لحدث العظيم/ د. خضير المرشدي

بودّي ان أصف يوم التاسع من نيسان بيوم الحدث العظيم، من حيث إنه ليس مجرد إحتلال لإزالة نظام والمجيء بنظام بديل، وليس من أجل الهيمنة على النفط والثروات، وليس من أجل مصلحة إسرائيل وضمان أمنها كما يقال (فقد يكون هذا كله، نتائج مؤكدة لمثل هذا الحدث العظيم)، لكن القراءة العميقة لمثل هذا الحدث الفاصل في التاريخ الإنساني واجبة ولازمة وقد حان وقتها، بعد إن تبيّنت حقائق مرة عبر هذه السنين التي اقتربت من العقدين. أقول إنه الحدث العظيم لأنه إستهدف أعز وأخطر مايملكه الانسان، ذلك هو تغيير الوعي لدى الانسان العربي، وتهديم مفهوم الادراك والاستيعاب، من حيث إن قضية الوعي والإدراك تتأتى من كونه نتاج عمليات ذهنية وشعورية تتفاعل فيما بينهما بصورة معقدة لإنتاج الوعي، فالتعليم والدراسة والشهادات الدنيا والعليا، لاتنفرد بتشكل الوعي وليس هي العامل الاساس في ذلك، فهناك درجة الذكاء والحدس والتخمين والخيال والاحاسيس والمشاعر والإرادة والضمير، وهناك المباديء والاخلاق والقيم والفطرة وتجارب الحياة وظروف النشأة والنظم الاجتماعية ومنابع الفكر والمعرفة التي نشأ عليها الانسان العربي وغيرها، هذا الخليط يعمل بطريقة نفسية شديدة التعقيد ويسهم بنسبة أو أخرى بتشكّل الوعي، وهذه النسبة تختلف من شخص لآخر. وبذلك فإن الوعي مختلف بين إنسان وإنسان طبقاً لهذه العناصر التي تعرضت للإنتهاك بسبب الحدث العظيم.

إن هذه المكونات تشكل في مجموعها لدى الفرد ولدى المجتمع مايمكن أن نسمّيه (بالخبرة) التي يستخدمها الانسان في التعرف على الوجود الإجتماعي، ويوظّفها في السلوك والتصرف تجاه مشاكل الحياة، وهذه واحدة من أهم المشاكل التي نتجت عن الحدث العظيم على مستوى الأمة وليس على مستوى العراق فحسب.

وكذلك فعله بتغيير طريقة التفكير وإسلوب الحياة، وأوجد الحدث منبعاً آخر لفكر الانسان العربي وقيمه وأخلاقه بما يجعله مطياعاً لما يريده المخطّطون والمنفذّون لهذا الحدث العظيم!!!

نعم لقد كان حدثاً عظيماً، إحتلال بلاد الرافدين، بمعنى أن خطورته أتت انطلاقاً من كونه قد قتل الانسان الحر والقائد الحر الذي لم ينصاع يوماً لأوامر خارج حدود بلده، ولم يتصرف ضمن الأطر التي رسمها الكبار لمنظومات الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها بما يعبّر عن افكارهم ونماذجهم وطموحاتهم في الهيمنة والتسلط، وعندما أراد أن يرسم طريق حياته الخاص وفق ما متوفر له من امكانات مادية وبشرية وطبيعية قد منّ بها الله على هذا البلد الكبير، وقعت الواقعة.

ولكي لايزعل البعض. فإني لا أنفي وجود الثغرات والنواقص والأخطاء التي ساعدت في حصول هذا الحدث العظيم.

بإختصار شديد إن إحتلال العراق يّعَدْ من أهم وأخطر الضربات الجيوستراتيجية التي هزت اركان المجتمع الدولي بشكل عام والعربي بشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية، وباتت تحتاج لمزيد من التقصي والدراسة والتحليل العميق المبني على الحقائق والبديهيات المتعلقة بأهمية العراق ليس القطر العربي المهم فحسب بل العراق ((الدور والتاريخ والانسان والثروات والموقع والعمق الحضاري، البلد الذي تتقاطع فيه ثقافات وأيديولوجيات وقوميات وأديان وطوائف ومصالح وإرادات كانت وستبقى دافعاً لإستهدافه وغزوه على مر التاريخ)). وأن من يقرأ تاريخ العراق سيكتشف إن هذه الحقائق بسهولة دون عناء، وإن مانقوله ليس تنظيراً.

فحيثما تتوفر القيادة الحرة لشعب مليء بجينات الحضارة، فإنه يحقق النهضة في كل وقت وفي كل حين، ولكنها لسوء الحظ جاءت في زمن أُريدَ له من الكبار أن يكون فيه الجميع عبيد وخدم. وهذا مانراه اليوم في غير مكان من أرض المعمورة.

هناك من المتابعين من يرى أن إحتلال بغداد كان إيذاناً بإنتهاء مفهوم القومية العربية وسقوط فكرة العروبة، لتحل محلها فكرة (المقدس والمقدّسون؟؟؟).

