تعقيب علي موضوع استقالة النخب المطروح للنقاش في منصة: ملتقي الرأي / الدكتور محمد ولد الراظي عضو قيادة حزب الإصلاح
عن أية نخب نتحدث !!!!!
ومن هو السياسي ومن هو المثقف وما هي الحدود الفاصلة بين هذا وذاك ؟
هل كل من له تحصيل معرفي يصبح مثقفا وهل كل من لديه مخزون انتخابي يصبح ضمن النخب السياسية صانعة ديناميكية البناء المؤسسي للدولة حتي ولو كان لا يفقه شيئا في السياسة ؟
ثم ما المقصود بالإستقالة ؟ ومما؟ وأي دور كان ولم يعد ؟
وما علاقة استقالة الدولة من وظائفها الأساس باستقالة النخب ؟
وهل هناك علاقة سببية بين استقالة الدولة عن أدوارها الأساسية بغض النظر عن التعريفات أكانت دولة “دركية” أو دولة “تدخلية” بانزياح النخب عن أدوارها أم أن هناك علاقة جدلية بين الإثنين ؟
الموضوع متشعب وقد يكون بحاجة لإعادة تأطير في عناوين حصرية فرعية لتمكين المشاركين من تفاعل أكثر منهجية وأكثر انسيابية؟
سأحاول هنا الإدلاء برأيي حول استقالة النخب السياسية ولكن قبل ذلك أود الإشارة إلي أن فرنسا لما قررت الخروج من البلاد تركت بذور فشل الدولة الوطنية وصعوبة بناء الدولة-الأمة من خلال تمييع الهوية وتغييب اللغة الجامعة كخيط ناظم لوحدة الكيان الناشئ.
الفرنسيون يدركون جيدا محورية اللغة في وحدة الأمة وانسجامها ويعرفون كيف كانت اللغة الفرنسية عنوانا لقوة الأمة الفرنسية وكيف سعوا لقرون من أجل ذلك.
لقد أنشأ افرانصو الأول المدرسة المعروفة ب collège de france عام 1530 فقط من أجل توحيد الفرنسيين حول لغة واحدة فكان أن أصبح إقليم Bretagne فرنسيا سنتين بعد ذلك وتلته باقي الأقاليم غير الناطقة بالفرنسية.
فأصبحت الفرنسية لغة تولونه Toulon و ابرست Brest وباقي الأقاليم.
وفي عام 1558 انتزعت فرنسا إقليم Calais من ابريطانيا واشترت عام 1662 منطقة Dunkerque وتوحدت كل الأقاليم حول اللغة الفرنسية.
بعيد الثورة الفرنسية ظهر اتجاهان سياسيان أحدهما اليعاقبة Jacobins ( نسبة الي جماعة سياسية اتخذت من دير اليعاقبة مقرا لها) ينادي ببناء الدولة-الأمة المركزية ويريد مواصلة ما أقره الملوك السابقون والساسة أيضا والمثقفون والفلاسفة الفرنسيون.
أما الثاني فعرف بالجيرونديين (Girondins) نسبة الي نواب إقليم Gironde الذي كان مطلبه الأساس أن يحظي بنفس المكانة التي تحظي بها باريس العاصمة ولم يعمر طويلا لأنه كان تعبيرا عن نزعة محلية أكثر منه رأيا سياسيا قابلا للتسويق.
حال فرنسا هي حال الدول الأوروبية الأخري وخاصة الدول الفاعلة في توجيه القاطرة الأوروبية ولذلك ظلت الأمة هي محور الدولة وعنوانها المميز.
لم تتحدث الدول الأوروبية عن عصبة الدول وإنما شكلت عصبة الأمم وعندما حست بالحاجة لهيأة بديلة أنشأت الأمم المتحدة ولم تنشئ الدول المتحدة ولكنها حين بدأت تنسحب من مستعمراتها تركت دولا لا أمما وتركت داخل تلك الدول مكامن التشرذم والضياع وخاصة حينما خلقت إشكال اللغة التي ظلت الخيط الناظم لكل استقرار .
فرنسا لما همت بمغادرة بلادنا نشطت في التحضير لبناء دولة موريتانية لا أمة موريتانية وبالتالي تركت حدودا وشعبا ومؤسسات جهدت كثيرا في محاولة تطويعها ترغيبا وترهيبا.
وحرمت الدولة المراد إنشاؤها من أهم أركان الأمة: اللغة الجامعة.
