“الحرطنة” ليست الحل والهوية ليست هي المشكلة / الدكتور. محمد ولد الراظي

يتجدد الحديث هذه الأيام عن هوية الحراطين أو مجموعة الأرقاء السابقين في مجتمع البيظان، هل هم من العرب أم من العجم وما علاقتهم بحاضنتهم اللغوية والثقافية وذهب البعض للحديث أنهم يشكلون هوية قومية منفصلة عن البيظان !!!!

تتشكل مجموعة الحراطين من أقوام جمع بينهم أنهم عاشوا في الماضي عبودية مقيتة ، تعددت مناشئ هذه العبودية وتنوعت أسبابها وتفاوتت حدة بشاعاتها من منطقة لأخرى ومن زمن لآخر لكنها رغم هذا التفاوت تظل ظاهرة بشعة في أي مكان وبشعة في كل زمان….
اليوم لم تعد موجودة كممارسة بالشكل الذي كانت عليه لكن آثارها ما تزال قائمة لا تخطئها العين في المدن وتكاد تكون غالبة في الأرياف.
ليست مجموعة “الحراطين” وحدها من عاش العبودية بل عاشتها مجموعات أخرى في البولار والسوانك والولوف وتختلف العبودية في مجتمع البيظان أنها تقتصر على الأحياء فلا مقابر للعبيد ولا أخرى للسادة ولكن الحديث ينصب حولها وحدها ويراد منها أن تكون عنوانا لتقسيم البيظان لصالح هوية جديدة يسمونها “الزنوجة”
إن ربط الزنوجة “La négritude” بالحرطنة استغباء كبير فالزنوجة خطاب نشأ لمحاربة الإستعمار ويدعو الدول المغلوبة والشعوب المستعمرة لإدراك وحدة المصير في مواجهته فكان من الصدفة أن الإستعمار كله أبيض وغالبية الشعوب المستعمرة سود وقادة الحراك سود فتصور البعض أن Aimé Cesaire ورفاقه يدعون لهوية جامعة للسود والواقع أنها ردة فعل سياسية على غطرسة المستعمر الأبيض وسعيه لتذويب الثقافات المحلية التي لا يجمع بين أقوامها السود سوى أنها تعرضت للظلم ونهب الخيرات و دوس الكرامة وتجارة الرقيق ومثلثها المشؤوم وقوانين “كولبير” Colbert……..وقد عرفها Aimé Cesaire نفسه أنها دعوة لمواجهة “نفي نفي الأسود ”
“La négation de la négation du noir”

أما الزنوجة في الخطاب السياسي الموريتاني اليوم فَيُراد لها أن تكون وعاء انتروبولجيا تندمج فيه أمم مختلفة لغاتها وثقافاتها وعاداتها ، بولار وسوانك وولف، لا يجمع بينها سوى لون البشرة ثم يتم إسناد هذا الخطاب ودعمه بمجهود في الإتجاه المعاكس عنوانه المعلن محاربة العبودية وجوهره تفكيك مجتمع البيظان بين المستعبَدين السابقين والمستعبِدين السابقين رغم أن كل شيئ يجمعهم ؛ اللغة والثقافة والتاريخ المشترك ولا يفرق بين الجماعتين سوى لون البشرة وفي حالات كثيرة تشتركانه وبعد تفكيك هذا المكون تتهيأ الظروف لخلق أمة جامعة لأمم قبلها لا يجمع بينها قاسم واحد من محددات بناء الأمم !!!!!!!
فما معنى العرب وما معنى البولار والسوانك والولوف إن لم يكن أن كلهم يجتمع تحت عنوانه الناطقون بلغته ؟
العرب كما البولار والسوانك والولف والترك والفرس وسائر الأمم جماعات تتشكل حول عصب اللغة والثقافة فقد تتعدد الأديان داخل مجموعة قومية واحدة ولكن اللغة لا تتعدد مطلقا ؛ فالأمة هي اللغة واللغة هي حبل الأمة الجامع المانع أما اللون فصفة من صفات الأجسام لا علاقة له باللسان ولا علاقة له بالثقافة و ليس عامل تواصل والأمة رابطة وتمازج وتفاعل لا تكون من دون لسان ولا يحتاج قومها بينهم لترجمان….والهوية باللغة والثقافة وليست بغيرهما والحامض النووي تمرين عبثي قد يحدد علاقة شخص بشخص لكنه لا يحدد علاقة شخص بثقافة فالثقافة ليس لها حامض نووي والعرب أنفسهم خير برهان وأقوى دليل.

