخطاب الجهادي.
وقد أشار الأستاذ إسماعيل إلى ذلك بذكاء، حين قال إن “استقرار موريتانيا ليس فقط وظيفة أمن، بل نتيجة تماسك اجتماعي وقيادة سياسية عاقلة لم تُغامر في مغامرات إقليمية”.
رابعًا: أي دور لموريتانيا في الأزمة المالية؟ الوساطة أم التحصين؟
بعد لقاءات الرئيسين غزواني وغويتا، يُطرح سؤال مهم:
هل تملك موريتانيا قدرة على رعاية حوار مالي–مالي شامل؟
وهل يمكنها أن تكون الوسيط النزيه الذي يجمع الفاعلين المتنازعين في باماكو تحت مظلة واحدة؟
المقومات متوفرة:
• الثقة الإقليمية في القيادة الموريتانية.
• الحياد الإيجابي الذي حافظت عليه موريتانيا طيلة الصراع.
• الخبرة الأمنية والدبلوماسية في ملف الساحل.
لكن التحدي الأكبر هو أن لا تنزلق موريتانيا إلى دور “الضامن الأمني الوحيد” في المنطقة، دون شراكة واضحة من الدول الكبرى والاتحاد الإفريقي.
إنّ ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة في مالي أو الساحل، بل تحول استراتيجي في قواعد أمن المنطقة.
ولعلّ من مكاسب هذا الوضع، أنه يضع موريتانيا أمام فرصة للانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الفعل والتأثير.
ما قدّمه الأستاذ إسماعيل ولد الشيخ سيديا من تحليلٍ راقٍ، هو بمثابة جرس إنذار ونقطة بداية لرؤية وطنية يجب أن تُطوّر عبر مؤسسات الدولة، ومراكز الفكر، ونخب التحليل الاستراتيجي.