إثر ذلك ظهرت ردات فعل من بعض السياسيين الذين في غالبيتهم كانوا ضمن “محور الشر” ساعتها: النائب حرمه ببانه وهو المغضوب عليه فرنسيا.
ولأنه لا يوجد أي تراكم تاريخي في إدارة الدولة والمؤسسات إذ آخر عهد لهذا الشعب بالدولة المركزية كان دولة المرابطين قبل مجيء الإحتلال الفرنسي فليس من المبالغة القول إنه لم تكن هناك نخب سياسية قادرة علي تفعيل مركزية اللغة في الإدارة والتعليم.
منذ أحداث 66 وما سبقها في مؤتمر ألاق وتعميمي وزارة التعليم 65 بدأت مظاهر فشل الدولة الوطنية وتجلي حجم المصاعب التي تواجه الدولة-الأمة.
ومنذ ذلك الحين ظل النظام المدني يتأرجح ولا يخرج من مشكلة إلا واجه أخري حتي جاء العسكر.
ولأن العسكري كما يقال لا يفكر إلا ببندقيته فقد خرجت الدولة من عباءة سلطة مدنية تعيش مشاكل داخلية وتواجه صعوبات إقليمية ودولية لتسقط في يد عسكر يتناسخون من بعضهم البعض ولا يحمل أي منهم مشروعا سياسيا مما جعلهم عرضة لتكالب القوي السياسية الناشئة التي تسعي للفوز بالسلطة بسرعة ودون كلفة كبيرة.
وكان العسكر أيضا بحاجة لمن يملك رأيا يكون لهم بوصلة ويساعدهم في ترسيخ معادلة البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة ولا يهمهم بعد ذلك ما سيكون.
التطور الكبير والخطير كان التعددية السياسية التي يبدو أنها عاجلت المجتمع ولم يكن مهيأ لها فأصبحت الأنظمة بحاجة لأصوات انتخابية تشرع بها وجودها وأصبح كل من لديه جمع من الأصوات يملك ورقة تفاوضية يساوم بها في سوق العرض والطلب الرسمي.
تاهت النخب السياسية في سباق محموم لنيل أكبر قدر من الامتيازات وتحولت الدولة إلي مؤسسة لشراء الولاءات بكل أشكالها ومختلف صنوفها.
انحرفت الدولة عن مهامها ففشل المشروع الوطني وانهارت المدرسة وخارت المنظومة الصحية وتدهور الإقتصاد…….بكلمة واحدة أفلسفت الدولة ومعها النخب السياسية.
تفاقمت حدة الخطابات الإنفصالية ذات الطابع الإتني وزادتها حدة أحداث 89 وما تبعها ثم ظهر الخطاب الشرائحي بقوة و معه الخطاب القبلي والجهوي الذي كاد يغيب عن المشهد تماما أيام النظام المدني……أصبح المواطن لا يشعر بالأمن إلا من خلال عشيرته أو قومه أو شريحته…..قد يرضخ للسلطة خوفا لكنه لن يخدم الدولة خدمة مواطن لوطنه لأنه ببساطة لا يشعر بمنة لها عليه.
ومن أكبر تجليات فشل النخب السياسية معارضة وموالاة غياب الهم الوطني من كل الخرجات الإعلامية للأحزاب السياسية.
فلا أحد يشير لغلاء الأسعار ولا آخر يصدر بيانا حول ضعف نسبة النجاح في البكالوريا ولا تدني مستوى الخدمات الصحية ولا ارتفاع حجم البطالة….ولكن حين تلوح في الأفق استحقاقات انتخابية فإذا بالجميع يوصل الليل بالنهار في بحث إمكانية تحسين فرص ولوج البرلمان أو المجالس البلدية أملا في إمكانية فوز فلان أو علان …ثم تراهم يصرون علي التناوب علي السلطة في حين يتشبث كل واحد منهم بموقعه الحزبي بذرائع شتي……
المصلحة الشخصية ومن ورائها الحزبية هي بوصلة العمل السياسي للنخب الوطنية وما لم يتم تفعيل دور الدولة المركزية التدخلية علي الأقل في ميادين الصحة والتعليم والتوظيف فلسنا في وارد التفاؤل الكبير لتغيير الحال.
مشكلة هذه البلاد في من يتصدر المشهد السياسي فيها موالاة ومعارضة بالأمس واليوم…….