غالبية من يُطلق عليه اليوم إسم العرب هم من وَلَدِ إسماعيل لكن نبي الله إسماعيل عليه السلام لم يولد عربيا بل تَعَرَّب بفعل مُساكنة قبائل جُرْهُم ، نطق بلغتهم وحباه الله من طبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم (الجاحظ) ولم يكن أبوه ابراهيم عربيا بل كِلداني سامي ولم تكن أمه “هاجر” عربية بل قبطية جارية لزوج أبيه “سارة” الكلدانية” السامية و”سارة” وزوجها من “أور” بأرض العراق.

لإسماعيل أخ من أبيه يدعى إسحاق نبي هو الآخر عليه السلام ، أمه “سارة” الكلدانية ومن نسل إسحاق ينحدر بنو إسرائيل “العبرانيون” تسموا بهذا الإسم من عبور أبيهم إبراهيم دجلة والفرات قاصدا أرض كنعان واليهود من نسل إسحاق يُعَيِّرون العرب أنهم أبناء الأَمَةِ وأنهم ، وإن جمعهم معهم نسب واحد من أبيهم ، فإنهم يرون أنفسهم الأعْلَوْن لأنهم من “سارة” و العرب من جاريتها “هاجر” وليست “سارة” عندهم بقدر “هاجر”..

في بيت الله العتيق غلبت الثقافة على “الجينيالوجيا” فنشأ عرب من غير عرب ومن هؤلاء العرب الجدد وُلِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذبيحين أبيه عبد الله الهاشمي القرشي وجده إسماعيل بن إبراهيم الكلداني….ولا العرب من قحطان ولا عرب قضاعة ولا غيرهم من عاد وثمود وجُرْهم وجِدِّيس وغيرهم كثير من العرب العاربة قبل إسماعيل ينتقصون من عروبة وَلَدِ عدنان في أم القرى ومن حولها…..

ولما جاء الإسلام حسم رسول الله صلى الله عليه الجدل حول مفهوم العروبة فقال: “ليست العربية بأحدكم من أب ولا أمٍّ وإنما هي اللسان …..فمن تكلم العربية فهو عربي….” فأين تكون مجموعة لحراطين من هذا التعريف النبوي للأمة !!!

وكما هو حال العروبة فا”البَوْلًرَة” انتماء للغة البولار وثقافتهم و”السَّوْنَكة” هوية لمن ينطق بالسونكية ويأخذ بثقافة السوانك وداخل كل قوم موازين قوى وعلاقات انتاج وغالب ومغلوب ، متغيرات تتغير على وقع حركة الزمان وديناميكية الترحال من مكان لمكان وفي كل مجتمع ظلم كثير متفاوت ، منه وحيد الأنجم وفيه منها المثنى و الثلاث و الرباع و الخماس وليست المظالم داخل مجتمع البيظان يقينا من مظالم خمسة نجوم مقارنة بالآخرين……فلماذا يراد أن يكون الظلم التاريخي داخل مجتمع البيظان مبررا لإنتاج هوية ل”الحراطين” متميزة ومنفصلة ولا يكون الحال نفسه لأرقاء البولار عن البولار ولأرقام السوانك عن السوانك والرق فيهم أبشع وأقسى !!!!

الاسترقاق يكون بغلبة أحد على أحد أو قوم على قوم والغلبة تكون بالقهر وتكون بالدٌَيْن وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من “…….غلبة الدين وقهر الرجال” والعبودية كسائر الظواهر المجتمعية تورثها أجيال لأجيال لكنها ليست قدرا مقدورا على جماعة بعينها ولا هي عنوان لبشرة بذاتها ولا هي خاصية مجتمع عن مجتمع ولا أرض عن أرض ولا تدوم أبد الدهر لأن أسبابها متغيرة والنتائج تدور مع الأسباب…..

