أي مستقبل للتدوين في ظل استقالة النخب وسيطرة التفاهة؟/د.محمدعالي الهاشمي

يعد السؤال المطروح في صلب قضايا العصر الرقمي، إذ إنه يلامس التحولات العميقة التي يشهدها مجال التدوين، ليس فقط في موريتانيا، بل على مستوى العالم العربي والدولي. فهو يجمع بين بُعدين أساسيين: الأول هو استقالة النخب، أي انسحاب المفكرين، الأكاديميين، والفاعلين الثقافيين من ساحة التدوين، والثاني هو هيمنة التفاهة، أي صعود محتوى سطحي يعتمد على الإثارة بدلًا من القيمة المعرفية.

هذا السؤال يتجاوز كونه استفسارًا عابرًا، بل يعكس أزمة مركبة تتعلق بمستقبل النقاش العام، ومدى قدرة التدوين على الاستمرار كأداة للتنوير وصناعة الوعي، أو سقوطه في مستنقع الابتذال. فهل ما زال للتدوين دور في تشكيل الرأي العام؟ وما العوامل التي أدت إلى هيمنة التفاهة؟ وكيف أثرت استقالة النخب على هذا الواقع؟ والأهم، هل هناك إمكانية لاستعادة الدور التنويري للتدوين في موريتانيا؟

أولًا: التدوين في موريتانيا – من عصر الذروة إلى الانحدار

1. التدوين كمساحة حرة في بداياته

شهدت موريتانيا خلال العقدين الماضيين نهضة تدوينية ملحوظة، خاصة مع ظهور منصات التواصل الاجتماعي التي أتاحت للأفراد إمكانية التعبير بحرية خارج القيود التقليدية للإعلام الرسمي. وقد لعب المدونون دورًا بارزًا في إثارة قضايا حساسة، مثل الفساد، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية، والشأن السياسي، مما جعل التدوين أداة قوية للتغيير وكشف المستور.

2. التدوين كأداة للتأثير السياسي والاجتماعي

مع تطور المشهد الرقمي، أصبح التدوين أحد أهم الوسائل التي يعتمد عليها المواطنون لمتابعة الأحداث والتفاعل معها، لا سيما في ظل ضعف الإعلام التقليدي. وقد ساهم المدونون في تشكيل الوعي السياسي، وأصبح لبعضهم نفوذ واسع داخل الأوساط الشبابية، بل إن بعضهم تحولوا لاحقًا إلى شخصيات سياسية وإعلامية بارزة.

3. التحول نحو التفاهة والتراجع القيمي

لكن مع مرور الوقت، بدأت الظاهرة تتجه نحو مسار مغاير، حيث تراجع دور التدوين الجاد، وحلّت محله موجة من المحتوى السطحي الذي يركز على الإثارة، الهجوم الشخصي، ونشر الشائعات. كما أصبح الربح السريع والشهرة هدفًا لكثير من المدونين، على حساب جودة النقاش.

ثانيًا: استقالة النخب – الأسباب والتداعيات

1. أسباب استقالة النخب من ساحة التدوين

انسحاب النخب من المشهد التدويني لم يكن مجرد صدفة، بل جاء نتيجة لعدة عوامل، أبرزها:
• تنامي خطاب الكراهية والتشهير: أصبحت بيئة التدوين مسمومة، حيث تُستخدم المنصات الرقمية لتصفية الحسابات الشخصية، مما جعل العديد من المثقفين يفضلون الابتعاد عن هذه الفوضى.
• هيمنة الشعبوية والتفاعل العاطفي: لاحظت النخب أن المحتوى الذي يلقى رواجًا هو المحتوى السطحي، بينما المحتوى الجاد لا يلقى تفاعلًا كافيًا، مما أدى إلى إحباطهم.
• التوظيف السياسي للتدوين: تحولت التدوينات إلى أدوات في أيدي جهات سياسية تستخدم بعض المدونين للترويج لأجنداتها، مما أفقد التدوين استقلاليته.
• الابتعاد عن الفوضى الرقمية: يشعر الكثير من الأكاديميين والمثقفين أن وسائل الإعلام التقليدية أو المؤتمرات أكثر ملاءمة لنقاشاتهم من الفضاء الرقمي غير المنضبط.