وفكرة (دولة العدل الالهي وولاية الفقيه؟؟؟). وفكرة وكيل الله في الارض؟؟؟) والتي (((تؤمن بها))) وتدافع عنها أحزاب وتيارات ثَبُتَ كذبها وضلالها وفسادها وإبتعادها عن كل ماهو حق وعن كل ما هو مقدس، وخلّوها فكرياً من كل فضيلة وأخلاق، وإبتعادها سلوكياً عن كل مايمت للوطنية والإنسانية من صلة.

تماماً مثلما يرى البعض من المفكرين أيضاً إن سقوط جدار برلين كان إيذاناً بسقوط مفهوم وفكرة الأممية، لتحل محلها انظمة هشة لازالت تعاني من أزمات سياسية وإقتصادية وإجتماعية وأخلاقية معقدة رغم مرور ثلاثة عقود من الزمن.

• إن ما ذكرته ليس الهدف منه الدفاع عن فكرة لذاتها إطلاقاً (رغم إنّ من حقي ومن حق غيري الدفاع عن ما يؤمن ويعتقد)، ولكن ما أسعى إليه هو تسليط الضوء على حقيقة إن يوم التاسع من نيسان هو إيذان ببدء نظام حياتي جديد مخطط له بعناية فائقة بصفاته وعناصره التي إرتكز عليها ونراها اليوم القائمة على التجهيل والافساد والافقار، وهو ليس كما يقول البعض من إنها الفوضى غير المقصودة والمخطط لها بل بالعكس، لإنها بالنتيجة ستقود لتحقيق الهدف البعيد لهذا الحدث العظيم. لذا فإن النظرة الموضوعية وفق هذا المفهوم تقتضي أن لانبقى أسرى الماضي صالحاً كان أم طالحاً، وأن لا نبقى ندور في حلقة اللوم والتقريع لشخص أو مسؤول أو نظام، وأن لانمعن في جلد الذات أو نُنهك أنفُسَنا في البكاء على الأطلال أو النحيب على ماضاع أو العويل على الضحايا الأبرياء، الذين ستزداد أعدادهم حتماً في ظل النموذج الذي صنعه المحتل وصوّره على إنه الحقيقة المطلقة لهذه الأمة.

• ينبغي على المفكرين والعلماء والمثقفين العرب والسياسيين الأحرار أن يتحدّثوا برؤية المستقبل وبإسلوب التفكير العلمي الحر خارج الأطر المألوفة، والتأمل العميق في كيفية الخلاص (كأمة) من كارثة هذا الحدث العظيم وما تلته من أحداث مأساوية في حواضر عربية أخرى، وأن يضعوا بواقعية خارطة العلاقات الدولية الجديدة القائمة على تقاطع المصالح والإرادات بين فئات الشعب المتنوعة ضمن البلد الواحد، وخارطة المصالح الاستراتيجية بين البلدان المختلفة.

• مرة أخرى أودّ ألتأكيد على إن الحدث العظيم في التاسع من نيسان عام 2003، كان ضربة جيوستراتيجية شاملة لمفهوم الامة وفكرة العروبة، فلا بد إذن من ثورة فكرية وثقافية وأخلاقية شاملة تتجدد فيها منظومات الفكر والثقافة والعلوم بما يستوعب تداعيات هذه الضربة، وبما يرسم مستقبل الوطن العربي في ظل نظام عالمي جديد قيد التكوين، يكون للشباب فيه دور الريادة والقيادة، وهي المهمة الأسمى أمام الجيل القديم الذي يجب أن يتجرد عن الذات، وأن يخلق الاجواء خلقاً لجيل الشباب كي يأخذ دوره في تحقيق مشروع التجديد والنهضة.

ولن أحسب إن هذه الرؤية والثورة التجديدية الفكرية والثقافية العربية الشاملة واللازمة ستكون بمنأى عن عبث العابثين من الصغار والكبار معاً، أو أن تسلم من إستهداف المغرضين والمحبطين والمغرضين من الأفراد والدول على حد سواء. لكن الارادة وإلاصرار على رسم معالم طريق النجاح سيسقط هذه المحاولات مهما عظُمَتْ.

• لقد خسرنا دولاً عربية عزيزة، وأعزاء قادة وأفراد، وأكْثَرنا البكاء على ما ضاع!!ً الا يكفينا البكاء؟؟؟

لقد آن الآوان أن نتسامى على الجروح، وأن نرتقي بأرواحنا ونفوسنا وتفكيرنا ونواياك فوق العناوين والمناصب والمسميّات والشكليات والمظاهر الفارغة. فللأسف رغم الكوارث لازال البعض منَّا يعتقد إنه يمتلك الحقيقة لوحده وغيره الى الفناء، ولعمري إن هذا واحد من أسباب البلاء!!!

• ما علينا كعرب في هذا الظرف العصيب إلاّ أن نُسْهم بما نملك من معرفة وخبرة وإمكانات مادية وفكرية ومعنوية في إعداد جيل من الشباب، يعيد للأمة مكانتها بين الأمم في نظام عالمي جديد يتكوّن ولتأخذ مكانها الذي تستحقه في دورة التاريخ.