لازمت ظاهرة الإسترقاق الإنسان منذ نشأ ومنذ بدأ حياة المدينة وبدأ يتقاسم العمل مع الآخر فتشابكت مصالح الناس وتكامل نشاط البشر وتعزز الترابط الوجودي بين سكان المدينة ، هذا يعمل بالحقل وذاك بالواحة وآخر في الصناعة وثالث في تربية المواشي وآخر في السلاح وآخر في الكتاتيب …..

نتج عن هذا الترابط تبادل بيني ، كل يعرض بضاعة يتخصص فيها ويحتاجها صاحبه فنشأت حاجة الجميع للتبادل فكانت التجارة، لكل بضاعة سعر ولكل عملية تبادل أجل فإن سدد المشتري ثمن البضاعة ساعة إتمام الصفقة تخْلُص العملية وتنتهي وقد يتفق الطرفان على أجل محدد فإن حل الأجل وتبين أن المَدِين عاجز عن سداد الدين الذي عليه يتعين عليه أن يُرْبي فينتج الربا أو أن يعمل خادما للدائن فينشأ الإسترقاق……

للعبودية منشأ آخر كان أيام سيدنا يعقوب عليه السلام فمن سرق يشتغل خادما لمن سرق عليه بقدر قيمة البضاعة المسروقة وقد ذكر القرآن الكريم في هذا الموضوع خبرا…..كان ليوسف عليه السلام عَمَّةُُ تحبه كثيرا ولا تتحمل أن يغيب عنها لحظة فاحتالت حيلة تمنعه من السفر بعيدا عنها فاتفقت معه أن يكيدا كيدا فتعطيه حزام الأنبياء الذي ورثته من أبيها إسحاق ثم تسأل عن حزامها فتجده عنده فتطالب بتطبيق عقوبة السرقة في الديانة اليعقوبية أن تتخذه خادما لها في بيتها أربع سنين فنالت مبتغاها واحتفظت بيوسف معها….

المنشأ الأكبر للإسترقاق في العصور القديمة هو الحروب والإنسان بطبعه أناني جشع وغيور لا يقبل أن يكون بجاره من هو أقوى منه أو أكثر حظا ولا يسلم أحد من أحد ولا تنفع جيرة ولا قرابة ببولوجية ؛ فأول قتل معلوم وقع حين تقَبَّل الله قربان “هابيل” ولم يتقبل قربان أخيه الأكبر “قابيل” فاغتاظ قابيل وقتل أخاه هابيل والإثان أول مولودين لآدم وحواء….

لا تنشأ الحروب إلا بسبب المصالح ، المحافظة عليها وحمايتها أو الإستزادة منها والتوسع فيها وأي حرب تنتهي بمنتصر ومهزوم والهزيمة عادة ما تنتهي بأسر الكثير من جند الطرف المغلوب ومصير هؤلاء العمل في الحقول أو خدمة معابد الطرف الغالب وقد يكون من بين هؤلاء الأسرى قادة في الجيش المهزوم وبعض من صفوة فرسانه.

وحين يكثر الأسرى ويزيد المعروض منهم عن حاجة الطرف الغالب يبدأ في البحث عمن له فيهم حاجة فيبيعهم فكانت البداية لتجارة الرقيق….

لم تسلم أمة من هذه الممارسة البشعة وعاشها البيض والسود على حد سواء والقول إنها تخص ذوي البشرة السوداء حصرا إنما يراد منه أن تكون “الزنوجة” والعبودية و”الحرطنة” عناوين لمعنى واحد…….

انتشرت العبودية أولا في حوض البحر الأبيض المتوسط داخل بيئة أوروبية، العبد فيها وسيده كلاهما أبيض…

دارت في القرون الوسطى حروب طاحنة بين الطوائف المسيحية في أوروبا وكانت منطقة “أسكلافلوني” “esclavonie” الواقعة حاليا في كرواتيا هي النقطة التي يَعرض فيها الكاثوليك من يقع في قبضتهم من الأسرى “السلاف” الأرتودوكس فاشتق الإسم من المنطقة وأطلقوا على الأسير المعروض للبيع esclave نسبة لمنطقة esclavonie …..

