المسلمون بين عقيدة التوريث وتفعيل العقل في الموروث / الدكتور محمد ولد الراظي عضو قيادة حزب الإصلاح مكلف بالتوجيه الفكري والتكوين السياسي
لا يزال الحديث يتجدد حول هذا اليوم العظيم يوم ولد رسول الله صلي الله عليه وسلم أيكون عيدا أم لا يكون وهو جدل غاية في الغرابة…..ولكنه قد يكون مفيدا لأنه يعيد للواجهة موضوعا مهما وجوهريا بالنسبة للإسلام والمسلمين : ضرورة تفعيل العقل لتنقيح الكثير من التراث الفقهي للمسلمين وتصنيفه والفصل بين ما هو عقيدة لا تقبل الإجتهاد ولا الخلاف وبين ما هو موروث فقهي تراكمي لو لم يكن موضع خلاف في الماضي ما كان المسلمون ليكونوا طرقا وطوائف…..
لم يذكر القرآن الكريم كلمة عيد في تتبع مسار سيدنا إبراهيم وإنما ذكر مسالك وعتبات أصبحت لاحقا مناسك حج لملة ابراهيم جميعا …..زادها بعضهم وحرفها آخرون ولكن جميعهم أجمعوا علي وجوبها وحتي مشركو قريش ووثنيو العرب…….
الفعل حصل يقينا لأن القرآن الكريم جاء به تفصيلا لكنه لم يذكر هوية الذبيح مما جعل اليهود يقولون إنه نبيهم إسحاق أبو إسرائيل ويحتفلون بهذا اليوم من كل سنة ويطلقون عليه إسم “رأس هيشا” أي رأس الشهر …… أما نحن فالراجح عندنا أنه إسماعيل عليه السلام ومن استطاع منا القيام برحلة العمر هذه سيتتبع خطوات نبي الله وخليله ابراهيم وولده إسماعيل وأمه هاجر ولم تكن المظاهر الإحتفالية يوما شرطا لكمال الحج…
ولم يذكر القرآن الكريم كلمة عيد في وصف يوم الفطر …..ولكن المسلمين يحتفلون به ويفرحون فيه وكل تلك المظاهر الإحتفالية كما هو الحال في عيد الأضحي لم يقل بها القرآن الكريم وإنما هي عادة لا ضرر فيها تعود الناس عليها وسارت بها الأجيال من جيل لجيل..
صام موسي عليه السلام يوم العاشر من محرم شكرا لله علي نجاته وغرق فرعون وصحبه…..فقال بعضنا بصوم هذا اليوم إسوة بموسي عليه السلام فكان عاشوراء….والخلاف قائم بين المسلمين حول الموضوع
ونصوم يوم السابع والعشرين من رجب لأنه يوافق يوم الإسراء بسيد خلق الله….والخلاف قائم بين المسلمين حول هذا الموضوع أيضا ….والصوم كله خير.
فما الضرر إذن في استحضار وتعظيم يوم ولد صلي الله عليه وسلم ولماذا يصل التعصب للرأي درجة تأثيم المخالف ؟
كثرت الفتاوي واختلفت وتعددت الأسانيد وتنوعت فهذا يرجع لسند مات صاحبه منذ عشرة قرون أو أكثر وذاك لآخر مات بعد ذلك بقليل أوكثير ولكن للأسف الكل يقلد ولا يجتهد وكأنه يفكر بعقل من مضي ويحرم علي نفسه أن يحذو حذوه في التفكير لنفسه في ما يعيش في زمانه ومكانه….
كما أن بعض أهل الفتيا يتناسون ما قد قال به ثقات من الأولين وأخرون من الآخرين:
فهذا جلال الدين السيوطي يقول : “عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف”
وهذا محمد متولي الشعراوي من المتأخرين ومن كبار الفقهاء يقول في نفس الموضوع : “وإكرامًا لهذا المولد الكريم فإنه يحق لنا أن نظهر معالم الفرح والابتهاج بهذه الذكرى الحبيبة لقلوبنا كل عام وذلك بالاحتفال بها من وقتها”.
ثم إن صح أن الفاطميين هم أول من احتفل به – مع أن في ذلك بعض الشك- فإن الفاطميين هم من شيد الأزهر الشريف قبلة المعارف للكثير من أهل السنة بالأمس واليوم……وأيهما أصوب الفاطميون الذين احتفلوا بعيد المولد النبوي الشريف أم المماليك الذين قتلوا العقل وأغلقوا باب الإجتهاد في الأمة عندما حصروا المذاهب في الأربعة المعروفة ؟! وأي الطرفين أقوي سندا شرعيا في ما أقدم عليه ؟ ولماذا نقبل بقرار بيبرس المملوكي كما لو كان وحيا منزلا رغم ما يحمل من أضرار بالغة علي الإسلام والمسلمين ونرفض قرار الفاطميين الذي لا ضرر فيه للإسلام ولا للمسلمين و مزاياه كثيرة ؟!
يذكرني مواقف بعض فقهاء الأمة بقصة علماء الحجاز مع ظهور السيارة لأول مرة حين أفتوا بحرمة ركوبها بحجة أنها ليست ضمن وسائل النقل التي ذكر القرآن الكريم “والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون …..”
لكنهم حين أدركوا مزاياها قالوا إن ركوبها يجوز للحالة الطارئة كالمرض وغيره وتوالت الإستدراكات إلي أن قالوا إنها قد تكون ضمن “ويخلق ما لا تعلمون ” إلي أن أصبحت كل السيارات تدخل البلاد أسابيع قليلة بعد خروجها من المصانع …….ثم إن نفس العلماء أفتوا بتحريم سياقة السيارات علي المرأة ثم تراجعوا لا لسبب معلوم ولا لآخر مفهوم سوي أن الفتيا الأصلية مهتزة الأركان وما اهتزت أركانه لا يصمد طويلا…….
يقولون إن هذا الإحتفال لم يكن في عهده صلي الله عليه وسلم ولا في عهد صحابته رضي الله عنهم وهو ما يكفي لرفضه بل وتأثيم الإحتفال به وأنه كان بعد القرون الأربعة الأولي وهذا صحيح لكن إذا كان الذين قالوا به لم يكونوا في عهده صلي الله عليه وسلم فإن الذين لم يذكروه لم يكونوا أيضا في عهده صلي الله عليه وسلم ولا توجد إمكانية للفصل بين الفريقين لأن لا بابوية في الإسلام تمتلك القول الفصل حين يكون خلاف في الإجتهاد……هناك أزمة عقل حقيقية…..
من غير الملائم أن نصف بالآثم كل من خالف رأيا لنا أو كل من لم يأخذ بالمنقولات التي اعتمدنا ومن غير المقبول أن نقلد في كل شيئ وأن لا نحكم عقولنا في أمور الحياة وفي قراءة المنقول من تراثنا الديني…….
لو اكتفت الأمة بما رآه أبو حنيفة ما كان مالك ولو اكتفت بما رآه مالك ما كان الشافعي ولو اكتفت بما قاله الشافعي ما كان أحمد ولولا المماليك ما اقتصرت الإمامة علي هؤلاء الأربعة …..نحن بحاجة لإعادة قراءة وتنقيح المتون الفقهية وتفعيل العقل لصقل موروثنا الفقهي من الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تراكمت وورثتها أجيال من المسلمين كمسلمات مقدسة في حين أنها ليست سوي اجتهادات من بشر يخطئون ويصيبون….