2. تداعيات غياب النخب عن المشهد التدويني
• ضعف المحتوى النقدي والتحليلي: أدى غياب النخب إلى تراجع مستوى النقاشات الجادة، حيث لم يعد هناك من يطرح أفكارًا عميقة حول القضايا الكبرى.
• استفحال الأخبار الزائفة: مع غياب المدونين الموثوقين، أصبح من السهل انتشار الشائعات دون تدقيق أو مساءلة.
• تفريغ التدوين من دوره التنويري: لم يعد التدوين وسيلة لتشكيل الوعي، بل تحول إلى وسيلة للترفيه والاستهلاك العابر.

ثالثًا: هل يمكن إنقاذ التدوين في موريتانيا؟

1. عودة النخب إلى التدوين – ضرورة أم خيار؟

من أجل إعادة الاعتبار للمحتوى التدويني، يجب على النخب أن تعود إلى الساحة الرقمية، ولو عبر منصات أكثر تخصصًا، مثل المدونات الفكرية، أو من خلال إنشاء مبادرات تدون بشكل جماعي حول قضايا جوهرية.

2. خلق منصات بديلة للمحتوى الجاد

بدلًا من الاعتماد فقط على منصات التواصل الاجتماعي الخاضعة للخوارزميات التجارية، يمكن إنشاء مواقع تدوينية مستقلة تهتم بالمحتوى التحليلي، بحيث يجد أصحاب الفكر فضاءً ملائمًا للنقاش.

3. تعزيز الوعي الرقمي لدى الجمهور

يجب إطلاق حملات توعية لمستخدمي الإنترنت حول كيفية التمييز بين المحتوى الهادف والمحتوى المضلل، وتحفيزهم على دعم المحتوى الجاد من خلال التفاعل والنشر.

4. دعم التدوين المسؤول عبر مؤسسات المجتمع المدني

يمكن لمنظمات المجتمع المدني والإعلام المستقل لعب دور في تشجيع التدوين الجاد، عبر تنظيم مسابقات تدوينية، أو توفير تدريبات للمدونين الشباب حول أسس الكتابة المسؤولة.

5. فرض ضوابط أخلاقية دون المساس بحرية التعبير

في ظل غياب قوانين منظمة للمحتوى الرقمي، من الضروري إيجاد ميثاق شرف أخلاقي يتبناه المدونون أنفسهم، بحيث يتم الالتزام بالموضوعية والابتعاد عن خطاب التحريض والتضليل.

خاتمة: التدوين بين التحول والانحدار

إن مستقبل التدوين في موريتانيا لا يزال غير محسوم، فهو في مفترق طرق بين أن يستعيد دوره كمنبر للنقاش الحر والمسؤول، أو أن يغرق في دوامة التفاهة. فغياب النخب الفكرية جعل المشهد الرقمي عرضة للابتذال، لكن ذلك لا يعني أن الأمل قد انتهى. بل إن المرحلة الحالية تتطلب مبادرات جادة تعيد التوازن للمشهد، عبر تشجيع المحتوى الجاد، وتحفيز المدونين ذوي القيمة الفكرية على العودة إلى الساحة.

لا يمكن إنكار أن الجمهور نفسه يتحمل جزءًا من المسؤولية، فطالما أن المحتوى التافه يلقى رواجًا، فإنه سيظل مسيطرًا. لذا فإن الحل لا يكمن فقط في عودة النخب، بل أيضًا في إعادة تشكيل ثقافة المتلقي، بحيث يصبح أكثر وعيًا وانتقائية تجاه ما يستهلكه من محتوى رقمي.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستنهض النخب لاستعادة مكانتها في التدوين، أم ستبقى الساحة فارغة أمام موجة التفاهة؟ الزمن وحده سيحدد الإجابة.