حارب الإسلام العبودية بتجفيف منابع الإسترقاق أولا ثم في تخليص الأرقاء الذين سبقوه فجعل من تحرير الرقاب كفارات للكثير من الذنوب ورغب بالأجر والثواب من أعتق رقبة ومن لم يحرر الرقاب ألزمه بقيود صارمة تنظم تعامله معهم فأصبح العبد كلفة على سيده لا يعامله بأقل مما يعامل به ذريته فانتفت الحاجة لهم ففتح ذلك بابا واسعا للخروج من العبودية…..ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعبد أحدا بل تبنى مولاه زيد بن حارثة حتى صار الناس يدعونه زيد بن محمد ثم رده لآبائه حين جاءه الوحي أن ادعوهم لآبائهم…..

إن واقع “لحراطين” واقع اجتماعي وإرث مجتمعي تراكمي قاس و مؤلم لكنه لا يجد من يهتم بالأسباب التي أدت إليه بل ينشغل من يتناوله بخطاب عاطفي تعبوي الغرض منه أن يلبي حاجة لَحظية فَيَنفُذُ لمكامن المرارات النفسية فيُحْدث صدى سريعا في قلوب شباب يئن تحت وطأة الفقر والجوع والحرمان واليأس ، لا يهتدي لمعرفة الأسباب التي أوصلته لحاله ولا يجد من يهديه لسبل معرفة هذه الأسباب التي وجد نفسه يئن تحت آثارها وزاد من وضعه السيئ ما راكمته تجارب الحكم الفاشلة منذ العاشر يوليو….

في الظروف العادية لا أحدا من هؤلاء السياسيين يهتم بمعاناة الحراطين ولا أحدا منهم يبحث عن أسبابها ولا عن تلمس طرق لحلها ولكن حين يقترب موعد انتخابي يتدافعون في زحام شديد أيهم يسبق الآخر في تبني واقع لحراطين والفوز بأصوات شباب تائه عاطل عن العمل لا مُعين له ولا مرشد ولا يهم أحدا إلا حين تكون له حاجة في صوته………

يعلم هؤلاء السياسيون أن سوء أحوال الناس ينتج اليأس وحين يستحكم اليأس في النفوس تصبح قابلية التلقي أكثر سلبية ويفقد المرء قدرته الذهنية على تأصيل الظواهر في سياقاتها فيبدو له الآخر المختلف عدوا وقد يختزل فيه أسباب كل ما يعانيه فيصبح مغرسا خصبا لأي خطاب ينفصل به عنه وينأى…….فتبين لهم أن مفتاح اختراقهم لمشاعر هذه المجموعات يكون في إحياء مشروع قديم مضت عليه عقود طويلة يهدف تفكيك مجتمع البيظان بين “البَيْظَنة” و”الحَرْطَنة” وتوسيع دائرة الزنوجة وخلق كيان لوني في مواجهة كيان لوني آخر !!!!!

إن من يهتم صادقا بمشكلة الحراطين – وهي مشكلة مجتمعية حقيقية – عليه أن يدرك أنها ليست في البحث عن هوية – فالهوية لا تُمنح ولا تُختار- وإنما حاجتهم في بناء السدود في الأرياف ومجانية التعليم وإلزاميته وإصلاح عقاري شامل تصبح الأراضي الزراعية بموجبه ملكا للدولة توزعها على مستحقيها فتعود الأرض الميتة ملكا لمن يحييها وتجريم عمل الأطفال وتعميم الخدمات الصحية وتثبيت الناس في قراهم وأريافهم وتخفيض أسعار المواد الإستهلاكية وسياسة تشغيل وطنية لا وساطة فيها ولا ظلم وبناء مؤسسات سياسية وهوية وطنية لا تكون بدعا في العالم ولا يكون فيها إقصاء ولا غبن وغير هذا كثير مما يفيد الناس جميعا أبيضهم وأسودهم عربيهم وعجميهم….